هجرة إلى غربة البردوني *

د. احمد علي الهارب


إلى روح «البردوني الخالدة»

راق لي لُقياكَ لكن كيف ألقى؟
قيلَ ضيفُ الموتِ، قالوا أنتَ أبقى!
قيل قد هالوا تُراباً فوقهُ
في دبيبِ الأرضِ ما حَيّاهُ خَفْقا!
قيل دَسّوُّهُ رُفاتاً ريثما
كاملُ الأحلامِ مِن رُؤياهُ تَرقى!
قيل يُلقى في مداءاتِ الرؤى
طيفُها مَبداهُ حتى صار فَرْقا
قيل حَيٌّ يحتسي أنخابَهُ
ما إليهِ من نبيذِ الحرفِ أرقى
ها هنا تَلقاهُ في نَسْمِ الهوى
مِثلَ طَيفٍ، في ربيع الزهرِ عِبْقا
في أسامي الناس، أسفارِ الرُّبَا
في جذورِ الأرض إذ يمتدُّ عِرْقا
في مرايا الليلِ، في فجرِ المُنى
في عيونٍ من جوابِ العصرِ زُرْقا
في هديرِ الشعبِ، في عَزمِ الفدا
في صميمِ الحقِّ ما يُجريهِ زَهْقا
في وجوهِ الزيفِ… في سَبْرِ الرؤى
في سحاب الحرفِ إذ يُزجيهِ وَدْقا
***
قيل عاشَ العُمرَ في أوجاعهِ
قسوةُ الحرمانِ ما أولَتْهُ رِفقا
أيُّ ضُرٍّ مسَّ عينيه التي
قيل قد غابت.. أذاكَ القولُ صِدْقا؟!
ألفُ حَلّافٍ على ما أجزَموا
لستُ أرضى غيرَ أن ألقاهُ حَقّا!
أيُّ راءٍ مثلُهُ؟ من ذا هنا
قد حَوت عيناهُ من رؤياهُ رَمْقا؟
يَقرأُ الكفين قالوا.. ماهرٌ
أدمنَ التنجيمَ والأفلاكَ عِشقا!
قيل سِفْرُ الجَفْرِ أهدى جانَهُ
من ثقوبِ الدهر للأسرار فتقا!
سافرَ الأزمانَ.. يستقري الرؤى
من قرينٍ فيه… كُفّوا عنهُ شَدْقا!
أثقفُ الآفاقِ عن عِلم الدُّنا
قد تَدنّتْ للبصيرِ الكَفِّ رِزقا
جَودةُ الإحساسِ، إفصاحُ الفتى
ثروةُ الأحداثِ قد أثمرنَ سَبْقا
حكمةُ التأويل، إنضاجُ الرؤى
سُنَّةُ الأحياءِ قد أحدثنَ فَرقا
فلسفاتُ العصرِ أجرى مُزْنَها
في سَماءِ الفِكرِ حتى صَابَ غَدْقا
***
هل بفرقٍ سوف يأتي مِن ندى
يرويَ الآتينَ والأمزانُ أسقى؟!
لن أُضيفَ اليومَ شيئاً للذُرى
بل يزيدُ الشعرُ من مَرقاكَ بَسْقا!
مِنكَ نهلُ الحرفِ أشهى.. فليَكُن
ذاك عرفاناً، وقُل إن شئتَ حَقّا!
قُل يَزيْنُ الضِدُّ ضدّي؛ بل إلى
صوتِ ما أصديتَ ألقى فيّ حَلْقا!
أنت أدرى بالذي أروي وما
تحملُ الأثقالُ فلننسابَ نَسْقا
إنْ يطيبَ القولُ زدني، ولتقُل
عِلّةُ التطبيبِ شُغلي حين أشقى!
***
ها أنا والضادُ.. مَن يقضي بنا
إن سَألنَا أيُّنا والحالُ أعقى؟!
وإذا أشدى بنا الشِعرُ فَماً
فلمن نعيا إذا الضادي أعَقّا؟!
دَعكَ من أوجاعِ حَرفٍ خِلتَهُ
خِلّكَ الحاني وقد أضناكَ رَهْقَا
ولترى فالحالُ أضنى صورةً
من شحوبِ الدهرِ إذ عيناكَ تُفْقَا!
***
ها أنا والقومُ والدهرُ الذي
سُقتَ مِن سِيماهُ ما جَلَّا وَدَقّا !
ها هنا قد طاب للنفط اللِّوا
كُلّ من يحسوهُ خمراً عاش وِفقا
مَن يرومُ العيشَ حُرّاً رأيهُ
عُدَّ ذاك الفعلُ للأعرافِ خَرْقا
قد رأى «النفّاطَ» أهدى أمرَهُ
«للحُماةِ الشُقْرِ» والأوطانُ لحقا
«صَهْيَنَتْ» راياتُ «قيسٍ» حينها
صاح جَهلُ الخَصمِ لا يدنوهُ حُمقا!
كانَ يهذي.. قيلَ عن «أعدى العِدى»!
من سيهذي اليومَ والأفعالُ نُطْقا؟!
مَن يَهمُّ الأمر يا «قُدس الفدا»؟!
يا زفيراً قد بدا مِن فيهِ شهقا
عن دُجى الأعراب أبقى مأتماً
عن رُعاة الحرب إن غرباً وشرقا
عن حضاراتٍ تُرى برّاقةً
تَحسَبُ الإنسانَ رقماً ثُمَّ خَلْقا!!
عن فنون الغزو ألقى مَعْشراً
عن «غُزاةِ العصر» قد أثراهُ عُمقا
ورأى في الموت سوقاً للهوى
مثلما في القتلِ للطاغين رِزقا
***
واجهَ الأعداءَ دهراً… لم يزلْ
مُذ تَجلّى «نُقُّماً»، واشتمَّ صَعْقا
قد وجدنا القصفَ يُلقى بغتةً
وفنونَ العُنفِ من رؤياكَ طِبقا
ووجدنا دونها من «مصطفى»
ألفَ الفٍ قد جرى للذودِ دَفقا
ورأينا «عرفجاً» مِن نَسْلهِ
للخليجِ الضوءَ قد جَلّاهُ بَرقا
وعرفنا وجه «أمريكا»… ومَن
«فَتْنَمَ» الكفينَ لن تُفنيهِ خَنْقا
وكشفنا ألفَ «فَرّاشٍ» قضى
في استلابِ الأرض والأوطان غَرقا
بئسَ من يحيا إذا ما عيشهُ
في احتمامِ الخلقِ لا يحويه أُفْقا
أنْ يلومَ الناسَ عن الآمهِ..
بالقيود السودِ لا يحدوهُ عِتقا
لم تكن إن عشتَ إلا ثائراً
تلعنُ الغازي وما أسلمتَ عُنقا
لم تبع حَرفاً.. أتبتاعُ الفدا
وألوف الحرف قد أوقدت طَلقا؟!
ما استزدتَ العيش في وَهْنٍ بنا
واستُهينَ الموتُ في رؤياكَ عِشقا!
***
حين ظلّ الشعرُ يُلقى ضوءُهُ
في بلاطِ المُلْكِ شاءَ الشعرَ أرقى
حيث عاشَ الفقرَ… لكن دونهُ
عافَ وِرْدَ الماءِ إلا كان أنقى؟
كيفَ تبتاعُ الكتابات التي
أثمرتْ دُنياهُ بخساً دُونَ نَفقا؟!
كيف صار «البَيض» أغلى سِلعةً
يا لرُخص الدهر كيفَ المجد شَقّا!
قد تدلّى كُلُّ جَانٍ حولَهُ
فأباها حين ظنّ الزهدَ أوقى!
إذ أراد العزَّ أروى زادَهُ
كبرياءَ النفسِ حتى عاشَ أتقى
ورأى في الزُورِ درباً شائناً
وخضوعَ القول للطاغين فِسقا
ورأى في الحرفِ جُرماً قولهُ
إن لِزلفى أو لمالٍ فيه شِقّا
***
قيمةُ الإِنسانِ فِي إِحسانِهِ
والشُّعورِ الحيِّ إِذْ يَنسابُ خُلْقا
رُغمَ رَزْحِ البؤسِ، دوماً تَلْقَهُ
شاكياً ً عن واقعٍ من ذاك أشقى
قيل معلولاً تراءى ضُرّنا
قيل مهموماً بما لاقى ونلقى
قيل قد ثاروا صباحاً بينما
واصَلَ الثَّوْراتِ؛ يعلو الذاتَ سُمْقَا!
ليس يرضى أن يذوبَ الصبحُ في
عينِهِ، والغَدُّ أن يلقاهُ سُحْقا!
وارتأى المحيا غريباً صادقاً
أيُّ عيشٍ ليس ترضى كان رِقّا!
قد تعدّى فَردَهُ حتى رأى
في هموم الخَلقِ ما يُصْليهِ حَرْقا
ورأى في الموتِ ما يُحيي الثرى
كبذورٍ حين يأتي الغيثُ تُسقى!
إنّ روح الفذِّ تحيا مولداً
يُرضِعُ الأزمانَ حين الموتَ يَلقى!

*أُلقيت على رواق بيت الثقافة في إحياء الذكرى الثانية والعشرين لرحيل شاعر الأمة «عبدالله البردوني».

قد يعجبك ايضا