د. حمود الأهنومي
أثارت مقالتي السابقة (الصرخة في المساجد) بعضَ نشطاء الفيسبوك ممن هم منتمون إلى الأوساط العلمية الزيدية، ومن أولئك أخٌ حبيب، وقلمٌ رشيق، الذي للأسف بين الفينة والأخرى ينبري بحماس شديد لنقد أنصار الله نقدا لاذعا بذريعة أن فتيانا مجاهدين متحمِّسين ابتدعوا صرخة الشعار في مسجدٍ لم يكن يُصْرَخُ فيه من قبل، أو عند تشييع شهيد من الشهداء، تخضبت دماؤه وهو يصرخ في أرض المعركة، لكن رجلا أو اثنين من أقربائه لا يريدان الصراخ.
هذا الكاتب نموذَجٌ متكرِّر نلاحظه في الفكرة والأخرى، ومن شخص لآخر، وعليه فهذا المقال ليس ردا شخصيا، يبحث عن الانتصار بقدر ما يحاول معالجة ظاهرة متكرِّرة في بعض الأوساط العلمية الزيدية، وهي أوساط لا يجوز إغفال ما لديها من أفكار ونتاج ومخرجات؛ بل يجب التفاعل معها بالحوار والتلاقح والتأييد والتشجيع.
في اعتراض صاحبي على مقالتي آنفة الذكر أورد بعضا من الاستدلالات التي في مجملها تعارِض أو تناوِئ أو تكرِّه أو حتى تحرِّم الصرخة في المساجد، كما يفهم من مِسْحة غلوها، وغبار نقْعها، وأثار غرابتي أن هذا الذي أشبَعَنا طعنا في وجه الغلو وقفاه بات يمارس الغلو من موقع الواعِظ التقي الحريص على هذه الأمة من الانغماس في وحل الغلو وظلماته؛ وهو مسلك مفخَّخ بالازدواجية التي كان ينبغي أن لا يقع فيها صاحبنا المعترض.
أما أهم الشبه التي أوردها صاحبنا فهي:
1 -قوله: «الصراخ وارتفاع الأصوات بشكل عام أمر تستهجنه النفوس وتنزعج منه الأسماع و تمقته العقول وينكره الشرع».
2 – قوله: «ويتعارض مع آداب المساجد والصلاة حيث الأصل فيهما الخشوع والسكينة والوقار».
3 – قوله: «الشارع لم يشرع غير الإقامة بعد الخطبتين وأن ابتداعَ غير ما شُرِعَ أمرٌ هو في الحقيقة مخالفة للشارع».
4 – قوله: «ارتبط الشعار والصرخة بثقافة معينة لشريحة معينة، وأصبحت رمزا وعلما لهذه الشريحة بغضِّ النظر عن أي اعتبارات أخرى يراها حملة الشعار تعبِّر عن قناعتهم بهذه الثقافة والشعار اللذين يعبران عمن يقتنع بهما فقط، ولا يعبران عن كل الشعب اليمني فإذا كانت هذه الشريحة جزء من المجتمع اليمني وليست كله فإن فرض شعارها على أي كيان آخر يعتبر إقصاء».
وعليه فإن هذه المقالة سيناقش هذه الشبه بتفصيل، من الحيثيات الأربع التي تم عرضها.
أولا: الصراخ في ميزان النفوس والأسماع والعقول والشرع
ردا على قوله آنف الذكر، من أن الصراخ بشكل عام «تستهجنه النفوس وتنزعج منه الأسماع و تمقته العقول وينكره الشرع»، فأقول:
1 -إن هذه دعوى فضفاضة وعامة وتحمِل مغالطات وتلبيسات لا تنبغي لطالب علم، لا سيما والسياق سياق الصرخة في المساجد ضد أمريكا؛ والأعجب أنه حكم قاطعا بذلك الحكم المتسرِّع، وصادر ما لدى الناس من أسماع وعقول ونفوس وما يعرفونه من شرع، حاشدا إياها إلى صفّه لتحارب بشراسة تلك الصرخة الحرة ولتمطرها بوابل صواريخها المتعددة، وهي الصرخة التي صارت معلما من معالم ويوميات أحرار اليمن وعنوانا لأفضل مجاهديه.
2 – يمارس الناس عملية النداء لبعضهم بعضا بالقدر المحتاج إليه من الجهر، بل وبالميكرفون، وتطرَبُ أسماعهم لزامل أو أنشودة فلا يزال الطفل يستزيد من صوتها علوا وارتفاعا، ولا إنكار لا بشرع ولا بعقل. ويخطب الخطيب والمحاضر في المسجد ويرفع صوته الذي يردِّد صداه الميكرفون، فمرة يخفض ومرة يرفع، وليس هناك من منكِر لذلك، بل يعتَبر مُحسِنا ومجيدا لفن الخطابة. ويستحِبُّ الإسلامُ بجميع مذاهبه أن يكون المؤذِّن صيِّتا، ولهم حديث يسندونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ولأنه إعلان بالصلاة، وكل إعلان يجب أن يكون بالقدر الكافي في مدى الجهورية لمن يرادُ وصول ذلك الإعلان إليه؛ ولهذا استعانوا بالمكبِّرات الصوتية. وكذلك المدرِّس للعلم ولأصوله وفروعه وحتى لعلوم اللغة وعلوم الآلة يجهَرُ بصوته في المسجد هو وطلابُه المناقشون بالقدر الذي تحتاجه الحالة تلك، ومنهم من يفعل ذلك في الوقت الذي في المسجد مصلون يصلون الفرائض، وهذه أمثلة لكثير من الأمور المستحسنة عقلا، والمرغوبة نفسا، والمناسبة سماعا، والمشروعة شرعا.
3 – لا أدري أين سيذهب هذا المعترض فيما رواه الإمام الهادي في مجموع رسائله عن موسى عليه السلام، حيث قال: «وصاح، وكان صيِّتاً شديد القلب، شديد القوة: يا بني إسرائيل هذا الفعل الذي يقلبكم على أعقابكم عند القتال»، وبما رواه السيد العلامة الحجة مجد الدين المؤيدي في لوامع الأنوار أن العباس بن عبدالمطلب في يوم حنين «نادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة ـ وكان رجلاً صيِّتاً، قيل: إنه كان يُسْمَع من ثلاثة أيام، وأنه نادى مرة في مكة: واصباحاه؛ فأسقطت الحوامل، وأنه كان يصيح على السبع فتنفتق مرارته؛ ذكره في الكشاف ـ فأقبلوا كأنهم الإبل يقولون: لبيك لبيك». وبما رواه في شرح نهج البلاغة عن الإمام علي في يوم الجمل، حيث صاح في أصحابه: «ويلكم اعقروا الجمل فإنه شيطان ثم قال اعقروه وإلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البعير»، وحوادث كثيرة من المعيب تعدادها في توضيح الواضحات.
4 – لم يتذكّر المعترض وهو يطلق ذلك الحكم الأجوف أننا وإياه وجماعته نصرُخ سويا بذات مقدار درجة الصوت التي نصرُخ بها في الشعار، نصرخ جميعا في الساحات وفي المظاهرات ضد أمريكا، وضد إسرائيل وآل سعود، وإن بشعارات أخرى، وبـشعار (هيهات منا الذلة)، و (لبيك يا شهيد) وغيرها، فهل هذا أيضا مما تستهجنه النفوس، وتنزعج منه الأسماع وتمقته العقول، وينكر الشرع؟ فإن كان ذلك فلماذا لا نجد متحمسين لإنكار ذلك المنكر؟ بقدر ما نجد متحمسين لإنكار الصرخة؟.
5 – يفهم من حيثية كلام صاحبنا للصرخة بشأن ارتفاع الصراخ .. أنه يجوِّز أن يكون هناك جهرٌ بالشعار، ولكن بغير ارتفاع أصوات، أي بأن يكون بأصوات خافتة وضعيفة ومتماوتة، لكنه يعلم خير العلم أن الموقف موقفُ إظهار موقف قوي وجاد وحازم، وأي موقف ضعيف فهو غير جدير ولا خليق بقوم يريدون إظهار قوتهم ضد أمريكا اللعينة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة).
6 – للأسف فهناك من المعترضين على الشعار بشعارات منافِسة جيء بها على طريقة: (اقتلوني ومالكا .. واقتلوا مالكا معي)، وهناك من القوم الذين يرضى عنهم صاحبي المعترض مَنْ يصرخ بشعارات مناوئة للصرخة في المسجد، ثم لا نجد من أيٍّ من أصحابِنا هؤلاء حماسا يُذْكَر في إنكار رفع الأصوات والصراخ والاستهجان لها.
وبهذه الإلزامات يتبين أن الصراخ ورفع الأصوات ليس مكروها دائما، ولا الأصل فيه الكراهة حتى يدل دليلٌ على خلافه، بل الأصل إطلاق الصوت والجهر المناسب، بقدر الحاجة والحالة، كما يدل عليه كلام المولى الحجة المجاهد فقيه القرآن السيد بدر الدين الحوثي الذي سيأتي لاحقا.
7 -في نصوص القرآن الكريم وردت المخافتة في مقام الاحترام، وورد الجهر في مقام العداء؛ فلأن المقام مقام تعظيم وتبجيل، أمر تعالى عباده بقوله: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف205)، وقال عن حالة يوم القيامة: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (طه108).
وكذلك تحدث عن مقام النبوة الكريم بما يقتضي خفض الصوت حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات: 2-3).
وبالمقابل فإن مقام الشر المكروه قد يقتضي منا تخشين الصوت ورفعَه وجهوريته؛ ولهذا حين تحدث الله في كتابه المجيد عن الكفار والمنافقين أمَرَ بالغلظة عليهم، فأمر نبيه بذلك في سورة التوبة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(التوبة73)، وكرر الأمر على المؤمنين في ذات السورة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ) (التوبة123)، وقال أيضا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التحريم9).والغلظة تكون بالقول وبالفعل.
ومن الطبيعي جدا أن يصرخ الأحرار في وجه أمريكا بغلظة وصوت خشن وجهوري؛ لأن القرآن أراد ذلك منا، وعقولنا تحسّن ذلك، وأسماعُنا تستسيغه، وها هو شرعُنا الكريم يدل عليه.
8 – أما معنى غض الصوت:
في عظة لقمان لابنه في الآية:(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان19) فذلك يشرح أدبا من آداب التخاطب بين الناس، وأنه ليس للإنسان أن يرفع صوته إلى مستوى درجة أصوات الحمير؛ قال المولى العلامة المجاهد فقيه القرآن بدر الدين الحوثي رحمه الله: في (التيسير 6/ 21): «واغضُض من صوتك بترك رفعه رفعا شديدا؛ ولذلك قال: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، وإنكاره بسبب شدته على سمع الحاضر لديه، وهذا في غالب الأحوال، حيث لا حاجة لشدة رفع الصوت، فأما مع الحاجة فيحسُن، مثل نداء العباس (يوم حنين): يا أصحاب الشجرة للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا في حنين قد فروا فلما سمعوا النداء رجعوا وقاتلوا، وكذلك الأذان للصلاة حيث لا يوجد مكبِّر الصوت، والأصل رفع الصوت بالأذان، وكذلك في الخطبة لقوة الإنذار والتخويف عند الحاجة».
إن الصوت يمثل وسيلة تسهيل عملية التخاطب والتفاهم، فيكفي فيه القدر المحقِّق لذلك ارتفاعا أو انخفاضا، فما زاد على القدر اللازم تحوَّل إلى سفَهٍ وإزعاجٍ للآخرين، وما نقص عنه كان قصورا مَعِيبا مُعْنِتا لا يرتضيه العقلاء.
لكنه قطعا حين يكون رسالة إلى الأعداء ووسيلة لكسر الصمت والخوف وتعبيرا عن موقف الحق الشجاع، وصناعة للوعي، وتربية للأجيال على خشونة المواجهة لأعداء الله فإن الحالة تقتضي أن يكون بالصوت القوي الفاعل كما تقتضيه آداب الإسلام في حالات مشابهة.
9 – الصرخة جهر المظلومين:
في سورة النساء بعد أن شوّه القرآن حالَ المنافقين «وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً ، .. بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله، وبغضاً للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن ، ونَهى المسلمين عن القعود معهم» أذِن الله للمظلوم أن يَجْهَر أيَّ جهرٍ بالسوء من القول، فقال تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء148).
والجَهْرُ رفعُ الصوت بالكلام، ويعمُّ كلَّ جهر، فللمظلوم استخدام جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، ولكن مديات هذا الجهر تكون بحسب الحالة والمقام كما تقدَّم، والسوء من القول: يعم الشكوى من الظالم، والدعاءَ عليه جهرا، وغِيبته، بل ويعم حتى كلمةَ الكفر ونحوَها مما يقوله المُكْرَه، وقلبه مطمئن بالإيمان.
ومعنى الآية: لا يحب الله جهْرَ أحدٍ بالسوء إلا مظلومٍ، والمستثنى منه فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً، أي: إلاّ جَهْرَ من ظُلِم.
وفي واقع هذا العالم لا نكاد نجد مظلومية أشدَّ من مظلومية الشعوب الإسلامية، ولا نجد ظالمين أكثر ظلما من الأمريكيين والصهاينة، وإذا كان الله قد أذن بالجهر بالسوء من القول، فما بالُنا نضيق بالجهر بالحق، وبالكلمات والعبارات التي ليس فيها أي سوء، بل هو الحق الصراح، والمنهج البين الوضاح، ولا فرق في ذلك بين مسجد وغيره؛ لأن الجهر بالشعار يحمِل وظائفَ متعدِّدة في وجوه أولئك الذين يركِّزون على دراسة النفسيات؛ ولهذا فمن الحكمة أن يطلقه المظلومون وأن يجهروا به بقوة وبمدىً يعكس مدى جديتهم وتفاعلهم مع محتواه.
10 -صراخ الزيدية بالشعارات تاريخيا:
لا حاجة بي إلى تكرار الحديث عن مفهوم الشعارات وكيف استخدمت في الإسلام؛ لأن ذلك قد تحدثت عنه في المقالة السابقة، لكن بين يدي موقفان تاريخيان لكبار أئمة الزيدية، تبيِّن أن الشعارات هامة في مسيرة الثوار الأحرار، وأنه من المهم الجهرُ بها، وأنها مشروعة حتى في المساجد، بل أُطْلِق أحدُهما في المسجد النبوي في المدينة المنورة، فكيف بغيره من المساجد؛ وبالتالي فلا انزعاج نفسي، ولا مقت عقلي عرفهما أهل البيت عليهم السلام، ولا مانع شرعي منعهم من ذلك.
أ-الموقف الأول ترويه الأمالي الإثنينية عن الإمام زيد عليه السلام عند إعلانه ثورته في الكوفة أن جميع أنصاره صرخوا بشعاره (يا منصور أمت)، وأنه أرسل رجلين لرفع شعاره في أجزاء أخرى من الكوفة، وكان أحدُهما صيِّتا، وهو أمر يشير إلى أهمية التصويت بالشعار، كما أعلن أحدُهم ذلك الشعار من رأس مئذنة.
تقول الرواية: «فَخَرَجَ الإمام زيد لَيْلاً وَذَلِكَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فِيْ لَيْلَةٍ شَدِيْدَةِ الْبَرْدِ، مِنْ دَارِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَرَفَعُوا الْهَرَادِيَ وَالنِّيْرَانَ، وَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ شِعَارِ رَسُوْلِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-: (يَا مَنْصُوْرُ أَمِتْ)، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا بَعَثَ زَيْدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ فُلاَنٍ التَّبعِيُّ وَرَجُلاً آخَرَ يُنَادِيَانِ بِشِعَارِهِمَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ صَالِح بْنِ يَحْيَى [بْنِ] عَزْيِزِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ خُزَيْمَةَ التَّبعِيُّ وَسُمِّيَ الآخَرُ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِقْدَامٌ، قَالَ سَعِيْدٌ: وَلَقِيَنِي أَيْضاً وَكُنْتُ رَجُلاً صَيِّتاً أُنَادِي بِشِعَارِهِ.
قَالَ: وَرَفَعَ ابْنُ الْجَارُوْدِ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْهَمْدَانِي هُرْدِياً مِنْ مِئْذَنَتِهِمْ فَنَادَى بِشِعَارِ زَيْدٍ».
ب- صرَخ أهل البيت بشعارات ثورية عسكرية في المساجد وبشكل جماعي، بل صرخ بعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد روى أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل، والشهيد المحلي في الحدائق، أنه لما أعلن الإمام الحسين الفخي (ت169هـ) ثورته في المدينة على بني العباس دخل فتيانُ آل محمد وخيرتُهم المسجدَ النبوي فجرا، وصرخوا فيه بشعار (أحد أحد)، بل وأمر أحدُهم المؤذنَ أن يؤذِّن بـ(حي على خير العمل) الذي هو شعار أهل البيت الخاص بهم أيضا، مع أن كثيرا من المصلين والحاضرين لم يكونوا على مذهبهم، ولا على توجههم السياسي والثوري، ومع أن ذلك كان في وجه العباسيين المسلمين، فكيف سمح البعض لسمعه أن يكره ما لم يكرهه أهل البيت، ولعقله أن ينكر ما لم ينكروه، ونقل عن الشرع ما لم يعرفوه.
ثانيا: شبهة معارضتها لآداب المساجد والصلاة:
قال المعترض: «ويتعارض مع آداب المساجد والصلاة حيث الأصل فيهما الخشوع والسكينة والوقار».
وهذه مجرد دعوى أيضا لا ينتصب لها دليل، للأمور التالية:
1 -ذلك أنه يردِّدُ المسلمون في المساجد – بما فيهم المعترِضون على الصرخة – أذكارا جماعية بصوت جهوري، ومنها أدعية الجأر بالاستغفار والدعاء لله في الاستسقاء، مما يُسَمَّى (التوَّاب)، كما يقيم البعض الاحتفالات الدينية والتعليمية وفيها الأناشيد الجماعية وما شاكلها، وليس هذا الشعار الذي يتطلَّب دقيقة من الوقت، أقل حقا منها في المساجد، وهي التي تحتاج لعشرات الدقائق أو لعدد من الساعات.
2 -وبعض تلك الأذكار والأقوال هي شعارات مذهبية خاصَّة، يطلقها ويمارسها بعضُنا، مع عدم رضا بقية المصلين من المذاهب الأخرى عنها، ومع ذلك لا أحدَ يمنعُ أحدا منها، وإذا حاول الوهابيون منعنا منها وصَمْناهم بالتعصُّب، فمن شعارات أهلِ البيت (قراءة البسملة في أول السور في الصلاة)، و(الأذان بحي على خير العمل)، و(قراءة آية الكرسي) بعد الصلاة، و (الصلوات الإبراهيمية)، وكذلك يجهر المسلمون بالتسبيح والتحميد والتكبير وأذكار بعد الصلوات، وهذه الأخيرة كلها تُرْفَع بأصواتٍ جهورية، وتذاع في مكبرات الصوت، فهل تذكَّر صاحبُنا المُعترِض أن يُدْخِلَها في خانة الاستهجان والإنكار والمنع والانزعاج.
كما أن شعار الفرق الأخرى، إسقاط بسم الله الرحمن الرحيم، وترك حي على خير العمل في الأذان، والضم والتأمين، وهم يؤدونها كما يحبون ولا أحد يعترض عليهم أو يحاول منعهم.
3 -كل طاعة من طاعات الله يمكن فعلها في المساجد، وبالتالي فلا تتعارض مع آدابه، ولا مع الخشوع والسكينة والوقار في حال الصلاة، إذ ليس في كل وقت يكون فيه المسلم في المسجد يكون مصليا، وهناك من الأمور العبادية لا تقتضي السكوت، بل مطلوب فيها الجهر، وهو لا ينافي الخشوع، فالأذان والصلاة الجهرية مطلوب فهما الجهر.
والصرخة لا تعارض السكينة والخشوع والوقار؛ إذ تلك الأمور تكون في حضرة الله عز وجل، ومن يكون خاشعا لله فإنه لا بد أن يكون من المباينين لأعدائه، وحال الصارخ من الخشوع والسكينة والوقار كحال المؤذن وهو ينادي للصلاة.
4 – وكيف يكون الجهر في المساجد مما يُسْتَنْكَر، وكثير من العبادات والطاعات مما يجهر بها في المساجد، وقد جهَرَتِ الملائكة بالنداء لنبي الله زكريا وهو قائم يصلي في محرابه، قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران39)، والنداء هو رفع الصوت وظهوره كما ذكر ذلك الأصفهاني في مفردات القرآن، وكما يدل عليه لفظ (ناديتم) و(ينادونك)، و (نودي) في قول الله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً) (المائدة58)، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات4)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ) (الجمعة 9).
فهل غاب عن عقل وسمع وشرع الملائكة وعن نبي الله زكريا ما حضر سيدنا المعترض؟! أم أن هناك خللا في الاستدلال، وارتباكا في الموقف؟!
5 – صرخ وصاح قومٌ صالحون في المساجد بالنهي عن المنكر، قومٌ نكن لهم جميعا – نحن والمعترضون على الصرخة – الاحترامَ والتقدير ونشيد بمواقفهم تلك ونعتبرها منهم أمثولة حسنة نقتدي بها، فمن ذلك ما رواه الزحيف في مآثر الأبرار في أخبار حجر بن عدي أنه كان يعترض على اللاعنين للإمام علي في المسجد، يقول الزحيف عن حجر وهو يعترض على الوالي الأموي في الكوفة: «فقام حجر وصاح: إنك لا تدري بمن تولَع، مُرْ لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فقد حبستها عنَّا، وأصبحتَ مولَعاً بذم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومدْحِ المجرمين وتقريضهم؛ فقام معه نحو ثلاثين ألفاً، يقولون: صدق حجر». فهل ترى أصاب حجر في صياحه في المسجد وصراخه أم أخطأ؟.
وهذا الأعمى بصير القلب عبدالله بن عفيف الأزدي، الذي اعترض ابن زياد في مسجد الكوفة وصاح في وجهه لما سمعه يذم ويسب الحسين وأهل بيته عليهم السلام بعد مجزرة كربلاء، فقام «من زاوية المسجد وقال: يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، ومن استعملك وأبوه، يا عدو اللّه أتقتل أولاد النبيين وتتكلم بمثل هذا على منابر المسلمين؟ تقتل الذرية الطاهرة وتزعم أنك مسلم؟ ثم صاح: واغوثاه .. أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ ألا ينتقمون من اللعين بن اللعين؟. فغضب ابن زياد وأمر بقتله فخلصه أصحابُه، ثم بعث إليه ابن زياد جماعة إلى بيته فقتلوه». وهذا أمر مشهور في مصادر واقعة كربلاء، فهل هناك أحد من العقلاء الأحرار يستهجن صياح الشهيد الأزدي أو يستنكره أو يرى فيه بدعة؟ كلا.
6 – نص أهل المذهب (أنه لا يجوز في المساجد إلا الطاعات)، ونحن نزعم أن الشعار من أفضل الطاعات في هذه المرحلة؛ وقد قال الإمام المهدي في البحر الزخار (3/ 393): «وندب اجتماع المسلمين للنظر في مصلحة دينية؛ إذ هو كالعبادة، والتدريس والمناظرة لطلب الحق، لا للجدال»، والصرخة بصوت واحد وفي وقت قصير لا تقِل أهمية عن المناظرة بين شخصين أو فريقين، تختلف فيها الأصوات، وتتداخل العبارات، وتؤدي إلى التشويش على من في المسجد.
فهل بربك أي الأصوات يستسيغها السماع، أهي أصواتُ صرخةٍ منتظِمة وفي وقت قصير لا يتعدّى الدقيقة الواحدة، أم أصواتٌ متداخِلة وتستهلِك الوقتَ الكثير؟!
7 – لم يتشدّد فقهاؤنا وهم يعدِّدون صورا منافية للطاعات في المساجد، فحكموا فيها بكونها مكروهة تنزيها، على الرغم أنه ورد فيها أو في بعضِها النهي الخاص، بينما تشدد البعض ضد قولٍ معروف وكلمة حق تعتبَر اليوم من صميم الطاعات وأولاها، فاعتبروها جُرْما خطيرا، فعلى سبيل المثال ورد في شرح الأزهار نقلا عن الانتصار أنه: «يكره في المساجد سل السيوف ونحوها، ورفعُ الأصوات بغير القراءة والذكر، وكذا كتابة الأشعار في جدرها، وتعليق الخيوط في جدرها وأبوابها». كما ذكروا أنه «يكره إنشاد الضالة فيها».
أي أن فقهاءنا حكموا على هذه الصور الشنيعة بالكراهة فقط، لا بالحرمة، بينما حكم البعض بتحريم الصرخة واعتبارها منكرا فظيعا.
8 – والصرخة تعبيرٌ عن الإنكار على عداوة اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وإعلان بالبراءة منهم، والتعبير عن الإنكار وإعلان البراءة يقتضيان الجهر بالقول بهما، حيث هو المتاح، في وقتِ اجتماعِ المسلمين الذي هو أفضل وأقوى حالة معبِّرة عن قوتهم وتماسكهم ووحدتهم ضد المعتدين، في وقتٍ هناك بكثرة كاثرة مَنْ يُسارِع إلى تولِّيهم وإلى حسن الظن بهم، والانخداع لهم، وهو أمرٌ مرفوضٌ في الإسلام، فكان لا بد من إظهار البراءة ضدهم، وفي هذه الحالة قد تصل حالة المشروعية إلى حالة الوجوب، وما هذا حاله فإنه يجوز في المسجد كما يجوز في غيره، وبما أن الموقف تعبيرٌ عن موقف في وجه المعتدين فإنه لا بد أن يكون مجهورا به؛ إذ لا يصح التعبير بالهمس والإخفات ولا بالأصوات المتماوتة التي تُظْهِرُ أصحابَها ضعفاءَ وغيرَ جادِّين في ما يعبِّرون به.
9 – ونعتقد أن أمريكا بمشاريعها التدميرية والمناقِضة والمتآمِرة على الإسلام هي أكبر منكر وأفظع بدعة يجب إنكارها، وأن مناهضتها فريضة يجب القيام بها، والفرائض من الأمور التي يجب إعلانُها والجهرُ بها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا غُمَّة في فرائض الله).
10 – ثم إن معاني كلمات الشعار وبعض ألفاظه موجودة في القرآن الكريم، وما يجوز في القرآن الكريم يجوز مثله في المساجد، سرا وجهرا، والمحاضرة التي تتحدث فيها كمحاضر أو كخطيب عن أمريكا وإسرائيل وعن العدوان في المسجد وترفع عقيرتك بها وبالميكرفون متحمِّسا ومحمّسا يجوز أن تُتْرْجِمَها مع جماعة المسلمين في صورة شعارٍ جماعي منظم، تيقّن الجميع اليوم أن العدو الأمريكي والصهيوني يحسِب له ألف حساب، طبعا مع العمل، ولا شك أن القائمين على الصرخة هم من يقود المواجهة العملية ضد الأمريكان وأزلامهم.
11 – والآية الكريمة تقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة120)
وكلمة (موطئا) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، الذي يشمل كل مكان يطؤه المسلم وكل مكان يغيظ الكفار، وفي أولويتها المساجد، وكذلك تيقَّن الجميع أن الجهر والصراخ بالشعار في المساجد هو مؤثِّر على العدو تأثيرا كبيرا، وينال منه نيلا عظيما، وهو داخل في عموم كلمة (نيلا) في قوله تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلا) وهي النكرة في سياق النفي المفيدة للعموم، ويشمل ذلك الجهر بالشعار في المساجد.
12 -وفي المسجد نَجْهَرُ بوضع الخطط التي فيها قتْلُ هؤلاء الأعداء، ومحاربتهم، وهو أمر أبلغ وأفظع من مجرد الهتاف بموتهم الذي يُقْصَد به إيصالُ عدد من الرسائل وتربية الأمة على القوة وخلق المعنويات العالية، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخطط للمعركة فيه، وفيها القتل والقتال، وكان يحرض فيها المؤمنين على القتال، وذلك كله أوقع وأهم من مجرد هتافات ثقافية وتربوية ونفسيه.
13 – والصرخة من القول السديد، ويعم القولُ السديدُ كلماتِ الصرخة جهرا وكتابة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70 – 71)، وقد تناولت هذا المقالة السابقة.
14 -وبعد كل هذا الحديث وكل هذا الاستدلال لنفترض أنك لم تقتنع بمشروعية الجهر بالشعار في المسجد؛ لأنك ترى حرمة المسجد والصلاة تمنعان الجهر به، وأن هذا فقط هو ما منع المعترض، فلم لا يعلنه صامتا، وذلك بوضع ملصَق على بيته أو في سيارته أو على ثيابه، ومن ثم يكون داخلا في أجره ويتجنب الوقوع في محذور تركه؟
ثالثا: بدعية كونه بين الخطبتين وصلاة الجمعة:
قال المعترض: «الشارع لم يشرع غير الإقامة بعد الخطبتين وأن ابتداعَ غير ما شُرِعَ أمرٌ هو في الحقيقة مخالفة للشارع»، والجواب على ذلك من وجوه:
1 -أن هذا استدلال ضعيف، ويكفي في ضعفه أنه يجري على مناهج الوهابية في التبديع والتضليل لكل ما لا يجدون فيه نصا مباشرا؛ ولو نصَّ الإسلام عليه إجمالا، فتراهم يبدعون الاحتفالات بيوم الغدير، والهجرة النبوية، والمولد النبوي الشريف؛ لأنهم يزعمون أنه لم يحتفل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها بدعة، وبالتالي فهي مخالفة للشارع، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؛ ولهذا وقعوا في تضليل كثير من الأمور، أو التعامل معها بازدواجية فيحرمون الاحتفال بالمولد النبوي، ولكنهم يجيزون الاحتفال بمولد دولتهم، أو يومهم الوطني. وكان الأولى بالزيدي أن يسلك طريقة أئمة أهل البيت عليهم السلام في الاستدلال.
2 -ولأن تركيب هذه الدعوى لم يكتمل، وتحمل كثيرا من المغالطات فإنه لا بد من توجيه بعض الأسئلة لصاحبنا المبدِّع، فنقول له: قولك: «الشارع لم يشرع غير الإقامة بعد الخطبتين»، أتقصد به أنه لم يشرع أمرا من أعمال يوم الجمعة، أو صلاتها وخطبتها؟ أم تقصد أنه لم يشرع أيَّ أمر من الأمور الأخرى المتعلقة بالدين ولو على سبيل الإجمال؟ فإن قلت لم يشرع شيئا متعلقا بالجمعة، فماذا عن الدعاء الذي يدعو به المقيم قبل الإقامة؟ ألا تعتقد أنه بدعة؟ وماذا عنه ونحن نجد اختلافا في صيغ الدعاء، فأين منها المشروع؟ وأين منها غير المشروع والبدعة؟
وإن قلت: لم يشرع أي أمر من أمور الدين، فماذا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ماذا لو رأى أحد المصلين بعد كمال الخطبة منكَرا فهل عليه أن ينهى عنه؟ فإن قلت: نعم، قلنا: فأين الدليل الذي يدل على النهي عن المنكر في ذلك الوقت؟ وبما أجبت به فهو جوابنا. وإن قلت: لا. خالفت المعلوم من الدين ضرورة.
ولنفترض أن الصرخة في ذلك الوقت وفي تلك الحالة بدعة ومخالفة للشرع كما أوهمتَ في استدلالك؛ فهل هي حرام، أم مكروه على أصولك؟ وهل تصح جمعة من صرخوا؟ أم لا تصح؟ فإن قلت: لم تصح؟ فأخبرنا عن ماهية الشرط أو الركن من شروط وأركان صلاة الجمعة الذي اختل وبطل؟ ثم هل كل ما لم يفعله السابقون بدعة؟ وإذا كان بدعة فهل هو بدعة حسنة أم سيئة؟
وهكذا العناد والغلو والبطلان يقرب صاحبه من مناهج المغالين والمبطلين، ولا ترى فرقا بينه وبينهم في استدلاله وأقواله.
3 – كان الأولى بهذا المبدِّع أن يعرف أن الصارخين بذلك إنما فعلوا ذلك لما يرونه من وجوب إعلان البراءة، وأن ذلك الوقت هو أنسب الأوقات لإعلانها، لما يمثل من مظهر اجتماعي مُشْعِرٍ بالقوة والاتحاد، وإذا كانوا مستعدين للتوجه إلى الله وحده، فمن الأهمية بمكان أن يعلنوا البراءة مما سواه، من الآلهة التي اتخذها كثير من أهل هذا العالم.
وهذا من أوضح الواضحات، وأبين البينات لولا التعلق بالمشاغبة.
رابعا: خصوصية الشعار:
قال المعترض: «»ارتبط الشعار والصرخة بثقافة معينة لشريحة معينة، .. إلخ».
ويجاب عليه بالتالي:
1 – بإعادة ما ذكرناه سابقا، من أن المسلمين يطلقون في المساجد شعارات خاصة بهم لا يعتقد مشروعيتها كلُّ المصلين في ذلك المسجد، ومنهم المعترض على الصرخة؛ وعليه فلا يحق منع الصارخين مهما كانوا.
2 – إذا كان هناك من يعتقد أن الصرخة شعار خاص وحصري بأنصار الله فهذه مشكلته لا مشكلة أنصار الله، لأن الشهيد القائد طرح هذا الشعار ليكون لكل المسلمين في مواجهة مشروع أمريكا العدائي للإسلام والمسلمين، وقد قال الشهيد القائد في بدايات إطلاقه: إننا هنا من أحزاب وتيارات مختلفة نصرخ بهذا الشعار، بهذا اللفظ أو بمعناه، وكان ينتظر حتى من الوهابيين أن يرفعوه، ولما عارضوه استغرب منهم استغرابا شديدا، وهناك من الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية من يصرخون بهذا الشعار وهم لا ينتمون أبدا إلى أنصار الله كمكون.
وهناك فرق بين هذا الشعار الذي يمكن للأمة أن تحمله جميعا، وليس موجَّها ضد أي فصيل منها، وبين الشعارات الخاصة التي يطلقها بعضنا ولا يرتضي ما فيها الفريق الآخر.
وهو شعار دلَّتنا الأحداث على أولويته على كثير من الشعارات الأخرى، وكذلك هو كلمة حق يراد به حق، وليس كشعار الخوارج، فإنه كلمة حق يراد به باطل.
3 -سلمنا جدلا أن هذا الشعار خاص بأنصار الله، ولكن وبعد أن اتضح لنا أنه أصبح مؤثرا في العدو، وينال منه نيلا كبيرا، وقد رأيناهم ينزعجون منه انزعاجا عجيبا، وسمعنا ورأينا نتنياهو ومسؤولين صهاينة ينزعجون منه، ويكرهون الاستمرار فيه، فهل من الحكمة الاستمرار بالسكوت عما ينزعج منه اليهود والنصارى المعتدون؟ وهل علينا أن نُسعِد نتنياهو بالسكوت عنه؟ وهل من الإسلام محاربة هذا الشعار المزعِج لهم؟ لم لا نعود للحق، والعود إليه فضيلة، وننصر هذا الذي اتضحت صوابيته؟
4 – وإذا عدنا بالحوار إلى أصل مهم وهو: الاعتقاد بخطورة أمريكا، والتحذير منها، وإعلان البراءة من سلوكاتها وعملائها، فإذا وافق المعترض على هذا الأصل، نسأله: ماهي الأقوال والأفعال والخطوات والبرامج والنشاطات التي تعبر بها عن هذا الموقف؟ والتي تريد من ورائها أيضا تحقيق مبدأ الولاء والبراء؟ وإعلان موقفك من أمريكا الشيطان الأكبر؟.
وعليه فلا بد أن يكون له موقف فعلي أو قولي؛ لأنه لا يكفي الموقف القلبي، وهو قادر على الموقف الجوارحي، والموقف اللساني، فإذا قال: إنه لا يفعل شيئا، فهذا في أقل أحواله يوهم أنه لا مشكلة لديه مع أمريكا، وإن قال: لا بل أقاطع بضائعهم، ومنتجاتهم، وأخطب محذرا من كيدهم ومكرهم، وأبني وعيا في عقول العامة عن خطورتهم، وأنخرط في مشاريع عملية تقوِّي أمر هذه الأمة في مواجهتهم، قلنا: هذا أمر طيب، قد حققْتَ ما يجبُ عليك، ولكن عليك أن لا تصدَّ ولا تمنعَ من يلتقي معك في هذه المشاريع ويخدم هدفك بنشاطات أخرى، فإذا كنت تعلم أنك ستصنع سلاحا بريا مثلا لمواجهتهم، فهل يجوز لك أن تمنع من يريد إنتاج سلاح جوي لمواجهتهم؟
5 -وإذا كان امتناع المعترض عن ترديد الشعار إنما لأجل كونه ينتمي إلى جماعة أخرى، أو إلى حزب آخر، كما يفهم من كلامه الأخير، مع أن الشعار كلمة حق، ويراد به حق، وقد عاين المعترض بعينه ذلك، وأثبتت له ولغيره الأيام أحقيته، فإن تركه لأجل توجيهات الحزب أو الجماعة فإن ذلك هو عين التعصب الحزبي الذي حذر منه الإسلام؛ حيث نهى الله عن الحزبية والتعصب، وحذر من الفرقة في الدين، حيث يقول الله تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون)، فرحا يمنعهم من قبول الحق من غيرهم، وهذا خطأ، أما حين يسعى المعترض للصد عن هذا الحق ولمنعه من منطلقات حزبية فإن ذلك يعتبر أشنع وأفظع.
أما إذا كان الحق مذهبك وإن أتى من غير حزبك، فذلك هو الإسلام، والله يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، والصراخ بالشعار من البر والتقوى الذي يُشرَع التعاون فيه، والصد عن الشعار وقد رأيناه نافعا مؤثِّرا على أعداء الله يعتبر من الإثم، ومن العدوان الذي نهى الله عنه.
6 -وبما أنك أيها المعترض ترى أن هذا الشعار أصبح علَما وعنوانا لشريحة معينة، وهي الشريحة التي تقود معركة المواجهة مع أعداء الله اليوم، فلماذا تريد منعهم من ممارسة ثقافتهم، ورمزيتهم، وعَلَمهم بحجة أنهم قليل في هذه المنطقة، أو أن هذا المسجد في ولاية فلان، أو تحت إمامة علان، وأنت تعرف أن المساجد لا تملك، وهي كلها لله تعالى، أليس ذلك من الباطل؟
أما وهم يعتقدون أن هذا الشعار والصراخ به واجب، فهل يحق لك أن تمنع مسلما أي مسلم من ممارسة ما يعتقدُه واجبًا متحتِّما عليه، لا أرى ذلك إلا خطأ، لا سيما وأنت من أهل نظرية الاجتهاد التي تحترِم اجتهادات الآخَرين في الفروع والعمليات.
وكما لا يحق لك منع شافعي صلى في المسجد ولم يغتسل من منيِّه بحجة أنه طاهر في مذهبه، بينما هو نجس في مذهبك، فإنه لا يحق لك منعُ مكبِّر أن يهتِفَ بشعاره ضد عدوك وعدوه أمريكا وإسرائيل؛ لأنه يراه مشروعا، بل وواجبا.
7 -لا يجوز لك أن تمنع أو تصد بقول أو فعل عن أي عمل إلا إذا كان منكَرا، وعلمت قطعا أنه منكَر، وأنه مما لم يختلف في حرمته العلماء، وعليه فإن المانع للصارخ والصاد عن الصرخة مخطئ مخالف لما هو مؤمِنٌ به ولما هو معتقد وجوبه عليه.
أخيرا يعلم الله أن الأمر لم يكن بحاجة إلى هذا الاستدلال كله، ولكن إذا قامت الشبهة على ساقها فعليك بنصب وإقامة الحجة على وجهه، وفي هذا النقاش المستفيض ما يكفي لأن يصرخ المسلم بهذا الشعار، وأن يحكم بمشروعيته، في أوقات الاجتماعات، وأنه لا يجوز لإنسانٍ مهما كان أن يصد عنه تحت أي مبرر من المبررات، وبأي وجه من الوجوه، ولا أجمل من كلام السيد القائد حفظه الله عندما قال: لم نجبر أحدا على الصراخ بالشعار، وكذلك لن نسمح لأحد بأن يمنعنا عن الصراخ به، أو كمال قال رضوان الله عليه.
وفق الله الجميع، ونصر الله اليمن وأهله، وهدانا إلى ما يرتضيه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.