إحياء يوم الولاية في اليمن ليس مناسبة ابتدعها أنصار الله فالغدير والولاية جزء من هوية المينيين، وهم يحتفلون بذكراها ويرسخون قيمها الدينية منذ المائة الأولى للهجرة، وتختلف مظاهر إحياء المناسبة من عصر إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى تبرز مظاهرها في أوقات وتنحسر في أوقات أخرى، لكنها لم تغب عن وجدان اليمنيين كجزء من عقيدتهم وثقافتهم.. وبين أيدينا هنا محاضرة للشهيد البروفيسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين في ذكرى ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام ألقاها في مسجد النهرين بصنعاء قبل نحو 26 عاماً.
ألقاها في مسجد النهرين بصنعاء – بتاريخ 21 ـ ذو الحجة ـ 1417هـ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بفضل بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وارض اللهم عن أصحابه الأخيار.. أما بعد:
فإن من السنة المعروفة بشأن أحوال الناس الإعراض من بعضهم، والتناسي من البعض الآخر، والنسيان من البعض الأخير، ولذلك نجد أن أحوال الناس هذه تتجسد في تاريخ الإنسانية من أولها، وما تعدد الرسالات السماوية، وتعدد الأنبياء والرسل إلا دليل على ما نقول.
وكل نبي يأتي ليضع الحجج التي تدحض المعارض، ويضع الأحكام التي تذكر الناسين والمتناسين، ومن ثم فإن الرسالات السماوية تبشر الناس وتنذرهم وتبين لهم الطرق التي سلكوها بعيداً عن الجادة القويمة التي أرادها سبحانه وتعالى للإنسانية منذ أن خلق أباهم آدم عليه السلام، ونحن نعلم جميعا أن الشرائع الدينية إنما أتت لتنظيم العلاقات المختلفة، فهناك العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعلاقة بين الإنسان والأسرة، والعلاقة بين الفرد والمجتمع، والعلاقة بين الفرد والكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، كل هذه العلاقات أتت الشرائع وكانت خاتمتها وأكملها شريعة نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
بل إننا إذا لاحظنا كثيرا من العبادات التي شرعت في ديننا الإسلامي الحنيف، فإننا سنجد أن فيها تذكيرا مستمرا للإنسان لما يمكن أن ينساه بسبب مشاغله وفي حياته وفي دنياه، نجد أن الله تعالى قد فرض العبادات على المسلمين، وتأتي في مقدمة هذه العبادات الصلوات الخمس، فإذا تأملنا في هذه العبادات وفي مقدمتها الصلوات، فسنجد أن فيها هذا المعنى الذي نقوله وهو التذكير المستمر للإنسانية، سواء ذلك الذي يؤدي هذه العبادات أو ذلك الذي يعرض عنها، أما الذي لا يؤديها فإن هذه العبادات تذكره باستمرار، فالصلاة مثلا، وقت الصلاة يذكره بها، والأذان يذكره بها، وذهاب الناس إلى المساجد وإيابهم منها يذكره بها، أما الذي يؤديها فإنه فيما يقوم به من حركات وسكنات في هذه العبادات إنما فيها تذكير مستمر له.
فلو نظرنا مثلا إلى الصلاة، لوجدنا أنها تذكره باستمرار بأمور كثيرة، فالإنسان عندما يدخل في الصلاة يكبر تكبيرة الإحرام (الله أكبر)، هذا تعبير يبين له ويذكره أن الكبير هو الله سبحانه وتعالى، وأن لا أحد مثله في عظمته وفي قدرته وفي ملكوته، وبالتالي يعلم الإنسان أن كل شيء ما دون الله صغير وعاجز وغير قادر، وذلك ما يجعل عبوديته خالصة لله تعالى، ويحرره من كل من يلجأ إليه من غير الله سبحانه وتعالى، ثم إنه عندما يقرأ الفاتحة فإنه يتذكر أن الحمد لله سبحانه وتعالى، وأن الله هو رب العالمين، وأن الله هو الرحمن الرحيم، وأن الله هو الذي نعبده، وأن الله هو الذي نستعينه، وأن الله هو الهادي إلى الصراط المستقيم، إلى غير ذلك مما في الركوع والسجود والخشوع من تذكير مستمر للإنسان بعظمة الله سبحانه وتعالى وبأحكامه، وبقدرته، وبما يجب على الإنسان أن يلتزم به في حياته الدنيا، ولهذا فإن العبادات ـ عندما شرعت ـ إنما المقصود بها مصلحة الإنسان وتذكيره بالله سبحانه وتعالى، بصورة مستمرة كي لا يقع في الهوى، وكي لا يخرج عن أحكام الله سبحانه وتعالى، وهكذا بالنسبة لبقية العبادات، ففيها مثل هذه العبر، فالصيام والزكاة والحج وغير ذلك من أنواع العبادات، بل إن الله سبحانه وتعالى يشير في محكم كتابه إلى أهمية التذكير باستمرار، فيتحدث عن هذا الأمر صراحة في كثير من الآيات القرآنية، من ذلك قوله تعالى:
« فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى»، «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ»، «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَع الْمُؤْمِنِينَ»، «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»، إلى آخر هذه الآيات التي تتحدث عن أهمية الذكرى.
ونحن نعلم أن الناس في حياتهم يعظمون كثيراً من المناسبات، ويجعلون لها أعياداً وأفراحاً، يظهرونها ويبتهجون لها، ويضعون لها القواعد التي تنظمها، بل إن هذه المناسبات مثلما تسمى بالأعياد الوطنية، أو المناسبات القومية، أو الذكريات التاريخية، يضعون لها كثيراً من الاحتفالات التي تبرزها وتبرز أهميتها، حتى أنكم تعلمون أن من مظاهر هذه الاحتفالات التوجه إلى مقابر مجهولة أو إلى تماثيل مجهولة تعظم وتطرح أمامها الورود والزهور، كل ذلك ليس إلا من باب التذكير بهذه المناسبة وتعظيمها وتجليلها حتى إذا كان في ذلك خروج عن شرع الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الاحتفاء والاحتفال بذكرى هامة من الذكريات الإسلامية إنما هي سنة حسنة، تندرج في إطار المقدمات التي أشرت إليها والتي أتى القرآن الكريم يتحدث عنها، بل إن الله سبحانه وتعالى قد حكى لنا قصص الغابرين من الأنبياء والمرسلين ومن الأمم التي عتت عن أمر ربها، وليس في ذلك إلا تذكير بأحوال تلك الأمم، لكي نأخذ العبرة من الصالح منها فنتبعه، ونأخذ العبرة مما هو سيء فنجتنبه، ونحن نتلو هذه القصص وهذه العبر تعبداً إلى الله سبحانه وتعالى بتلاوة هذا القرآن، وبالتالي نستخلص مثل هذه العبر لنستفيد منها في حياتنا الحاضرة.
والآن أدلف بعد هذه المقدمة إلى الحدث الذي نحتفل به هذه الليلة، هذا الحدث هو عبارة عن إعلان من رسول الله صل الله عليه وعلى آله وسلم، هذا الإعلان له زمان، وله مكان، وله موضوع.
أما الزمان: فهو في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة السنة العاشرة من الهجرة.
وأما المكان: فهو مكان يقال له غدير خم بين مكة والمدينة.
وأما الموضوع: فهو موضوع الإعلان، وهو إعلان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله على الحشود التي كانت معه من حجة الوداع، إعلان ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام بأمر من الله تعالى.
لقد قال رسول الله صل الله عليه وعلى اله وسلم لهذه الحشود وهو يخطبهم «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه» وأخذ بيد علي عليه السلام ورفعها تأكيدا لما قال.
وقد أتت هذه الرواية بهذا المعنى وبألفاظ مختلفة، من هذه الألفاظ «من كنت وليه فعلي وليه»، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعددهم كما تفيد بعض الروايات يربو على المائة ألف، فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقصد بمعنى «من كنت مولاه فعلي مولاه» أن علياً هو الأولى والأحق بالتصرف بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أتوا إليه يهنئونه ويباركون، ويصرحون معترفين بأنه أصبح ولي كل مؤمن ومؤمنة، وهذه الرواية مشهورة معروفة لا يستطيع أن ينكرها إلا جاحد لضوء الشمس في رابعة النهار، وقد أراد البعض أن يصرف المعنى السابق لهذا الحديث، إلى معنى أخر فقالوا : إن كلمة مولى لها معان كثيرة من ذلك الناصر، والوريث والأولى وغير ذلك، ولكن هذه المحاولات لصرف هذا المعنى عن حقيقته لا تثبت أمام الشواهد الناصعة الدالة على إرادة المعنى الذي أشرنا إليه، ويمكننا الآن أن نشير إلى بعض من هذه الشواهد:
أولا: أن هذا الإعلان قد جاء بأمر من الله تعالى، إذ نزل عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل هذا الإعلان قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»، وقد جاء هذا الإعلان تالياً لنزول هذه الآية الكريمة، ومن ثَمَّ فقد يقول قائل: إن الآية تطلب من رسول الله صلى الله عليه وعلى أله وسلم أن يبلغ للناس ما أنزل إليه من القرآن، ولكن هذا التفسير لا يستقيم مع الواقع، لأن القرآن كان يبلغه رسول الله صلى الله عيه وعلى آله وسلم أولا بأول، فما كان ينصرف عنه الوحي إلا ويتلو القرآن في اللحظة نفسها وفي الوقت نفسه، وبالتالي فلم يكن هناك ما يدعو إلى أن تأتي هذه الآية لتطلب من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبلغ القرآن، فالرسول لم يكن ليكتم شيئا من القرآن، ثم إن الآية قد تحدثت عن العصمة، «والله يعصمك من الناس» وفي هذه الآية دلالة على أن الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه: إن الله يعصمك ممن لا يرضى بهذا الحكم، وقد جاءت مشاهد على عدم الرضى بهذا الحكم، عندما اعترض البعض على هذا الأمر -كما تعلمون- ثم أصابه ما أصابه، بعد أن دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم إنه بعد أن أعلن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أمره به ربه نزلت الآية الختامية للقرآن الكريم، التي يقول الله تعالى فيها: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا» هذا أولاً.
ثانيا: هذا الإعلان قد جاء متمماً لمقدمات كثيرة:
جاء هذا الإعلان في نهاية المطاف ـ وذلك جرياً على هدي الشريعة الإسلامية في أن تأتي بالأحكام التي تصعب على الناس على مراحل ـ فهناك من الأحكام الخاصة بالأمور التي تعود الناس عليها في الجاهلية، وكان من الصعب عليهم أن يتركوها بصورة مباشرة، كان الإسلام يأتي بالأحكام على مراحل حتى يأتي الحكم الأخير بعد أن تكون أنفس الناس قد تهيأت لقبول مثل هذا الحكم.
أما ثالثا: فان هذا الإعلان، قد جاء منشورا على رؤوس الأشهاد:
وذلك في أكبر تجمع تشهده الساحة الإسلامية، في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو لم يكن المراد بهذا الحديث هذا المعنى الذي نشير إليه فإن الأمر لم يكن يحتاج إلى هذا الإعلان وعلى رؤوس الأشهاد، وبهذه الصورة التي لا يستطيع أن يحجبها حاجب، بل إننا إذا نظرنا إلى مسالك الناس في الوقت الحاضر، فإننا نجد أن الدول والحكومات عندما تريد أن تعلن أمراً هاماً فإن ذلك لابد أن يكون منشورا.
انظروا كيف تعمل الدول على نشر القوانين، وعلى نشر القرارات الهامة في وسائل الإعلام المختلفة، وذلك على خلاف ما تصدره من قرارات أو من تصرفات ليست لها أهمية هذه القوانين أو هذه القرارات الهامة، إن وسائل الإعلام تذيع الأمور المتعلقة بالناس جميعا، والتي يفترض أن يعلم بها الكافة، وبالتالي فإن العلم بها يحتاج إلى التواتر، ولا يحتاج إلى الآحاد، فالقانون ينشر في الجريدة الرسمية، ويعلن في الإذاعة والتلفزيون والصحف.
والقرارات الهامة بشأن التعيينات سواء أعضاء مجلس النواب أو أعضاء الحكومة أو أصحاب المناصب العليا، فان القرارات التي تصدر بشأنهم تنشر على هذا النحو من الإعلان الذي يفترض علم الكافة به، وهذا هو النهج الذي يمكن أن يدخل في إطاره كيف تم إعلان ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، حيث كان هذا الإعلان منشورا على رؤوس الأشهاد، وفي أكبر تجمع يشهده المسلمون في ذلك العهد، ولذلك فإن هذا الحديث قد جاء في كتب السنة النبوية متواترا، لا يستطيع أن يحجبه أي حاجب، بل إن المقبلي – رحمه الله تعالى – قال في كتابه (الأبحاث المسددة) شاهدا على تواتر هذا الحديث: «إذا لم يكن هذا معلوما فليس هناك معلوم»، يعني أنه إذا لم يكن هذا الحديث معلوما في الشريعة فليس هناك معلوم في الشريعة على الإطلاق، لماذا؟ لأنه قد أخذ من الشهرة ومن الانتشار ما يجعل ما دونه أقل منه في الرتبة، إذا لم يكن هذا معلوما فليس هناك معلوم.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
وأما رابعا: فإن المعاني الأخرى لتعبير «المولى» لا تنفي عنه المعنى الذي نشير إليه وهو الأحق والأولى بالتصرف، بل أن هذه المعاني تؤيد هذا المعنى وتصب في هذا الزاوية، فعندما نقول: الأولى، أو نقول: الوريث أو نقول: الناصر، فإنها تؤيد مثل هذا المعنى، ولا تنفيه بأي حال من الأحوال.
هذا الحدث، وهذا هو الإعلان، وقد أشرت لكم قبل قليل أن هناك مقدمات قد تقدمت عليه، لكي تهيئ نفوس الناس لاستقباله، وآتي الآن إلى ذكر ملامح من هذه المقدمات على سبيل الإيجاز:
أولاً ـ من القرآن الكريم:
قال الله تعالى «إِنَّمَا وَلِيّكُمْ اللَّه وَرَسُوله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ رَاكِعُونَ»
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين علي -عليه السلام- حيث تصدق بخاتمه وهو راكع، يؤدي الصلاة في المسجد، فنزلت هذه الآية بعد ذلك الحدث، وقد أراد البعض أن يصرف هذا المعنى عن أمير المؤمنين، بقوله إن التعبير القرآني جاء بصيغة الجمع «إِنَّمَا وَلِيّكُمْ اللَّه وَرَسُوله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا» فكيف يكون هذا التعبير خاصا بأمير المؤمنين علي، عليه السلام؟
يقول البعض هكذا، ولكنهم نسوا أن القرآن الكريم يسير على هذا النحو من التعبير، فيستخدم صيغة الجمع والمقصود به المفرد في كثير من الآيات القرآنية، ويكفي أن نشير هنا إلى آية قرآنية، حيث يقول الله تعالى في هذا: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ» هذا التعبير (الناس) المراد به شخص واحد هو نعيم بن مسعود، وهذا ما هو مجمع عليه بين المفسرين، ولا يحتاج إلى زيادة في الإيضاح.
فجاز التعبير هنا بصيغة الجمع والمراد به المفرد، وكذلك الشأن بالنسبة للآية الكريمة التي نزلت في أمير المؤمنين علي -عليه السلام- وتصرح بولايته حيث يقول الله سبحانه «إِنَّمَا وَلِيّكُمْ اللَّه وَرَسُوله»، ثم أتت الآية القرآنية القاطعة التي تدل على إرادة أمير المؤمنين حيث يقول الله سبحانه: الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون « وكانت هذه الواقعة لم تحدث إلا من أمير المؤمنين علي، عليه السلام.
ثانياً ـ من السنة النبوية المطهرة:
فإني أقتطف منها ما يأتي:
أولاً: بعد نزول قوله تعالى :»وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»، وكان ذلك في مبتدأ الدعوة الإسلامية، حيث كانت الدعوة في بدايتها سرية، ثم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يجهر بالدعوة، وأمره أن يبدأ بدعوة عشيرته الأقربين، فدعا رسول الله عشيرته الأقربين إلى بيت عمه أبي طالب، وكانوا حوالي أربعين رجلاً، حيث أبلغهم بأنه رسول الله، ودعاهم إلى الإسلام، ولما كانت الخلافة فرع النبوة، فإن الحديث عنها قد جاء في مبتدأ الدعوة، فقد قال له لهم رسول الله: (أيكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟» وهنا عندما سمع القوم الذين كانوا حاضرين هذا الاجتماع قاموا يضحكون، لأن أمير المؤمنين علياً -عليه السلام- وهو أصغر القوم، هو الذي قام إليه وقال: أنا يا رسول الله) عندما قال: «أيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قام علي وهو أصغر الناس في هذا المجمع وقال: (أنا يا نبي الله) فقال: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوه) فقام الناس يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لابنك، قاموا يضحكون وهم لا يدرون ماذا ستأتي به الأيام، وماذا سيصرح به رسول الله بعد ذلك.
أما ثانياً: فإن رسول الله عندما هاجر إلى المدينة المنورة، قام بمؤاخاة المهاجرين مع الأنصار فكان يجعل كل أنصاري أخاً لمهاجري، آخى بين مهاجر وأنصاري وهكذا. وكانت هذه هي أغلب الأخوة التي وقعت بعد هجرته، ولكن مما شذ عن هذه القاعدة، أن رسول الله لم يؤاخ بين نفسه وبين أنصاري، ولم يؤاخ بين علي أمير المؤمنين وبين أنصاري، بل آخى بين نفسه وبين أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقال: «هذا أخي» وهذا بطبيعة الحال له دلالة؛ لأنه قد جاء هذا الحكم على خلاف القاعدة التي سارت بين الناس، فلا بد أن يكون لها معنى، وهذا المعنى هو كمقدمة من المقدمات التي نشير إليها الآن لإعلان ولاية أمير المؤمنين في يوم غدير خم.
ثم ثالثاً: قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عند خروجه في غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقد جاء هذا الحديث لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف علياً -عليه السلام- في المدينة، لكي يقوم بالأمور هناك، فقام المنافقون وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استثقل صحبته فخلفه وراءه، فقام أمير المؤمنين ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له ما يردده المنافقون، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رؤوس الأشهاد: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» فرضي عليه السلام وعاد إلى المدينة.
وهنا جاء البعض وأراد أن يصرف معنى الولاية من هذا الحديث، فقال: إن هذا ينصرف إلى حياته وليس إلى بعد مماته، أي أنه منه كذلك في حياته، فإذا مات فلم تعد له هذه المنزلة، ولعلهم نسوا أن التعبير النبوي الشريف دقيق في ألفاظه، لكي لا يخرج عن المعنى الذي أراده رسول الله، فنحن نعرف أن هارون كان وزير موسى -عليه السلام- وذلك من سياق القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى في هذا الشأن على لسان موسى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} إلى آخر الآية.
فنحن نعرف أن الوزارة أي أن يقوم مقام الأًصيل عند غيابه، ولو أن هارون عاش بعد موسى لقام بما قام به موسى عليه السلام، ولذلك حرص رسول الله أن يبين المعنى فقال “ إلا أنه لا نبي بعدي” أي أنك تقوم بكل ما يقوم به هارون، باستثناء النبوة ولا يمكن أن تكون هناك نبوة بعد رسول الله، ولذلك أشار إليها، قال “ إلا أنه لا نبي بعدي” فإذا لم يكن هناك نبي فهناك الخليفة، ذلك النبي الذي يتلقى الوحي من الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الوزير الذي يخلفه في تنفيذ الشريعة التي أتى بها محمد، إن عبارة “ إلا أنه لا نبي بعدي” تدل على أن المراد هو أن هذه المنزلة هي بعد وفاته وليس في حياته عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك فإن قوله: “يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق”، فيه دليل على هذا المعنى الذي أشرنا إليه من قبل، وذلك لأن الخلافة كما أشرت قبل قليل فرع النبوة، فالنبي لا يكتمل الإيمان به بل لا يوجد الإيمان به إلا بحبه أكثر حب ممكن، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام” والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
ولذلك أتى عمر بن الخطاب إلى رسول الله فقال «أنت يا رسول الله أحب إلى من مالي وولدي إلا نفسي» فقال: «لا يا عمر والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال: أنت الآن أحبُّ إلىّ من نفسي. فقال: «الآن يا عمر» يعني هنا الإيمان، هذا هو الإيمان (لا يؤمن أحدكم) يعني الإيمان مرتبط بحب رسول الله، ويقابل ذلك عدم الحب أي الكفر، لأن ما يقابل الإيمان هو الكفر، إذن حب رسول الله شرط للإسلام والإيمان، أما أمير المؤمنين فإن حبه شرط لاكتمال الإيمان، فمن لم يحب أمير المؤمنين فإنه لا يكون مؤمناً وإنما يكون منافقاً، ولذلك فإن هذه الخصيصة التي لأمير المؤمنين هي فرع من الخصوصية التي لرسول الله، لا يكون هناك إيمان إلا بحب رسول الله، ولا يتم الإيمان إلا بحب أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإذاً بالنسبة للمسلمين أمير المؤمنين هو قسيم المنافقين والمؤمنين، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قسيم المسلمين وغير المسلمين أي الكفار، ولذلك فإن هذه فيها دلالة ومقدمة لإعلان الولاية الذي تم في غدير خم.
وهنا أشير إلى ملحوظة هامة وهي:
أن معظم هذه المقدمات التي أشرت إليها قد جاءت كشبيهة بالإعلان، فعندما قال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» كان على رؤوس الأشهاد، لأن المسلمين في طريقهم مجتمعين إلى غزوة تبوك، ثم إنه عندما آخى بين نفسه وبين علي أمير المؤمنين كان ذلك في محضر من المهاجرين والأنصار.
أي أن هناك تشابهاً بين هذه المقدمات وبين الإعلان الذي تم في نهاية المطاف على رؤوس الأشهاد، وفي أكبر تجمع من المسلمين.
بعد هذه المقدمات أشير إلى إعلانات أخرى شبيهة لهذا الإعلان السابق، تؤيده وتصب في زاويته وتقويه وتعضده، من هذا يعني أشير إلى مقدمة ونتيجة.
أما المقدمة:
وهي مما مهدت ليوم الغدير، أن رسول الله قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ونحن نعلم أن عترة رسول الله هم أهل الكساء، الذين ضمهم في ثوبه وقال (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).
ونحن نعلم أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين كانا ممن تحت الكساء بالإضافة إلى فاطمة الزهراء وعلى قمتهم رسول الله، وهذا ثابت في السنة وفي الصحاح، ولا يستطيع أن يجادل فيه أحد، ومن ثمَّ فإن الإعلام عن تطهير هؤلاء من الرجس، وإبعادهم عن الدنايا وعن الصغائر إنما في ذلك مقدمة لكي يتولى أمير المؤمنين أمر المسلمين بما خصه الله بهذه الخصيصة الكريمة التي لم ينلها غير من كانوا في هذا الكساء الشريف – هذه المقدمة.
أما النتيجة:
فإنه قبل أن تحضره الوفاة، أراد أن يكتب للناس كتاباً فقال :(ائتوني بقلم وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً) لاحظوا هنا في التعبير، عندما أربط النتيجة بالمقدمة إنما يكون ذلك بناء على أساس، فرسول الله عندما قال «أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبدا» يشابه تفسيره عندما قال «تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» التعبير نفسه مقدمة ونتيجة.
كانت المقدمة باللفظ، فأراد أن تكون النتيجة بالكتابة تأكيداً لما أراده، ولذلك فإن البعض الذين عرفوا قوله السابق، عرفوا مراده من هذا الكتاب، فأرادوا أن يمنعوا ذلك فقال قائلهم: «حسبنا كتاب الله».
لاحظوا في الحديث الأول: « تركت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، جاء في الحديث الثاني : «أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً» فمن فَهِمَ، فَهِمَ أن المراد أن يكتب الرسول بأن ما أتركه فيكم هو كتاب الله وعترتي، فمن فهم هذا قال «حسبنا كتاب الله»، يعني أن يمنع الشطر الثاني من الثقلين اللذين تركهما رسول الله في أمته، وعندما حدث الاختلاف وحدث اللغط في حضرته نهرهم وأخرجهم من مكانه.
ربما إني أطلت في الحديث، ولكن الموضوع طويل، والكلام كثير وأنا الآن لم أنته من الحديث عن جزئية صغيرة جداً وهي الإعلان إعلان ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، والكلام كثير. ولكني سأختصر الحديث وأقول:
ماذا يترتب على عدم الامتثال لحكم رسول الله؟
تترتب أمور خطيرة، ويكفي أن أشير إلى واقعة حدثت أدلف بعدها إلى ما نتحدث عنه:
ففي غزوة أحد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرماة بألا يغادروا مكانهم في الجبل الذي وضعهم عليه، حتى لو حصلت الهزيمة للمسلمين، ولكنهم عندما رأوا المسلمين في مقدمة النصر تركوا أمكنتهم ونزلوا مخالفين أمر رسول الله، فكانت العاقبة أن انقلب النصر إلى هزيمة، حيث هزم المسلمون في تلك الواقعة وما كان ذلك إلا عقاباً لمن؟! للذين خالفوا أمر رسول الله، وقد عم العقاب المسلمين جميعاً، ولم يقتصر على أولئك المخالفين.
فعندما نعود إلى الأثر المترتب على عدم تمكنه عليه السلام من الولاية بعد وفاة النبي سنجد أنه ترتبت أمور عديدة يمكن أن أشير إلى بعض منها باختصار منها:
عدم وجود قاعدة إسلامية لنظام الحكم حتى الآن؛ فهناك العديد من الآراء، وهناك الكثير من الاختلافات، وهذا يقول بهذه الطريقة، وهذا يقول بتلك، وهذا يأخذ بخلافة فلان، وهذا يقول بولاية علان، وهذا يأخذ من العالم المعاصر، وهذا ينقل من أمم الكفر… وهذا إلى غير ذلك.
ثم بالإضافة إلى ذلك فإن الخلافة الراشدة سقطت بعد ثلاثين عاماً، بالرغم أن المفترض أن تستمر الخلافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك تجدون الأنظمة اليوم تعددت فمنها: الملكيات، ومنها الجمهوريات، ومنها السلطنيات.
ثم هناك الديمقراطيات، وهناك البرلمانيات، وهناك الرأسماليات، وكثير من الأنظمة المتعددة، وما كان ذلك إلا بسبب عدم الالتزام بالقاعدة التي أرادها رسول الله. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد.
ثم إن الولايات أصبح ينظر إليها على أنها مغانم، ولذلك يتقاتل الناس عليها، ويصطرعون من أجلها، في حين أن الأساس أنها مغارم، وليست مغانم، فالذي يتولى أمر المسلمين إنما يحمل عبئاً ثقيلاً تنوء به كواهل الرجال الشداد، ولذلك فإنه لما كان رسول الله يعلم من قوة أمير المؤمنين ومن قوة إرادته وإيمانه وعزيمته وما يؤهله لذلك فإنه قام بتكليفه بمثل هذه الولاية.
تنظرون الآن أن الولايات مغانم، يذهب الناس إليها بهذه الطريقة أو بتلك، ويتقاتلون عليها، ويتجادلون ويتنافسون في كثير مما تشاهدون في عالمنا المعاصر.
أكتفي بهذا القدر، وأرجو أن ألتقي معكم في مناسبات ولقاءات أخرى، لألقي كثيرا من الأضواء التي ليس لها حد، وليس لها نهاية على هذا الحدث، وما لحقت به من آثار حتى اليوم.
اللهم إنا نؤمن بك إلهاً واحداً لا شريك لك، ونؤمن بمحمد نبياً ورسولاً خاتماً إلى الناس أجمعين، ونؤمن بأن أمير المؤمنين علياً مولىً للمؤمنين جميعاً.
اللهم أتم لنا إيماننا، وأتمم علينا نعمتك، واحشرنا في زمرة نبيك، واسقنا من حوضه بكف وصيه مولانا أمير المؤمنين علي شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ربنا آتنا في الدينا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد.