غاردينيا.. رواية تحلِّل شخصية السلفي وتحولاته المستحيلة

الغربي عمران

قلة هم من يشرعون في كتابة أعمالهم بدون تخطيط مسبق. منيف الهلالي في روايته «غاردينا»- الصادرة عن دار عناوين، القاهرة، أواخر العام 2021. – تظهر تلك المحطات التي عاشتها الشخصية منذ بداية الرواية وحتى نهايتها بتخطيط يسبق الصياغة، لحياة «الشيخ محمد»، ويمكن تلخيص تلك المحطات في ىالتالي:
– تخرج الشيخ محمد من مركز لتعليم الحديث وعلومه، بحصوله على إجازة تجيز له فتح مركز وتعليم الناس كشيخ، ليقضي سبع سنوات، بداية بتأسيس المركز لتعليم أصول الدين على النهج السلفي.
– يصاب الشيخ محمد بشظية طلق ناري بالخطأ، يُسعف إلى ألمانيا ويتم علاجه، ومن ألمانيا يقاد إلى الولايات المتحدة بتهمة معاداته للأمريكان. ليودع في أحد السجون، اثناء ذلك يزامل المصري «جبران» الذي يغير الكثير من تشدده السلفي. يفرج عنه بعدها بضمان أحد المغتربين، ويستقر للعمل في نيويورك.
– تلفت انتباهه فتاة أمريكية أثناء عمله في متجر ، يجد تفكيره مشغولاً بها، وهو المتزوج ب» سلمى» ابنة خاله ولديه منها ثلاثة أولاد، والتي تعيش على أمل عودته إلى اليمن. الشيخ محمد يتخلى عن شعر ذقنه الطويل، وشال رأسه وثوبه الأبيض القصير اتقاء المراقبة من أجهزة الأمن. ذلك الشكل الذي يميز السلفيين عن الفرق والطوائف الإسلامية الأخرى.
المحطة الرابعة والأخيرة زواجه من الفتاة التي عرف أن اسمها «غاردينيا»تلك التي ظل يبحث عنها منذ رآها أول مرة، حيث التقى بها في حفل أحد أعياد رأس السنة الميلادية، صافحها وحدثها عن مشاعره، ليكتشف أنها تحمل له نفس المشاعر، يتزوجان لكنه لم يهنأ فبعد أشهر من السعادة.تنهي حياته رصاصة مجهول، لتنتهي الرواية بمقتله.
تلك المحطات هي محور وعمود الرواية الفقري ، إذ أن حياة شيخ سلفي متشدد، يتحول إلى محب وعاشق في الوقت الذي ظل فيه يحمل نفس الأفكار، وذلك ما يوحي بروعة التخطيط لمسار أحداث الرواية، والتي تجلت في تغير وعي الشيخ السلفي، وإمكانية أن نتقبل أي سلفي عاشق للحياة ومحب للجمال، بل وأديب ومبدع!
ذلك ما أراده الكاتب لشخصية روايته المتشددة لمتشرب لأفكار التطرف الديني، حيث اختار الهلالي شخصية ذات فكر سلفي متحجر، مسلطاً الضوء عليه منذ بداية تخرجه، وتلك الصدامات مع فطرة المجتمع، نتيجة لما يحمل من فكر تجاه فكر الناس من حوله، إلا أنه استمر يرى ما حوله باطلاً عدا ما تم تلقينه من فكر السلف.ليسعى إلى تغيير فكر الاعتدال والفطرة عبر دروس مركزه الذي ظل لسبع سنوات يدرِّس الفكر السلفي.
الهلالي يبسط في شرحه للتمييز بين تيار السلف المتشدد، والمتمثل بالجماعات الجهادية، مثل الدواعش، والقاعدة والعديد من الفرق التكفيرية والجهادية التي ينتشر نشاطها في العراق والشام واليمن وليبيا وبقاع كثيرة من العالم،وشوهت الدين الإسلامي، حين قدمت نفسها ممثلة له من خلال نشر الإرهاب والعنف في قارات العالم، لتغير وجه الدين السمح بنهجها المتشدد والعنف المسلح أينما حلت. موضحا اختلافها عن جماعات السلف الدعوي. هنا قد يختلف القارئ معه في عدم الفصل بين السلفي الدعوي، والسلفي الجهادي من خلال التعاليم التي يتشربونها من منبع واحد، فالدعوي تدعو إلى للتشدد وما الجهاديون إلا مترجمين لما يدعو إليه من يسمون بالدعويين. والجهاديون ما هم إلا وليد وابن شرعي لجماعات الدعوة السلفية الذين يرون في أنفسهم أنهم الجماعة الناجية، وما عداهم كفار يستحقون القتل.
الهلالي في روايته قدم إمكانية تغير السلفي، وذهب بالشيخ محمد إلى أن يعيش في أمريكا ويتقبل مجتمعها، بل ويعشق مسيحية ويهيم بها عشقا ويفتتن بها، ويذهب به بعيدا، ليقرأ للرومي، وأجاثاكرستي، وهمنجواي وبورخيس… حتى لغة الشيخ محمد منذ بداية سرده لأحداث الرواية كراو لها،ومنذ أول أيام تخرجه يسرد ويصف بلغة أدبية راقية لا تمت لمصطلحات السلفيين الجامدة بصلة، بل هي لغة مثقف منفتح، عدا بعض مما كان يستشهد به مثل إيراد أي من الذكر الحكيم،أو أحاديث نبوية ليدلل على تشدده وتطرفه في الرأي.
ومن ذلك ندرك مغامرة الكاتب في تطويع النص إلى فكر يؤمن به، مغامرة فريدة أن نجعل من أتباع تلك الطائفة من يمكن أن يتغيروا إلى مثقفين ومبدعين، ولو عن طريق استشراف الأمل في التغيير لما هو أجمل، وهذا حس إنساني راق في زرع أمل أن يتغير ولو فرد واحد من قبح ضاق العالم من طوائفهم. وإن كان ذلك يعد من الخيال أن يجتمع فكر التسامح وحب الجمال والإبداع بنقيضه!
يجنح الهلالي إلى التفاصيل الصغيرة.. لنتعرف على جغرافية المكان، بداية بمجتمع الشعر، وانتقالا إلى مجتمع الغرب، شوارع وأحياء مدن أمريكية، مجتمعاتها المتناقضة بين الغنى الفاحش والفقر الذي لا يصدق في بعض أحياء نيويورك، وكذلك حياة المغتربين هناك.
الكاتب استخدم تعدد الأصوات لسرد الأحداث، الشيخ محمد أبرزهم، ما أعطى سلاسة، ومتعة التنوع لدى القارئ.
شخصيات الرواية كثيرة، ومتنوعة الثقافات والأديان، فمن الشيخ محمد إلى: كنت المحامي وجبران المصري وجورج اللبناني وسلمى زوجة الشيخ،إلى يوسف وسلطان وحسن ومحمود وسليمان وطه وعمر وصابرين إلى غاردينا حبيبة الشيخ وزوجته الثانية… كل تلك الأسماء وغيرها كانت لها أدوار متفاوتة،ذات أبعاد اجتماعيه.
أظهر الهلالي قدرة في تقديم حياة مجتمعات مختلفة، من ريف اليمن «الشعر»، من يعتمدون على تحويلاتهم من ذويهم المغتربين، تعامل المغترب العائد من المهجر، وصرف ما ادخر، ليفرض إرادته وسطوته وماله على بعض من يدعيهم خصومه، بإظهار قدرته على القهر والبطش بهم، إلا النادر منهم من يسعون لاستثمار أموالهم في البناء وإقامة المشاريع التجارية. أيضا سلط الضوء على أوضاع المهاجرين في أمريكا، ومعاناتهم بداية بالبحث عن عمل، الإقامة والتجنس.عادات وتقاليد حملوها ويتمسكون بها في بلاد المهجر.
الوصف الفضفاض وتلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تقود إلى تشظيات وتفرعات حكائية، تبعث على توهان القارئ. أبرزها، حكاية ذهاب الشيخ محمد إلى ابن عمه محمود في مدينة أمريكية أخرى، استغرقت عدة صفحات، وغيرها، ذلك ما يؤكد قدرة الهلالي على الحكي، بل والحكي المضاعف. وتلك الملكة يفتقر إليها كثير من الكتاب، إلا أنها إذا زادت فقد تبعث على الملل. إذ كان بالإمكان الاستغناء عن تلك الشروحات والحكايات الفرعية، فيكون أفضل، لتخرج الرواية المقاربة لمائتي صفحة. ولو بمائة وخمسين صفحة، فالتكثيف أجدى من التطويل.
بعد إتمام قراءتي لغاردينا، تساءلت وأنا أفكر في الكتابة حول موضوعها وفنياتها: هل الكتابة حول أي عمل أدبي محاكمة، البحث عن مواطن الضعف، أم عن مواطن الجمال وما ترمي إليه الرواية؟ أم أن الأمر أشمل وأكبر بشمول كل ذلك؟ لأجدني أكتب ما كتبت، وأستميح الكاتب عذراً في بعض الجمل، إلا أن عذري أني كاتب وزميل لا أكتب إلا عن عمل أعجبني طرحه وأسلوب كتابته. ومنها هذا العمل الجريء.
الهلالي أفرغ ما بجعبته، مستغلاً ثراء معرفته عن حيوات عاشها، أو رحلات شارك فيها، وحكايات لأشخاص سمعها وأعجب بها، وهو المثقف والأديب المتمكن، ليظهر لنا ذلك من خلال لغة الشيخ محمد الراقية، وتلك المعارف المتنوعة والروح السمحة التي لا يمكن لشيخ سلفي أن يمتلكها، لكنني تخيلتها روح الهلالي المنفتحة ولغة المثقف والكاتب الراقي.
إضافة إلى تلك الحوارات الباعثة على التساؤل، حوارات الشخصيات بعضها مع بعض، وحوارات ذاتية تدور في ذهن كل شخصية كعصف ذهني يثير العجب لعمقه ولما ينتج لدى القارئ من تداعيات فكرية ممتعة.
غاردينا رواية مختلفة في كثير من جوانبها الموضوعية، وتجربة تضاف لمسيرة الهلالي التي تنبئ عن أديب يمتلك أدواته السردية.
فاختياره لأن تكون شخصية عمله الرئيسة شيخ سلفي، شخصية ليست من بين أولئك المتأثرين من عوام الناس، بل شخص دارس لعلوم الحديث، حامل لإجازة تبيح له تدريس ما اكتسبه من مشائخه من علوم دينية، لتفريخ أمثاله بين أوساط المجتمع الريفي.. الهلالي يسلط الضوء على هذه الطائفة من خلال تحول شخصية متحجر شكلاني، لا تسيره إلا نصوص حفظها، ولا يركن للعقل، ويصبح شخصاً مؤثراً بلغته وتسامحه، وقراءته لأرقى فنون الأعمال الأدبية، بداية يتغير شكلاً، مقدماً له كشخص متسامح يؤثر في أوساط المجتمع الأمريكي الذي يعيش فيه، أكثر مما أثر في مركزه الذي أنشأه في مديريته الريفية، رغم بقائه يدِّرس هناك سبع سنوات، ينفث تشدده في عقول مجتمعه، وينشر التشدد وإقصاء من يخالفه، ليظهر أكثر قوة في محيطه الجديد نيويورك. قدرة خارقة لروائي أظهر تمكنه بأول عمل روائي في كيفية وضع شخصية مركبة. بل وينجح في احتمال ترك إبليس لدوره، وقد تحول إلى ملاك، وهذا ما يبشر بقدوم روائي متمكن، فإن كان هذا العمل الروائي هو الأول، فكيف نتخيل عمله الثاني أو الخامس أو العاشر؟ ما أسعدني وأنا أنتظر العمل القادم لكاتب أنا على ثقة بأنه سيكون له شأن.

 

قد يعجبك ايضا