في تاريخ النضال الوطني اليمني- كما في تاريخ نضال أي شعب تواق إلى الحرية والعدالة- قامت عدة ثورات وحركات وانقلابات لكل منها خلفياتها وأسبابها المختلفة ولكنها تلتقي عند هدف واحد معلن هو التحرر من قيود الاستبداد وجحيم الظلم والظلمة والبحث عن نظام يؤمن بالحرية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات قولاً وفعلاً، وإن اختلفت المصطلحات باختلاف الظروف الموضوعية والتاريخية التي تعطينا دروساً مؤلمة عن كثير ممن مورس الظلم بحقهم ثم سرعان ما نسوا أو تناسوا قبح الظلم وأفعال الظلمة فور وصولهم إلى السلطة ليصبحوا لهم قدوة ويرتفع الأنين منهم إلى عنان السماء، كاشفاً ما كان يعتقده البعض مستوراً ليتبين أن السلطة بالفعل امتحان يكشف حقيقة من يقول ما لا يفعل !.
إن الصراع بين الظالم والمظلوم والمستبد ومن يقع تحت نير الظلم والاستبداد، هو صراع بين الخير والشر وهو- بالنتيجة العامة وإن بدا أزلياً- في كل التأريخ البشري إلا أن تموضعاته وتجلياته وآلية مقاومته تختلف باختلاف وعي المجتمعات المتعددة وثقافاتها ومدى تمسكها بحقوقها وقدرتها على انتزاعها من بين مخالب وأنياب الاستبداد والمستبدين والظلمة مهما كان جبروتها واختلفت أساليبها.
ولأن ثورة المعلومات والاتصالات قد قرّبت المسافات بين بني الإنسان في التحصيل العلمي والحصول على المعلومة بل وألغتها وحدّت من تغول المستبدين ومحاولاتهم الرعناء في حجب نوافذ المعرفة والتضييق على الناس ببناء الجدران والسدود أمام هذا التدفق الهائل للمعلومات، بحيث صار ما يجرى في العالم في متناول يد وعقل أي إنسان في أي لحظة وأي مكان من الكرة الأرضية أو حتى خارجها وتضاءل حجمها كموطن للإنسان الحر الذي سوف يلغي كل الحدود والسدود طال الزمن أم قصر، فقد اتسعت أمامه آفاق المعرفة بفعل هذه الثورات واختفت بحار الظلمات وصحارى التيه التي وقف عندها الإنسان القديم حائراً منبهراً واتسعت خارطة الممكن على حساب ما كان يبدو مستحيلاً وصارت كثير من المعجزات في عداد الأوهام ما ساعد وبشكل جذري في الاستفادة من التجارب الإنسانية والثورية وتطوير أساليبها بما يجعلها في متناول الجميع ، ولأن مظاهر الظلم والاستبداد وآثاره ونتائجه عامة قد لا تقتصر على فرد أو جماعة وإنما قد تتعداهم إلى العموم، لذا فمن حق أي فرد أو جماعة تعرض أو تعرضت للظلم ولجأ أو لجأت إلى الوسائل الدستورية السلمية للوصول إلى حقوقهم السياسية والمدنية والتداول السلمي للسلطة ولم يصلوا إلى نتيجة أن يلجأوا إلى الوسائل غير العادية أي باستخدام الشرعية الثورية كحق عام لا يحق لأحد احتكاره ، ولكي لا يصبح استخدام هذا الحق المستمدة شرعيته من الدين والقانون منفلتاً بما يؤدي إلى الفوضى واستمرار الفتن والثورات والثورات المضادة دون تحقيق الأهداف المشروعة، فإن من الحكمة المؤكدة لأي شعب أو مجتمع البحث وبجدية عن تقييم علمي للتجارب الثورية الناجحة ومراجعتها باستمرار وبجدية مع إشراك المجتمع في استخلاص النتائج والاستفادة من تأريخ الصراع والثورات الدموية بمختلف أشكالها الواضحة وأساليبها الصريحة والصادقة أو المضللة والكاذبة، وسيصل بالتأكيد إلى نتيجة مؤداها أن الثورة الوحيدة المرشحة للنجاح والبقاء والتي ستوصلنا إلى بر الأمان ويعم خيرها الكافة، هي الثورة العلمية التي تنهي أي صورة من صور الاستحواذ على السلطة وكل ادعاء بحق التفرد بالحكم سواء باسم الدين أو باسم الوطنية أو القومية أو الأممية ، وفي ظل الثورة العلمية تبقى سلطات الدولة خاضعة وبشكل صارم للعلم والتقييم العلمي سواء في اختيار من يشغل منصباً في إحدى سلطات الدولة أو في آلية عمل هذه السلطات ودون محاباة أو حسابات غير علمية، لأن التجارب أثبتت أن المحاباة والمجاملات والمحسوبيات والاصطفاف المذهبي والعرقي والطائفي والمناطقي والإقصاء المبني على هذه الأمراض هي الطريق إلى جهنم ، وأن تحويل الثورة إلى مؤسسة لصنع السلام تمر عبر احترام العلم في تسيير مؤسسات الدولة وجعل الدين في موضع التقديس وعدم تدنيسه أو الزج به في أتون الصراعات الدينية والمذهبية والسياسية التي ذاق شعبنا وكل الشعوب التي عانت وتعاني منها الويلات والمآسي عبر مراحل التأريخ المختلفة وإلى اليوم .
إن للثورة قلبٌ وفؤآدٌ ويدُ ولها روحٌ على الأرض تسير
فسلوا القلبَ أيحصى نبضه وسلوا الروح إلى أين المصير