وأخيراً خلعوا الأحذية القديمة
يكتبها اليوم / عبدالرحمن مراد
لم تكن فكرة المشاورات اليمنية – اليمنية التي تحتضنها الرياض إلا سيناريو لمشاهد سبق الاتفاق على حركتها وحوارها، وها هي تفصح عن نفسها في القرارات التي لا يعلم عنها فريق المشاورات السياسية شيئا، وربما شكلت حالة صادمة للكثير ممن ظنوا أن المشاورات فكرة يمكنها التحقق في عاصمة هي نفسها لا تعترف بالآخر ولا بمبدأ الحوار والمشاورات، فما بالك حين تكون تلك العاصمة تريد رسم خارطة طريق للخروج من المأزق اليمني .
لم يكن هادي إلا مجبرا وهو يعلن قراره في نقل صلاحياته إلى مجلس قيادة، وكان مجبرا في السنين الخوالي على ما فعله أو قاله أو أصدره من قرارات، فالتابع لا يمكنه أن يمتاز بصفات القائد مهما بلغت به الأحوال والإمكانات من مبالغ أو فتحت له من آفاق، واليمن تعرف ذلك من حقائق التاريخ، فالجغرافيا اليمنية عبر تاريخها تنبيك بخصائصها ومميزاتها، ولذلك لا أرى التاريخ إلا أنه يعيد تجسيد نفسه في مشاهد ربما كانت على اتساق تام مع مماثل لها في القرن الماضي، وسوف يتكرر ذات السيناريو لكن سوف يتغير جوهر الأشياء، فالتبعية أمدها لن يطول زمنه، وقدرة السعودية على فرض أسباب الخضوع، ومحاصرة أهل اليمن بعناصر الهيمنة أصبحت مفقودة وغير قابلة للتحقق، فالمتغير الثقافي الذي حدث خلال السنين الخوالي بسبب العدوان وتداعياته ترك أثرا عميقا في البنية الديمغرافية وفي العلاقات الجيوسياسية بين اليمن والسعودية، وهذا التحول قادر على بعث اليمن حتى يستعيد مركزيته الثقافية والسياسية والحضارية والتاريخية .
اليوم اليمن أصبحت أمام مفترق طرق، فأمامه طريق المآلات التاريخية، وأمامه طريق المستقبل، وأمامه طريق العمالة والتبعية وكل المؤشرات تقول إن اليمن استفاد من كل تجارب القرن العشرين وهو اليوم في حالة مخاض وقد يختار طريق المستقبل ويستلهم من عراقته وتاريخه وألقه الحضاري القديم وهجا جديدا قادرا على صناعته وفرض وجوده الحضاري في خارطة العالم الجديد الذي يتشكل اليوم ويخوض معارك وجوده في الكثير من بقاع الجغرافيا شرقها وغربها.
طي صفحة هادي فكرة قديمة وليست بالجديدة، بل كان متوقعا ذلك بالاستناد إلى تاريخ الخيانات والعملاء في كل حقب التاريخ، وقد سبق لي الكتابة عنها في أكثر من مقال، ولعل أقرب إلى الذاكرة مقال بعنوان ” الرغاليون الجدد ” وفيه تحدثت عن مرتزقة الزمن الحديث وعن العمالات، وفصّلت القول عن المآلات التي يصلون إليها، ومنها هذا المصير المجهول الذي سوف يمزقهم كل ممزق، ويصبحون علامات منتشرة في أصقاع الأرض للعظة والعبرة ليس أكثر، فمجلس القيادة المشكّل سيظل عاجزا كل العجز عن تحقيق أي تقدم أو إحداث متغير، فجُلّهُ من الذين لا يملكون رؤية وليس في بالهم إلا الخضوع وتمكين المستعمر من مفردات اللعبة في اليمن، خاصة وأن هناك مِنْ بينهم مِنْ قالت الأيام بانتمائهم إلى جهاز المخابرات البريطاني وقفزوا إلى المناصب بدعم لوجستي من أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية، فالانتقال كان واضحا، فبريطانيا ما زالت تمسك بالقرار في اليمن خلال شبكتها المحكمة التي صنعتها في الماضي وما تزال تسير بنفس السياسة دون تحديث أو تغيير، فهادي كان جاسوسا لبريطانيا، وفي سيرته الذاتية أحكام تدينه بالتجسس لصالح دولة أجنبية.
إذن مجلس القيادة الذي نقل هادي صلاحيته إليه هو حامل المشروع الاستعماري الجديد، وقد يستند إلى مرجعيات جديدة هي مشاورات الرياض ووثيقة إعلان الانتقال وبها ومن خلالها يشرعن لواقع جديد رسمه المستعمر وهو يعلم طرق الوصول إلى غاياته، فالعميل لا يرى الوطن ولكنه يرى بريق الذهب ويسمع خشخشة الورق الأخضر، وهو يدرك أن الوطن لا يقبله منتميا إليه ولذلك يساوم الوطن فهو يستبدله بدراهم معدودات ويبيعه بثمن بخس كمعادل موضوعي بعد أن التبس عليه مفهوم الانتماء والوطنية والسيادة والاستقلال والحرية ووجد نفسه في حالة تيه وضياع دون مبادئ ولا قيم ودون فكرة تنظمه في عقد من المثاليات .
“من يهن يسهل الهوان عليه”، وتلك من المسلَّمات التي يمكننا القياس عليها في كل الأحوال والظروف، فهادي يشعر اليوم بحالة هوان وذل وصغار، لكنه ينظر إلى المال الذي حصل عليه فيجد تعويضا نفسيا مؤقتا سرعان ما يصحو على فكرة فطام السلطة التي سوف تسلمه إلى العجز والشلل التام وربما الموت، وسوف يذهب إلى قبره ملعونا مدحورا دون أن تدفع عنه الأموال التي جناها شيئا من الذل والهوان ومن لعنة التاريخ التي سوف تلاحقه .
ومثلما خلعت بريطانيا حذاءها القديم سوف تخلع حذاءها الجديد، فكل مرحلة تتطلب حذاء جديدا، والمرء حيث يضع نفسه، ومن يرى، ثم يتأمل، ثم يعتبر بالقياس، فإنه من المفلجين الذين قد ينقذون أنفسهم من لعنة التاريخ والناس .
ولا مناص لكل الذين خاضوا تجربة العمالة في السنين الخوالي فباعوا وأهدروا مقدرات اليمن وساهموا في قتل وتدمير بلدهم وتجويعه من العودة إلى جادة الصواب والانتصار لليمن وتاريخه والشروع في حوار جاد لبناء الدولة اليمنية وتسليم اليمن لجيل واع خاض تجربة الدفاع عنه ولم يساوم في ترابه لحظة وهم في كامل الاطمئنان وينتبذون أمكنة لهم يكتبون مذكرات خيانتهم حتى تطهر أنفسهم من درن الخيانات والعمالة.