عن الفكر والرأي مفتاح بناء الدول
يكتبها اليوم / عبدالعزيز البغدادي
لا نقصد بالعنوان النقد الأدبي بما يعنيه من تشريح للنص أو العمل الأدبي والفني من قصيدة أو قصة أو رواية أو لوحة أو نصا مسرحي وو..، ما نقصده هنا هو نقد الأوضاع الإدارية والاقتصادية وأداء السلطات في تسيير مؤسساتها وهيئاتها باعتبار السلطة الركن المتحرك من أركان الدولة والموظفة في خدمة الركنين الأكثر ثباتاً وهما الشعب والإقليم والمقصود بحركة السلطة قابليتها للتغيير والتغير طبقاً لحاجة الشعب وما تحدده مبادئ وقواعد الدستور والقانون كما تبينها المبادئ الدستورية الحديثة التي حلت محل قواعد الغلبة وحكم الفرد المستبد سواء بطغيانه المباشر أو باستخدامه خديعة الخلط بين الدين والعلم هذا الخلط الذي يسيء إليهما معاً أي إلى الدين والدولة.
ووظيفة التغيير والتغير وفق هذا المبدأ وظيفة جوهرية لسلطات الدولة إن لم تقم بها انتفت شرعيتها ومبرر وجودها ، وللتأكد من حسن أدائها لهذه الوظيفة عليها أن تتلمس ذلك سواء من خلال رقابة ذاتية أو من خلال الرأي العام والصحافة والإعلام الحر وهو ما يوجب احترام حرية الفكر والرأي والتعبير عنهما بكل وسائل التعبير المرئي والمسموع والمكتوب باعتباره السلطة الرابعة كما يطلق عليها وهي سلطة رقابية شعبية تراقب أداء السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية وتفضح ممارساتها الخاطئة أو فسادها حيثما وجد ، وتعكس كيفية تعامل سلطات أي دولة مع هذا المبدأ مستوى نضج ووعي أو تخلف هذه السلطات ، ولهذا تحرص دساتير الدول الديمقراطية على ضمان حرية الفكر والرأي والتعبير عنهما بكل وسائل الإعلام باعتبارها ملك الشعب وليس منة من الحاكم ، وتهتم إيجابياً بكل ما تنشره من انتقادات لأشخاص ومؤسسات وسلطات الدولة ، والاهتمام الإيجابي يعني تتبع الأخطاء والممارسات السلبية التي تتناولها وسائل الإعلام لإصلاحها وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب بحق مرتكبيها وليس التعامل مع الوظيفة العامة وفق مبدأ التسامح وكأنها ملكا خاصا لصاحب القرار فالسلطة أمانة والتفريط فيها خيانة ، ويجب الحرص على عدم تعريض من يمارس حرية النقد والتعبير عن الرأي لأي نوع من المضايقات بل أن يوضع موضع التقدير والتكريم لأن الناقد الحر نبض الشعب والمعبر عن وجدانه ومعاناته ومن يتولى السلطة لا بد أن يتحلى بقدر عال من المسؤولية ورحابة الصدر والوعي والإدراك يدفعه لتفحص ما ينشر وتلافي ما يمكن تلافيه من أخطاء وسلبيات والاستفادة منها في وضع الخطط المستقبلية للنشاط محل النقد.
والتبرم من النقد بالخطابة أو التعبير بأي وسيلة أخرى عن ضيق الصدر ممن يشرحون الأخطاء واتهامهم بالإرجاف وتمزيق الصف وإضعاف الجبهة الداخلية إنما هو هروب من المسؤولية الدينية والأخلاقية والقانونية ودعم لمن يمارسون تمزيق الصف حقيقة بسوء تصرفهم، أما تعريض الناقد لأي مستوى من المضايقات فإنها جريمة من جرائم إساءة استخدام السلطة.
ولاشك أن الظروف الاستثنائية تستوجب التعامل معها بمسؤولية أكبر ولكنها ليست سببا يبيح للسلطات إلغاء الحريات وتكميم الأفواه ومحاصرة الأفكار وإنما تضاعف المسؤولية على السلطات في أن تكون علاقتها بالثقافة والمثقفين وأصحاب الرأي أكثر رقياً وتقديراً لقيمة الثقافة والعلم وبما يتوجب معه سرعة التحرك ضد الأخطاء المرتكبة وعلى أصحاب الرأي الناقد كمسؤولية قانونية وأخلاقية أن يراعي في لغته انتقاء العبارات غير الضارة بالمصلحة العامة وفي جميع الأحوال فإن صاحب الرأي يجب أن يبقى حراً في ما يراه كي يبتعد عن خانة النفاق وهو في نفس الوقت مسؤول عن آرائه ومعيار هذه المعادلة موضوعي يحدده مقتضى الحال ، وعلامة إحساس الموظف العام بالمسؤولية في أي موقع من مواقع السلطة مدى حرصه على تلمس الآراء الناقدة التي تكشف مكامن الأخطاء والأخطار وبؤر الفساد ابتداءً بالأكبر فالأصغر وليس العكس ، أما من يسعى لإسكات الأصوات وتكميم الأفواه فإنه يدفع بنظامه إلى حافة الهاوية وبالمجتمع إلى الفوضى والضياع وبالأوضاع الأمنية إلى الانهيار وللانهيار حالات منها المكشوف ومنها ما تحت الرماد ومن يتغافل عن ذلك هم من يدسون رؤوسهم في الرمال عند الأخطار كما تفعل النعام !.
حين يطوي العقول الظلام
يغيب الطغاة عن الوعي
تجرفهم شهوة الحكم