الصحفية الفلسطينية سما حسن لـ”لثورة”: رمضان في فلسطين.. ذكريات لا تنسى

 

لم تكن أبداً كل هذه المظاهر حولنا قبل سنوات طويلة، حين كنا صغاراً، وحين كانت حياتنا بسيطة. لم يكن كل ذلك على الإطلاق، ولكن كنا سعداء. كنا ننتظر رمضان بلهفة ونحن لا نعرف منه سوى صوت المؤذن وانطلاق المدفع من بعيد، والمسحراتي الذي يوقظنا، وكذلك القطايف الشهية التي نتسابق في تقديم حباتها لأمّنا لكي تقوم بحشوها بالمكسرات، ونراقب لونها الذهبي بعد أن تشويها أو تقليها، ثم تغرقها في السائل السكري، ولكن كنا نحيا في متعة لا توصف، نختمها ونحن ندّعي أننا نصوم ونخرج ألسنتنا المبيّضة أمام أبائنا وأمهاتنا.
كل هذه المتعة كانت تسبقها وليمة جدي – رحمه الله، وليمة يوم “الفجعة” أو اليوم الأخير قبل رمضان، حيث كان جدي يثير شغفنا وفضولنا لكي نعرف الوجبة الشهية التي ينوي إعدادها لنا أنا وإخوتي، حين نكون في ضيافته ونتحلّق حوله، ثم يبدأ في إلقاء الأوامر التي نتسابق على تلبيتها، وهكذا نتسابق لكي نحضر خيارة ، وحبات بندورة منكمشة على وشك أن تتلف، ونصف ليمونة، وبقايا زجاجة زيت زيتون، وأرغفة خبز جافة، ثم يرسلنا لجاره القريب في طلب بعض أعواد البقدونس الخضراء، ثم يتذكر البصل، ويكتشف أنه لا يملك سوى بصلة واحدة يدقها ثم يهرسها حتى تسيل دموعه.
كل ذلك ونحن نسمع صوت عصافير بطوننا، ونكتشف في النهاية أن الفجعة أو وليمة جدي هي الفتوش، أي سلطة وبها قطع خبز.
ولكننا كنا سعداء وفرحين جداً، ولم نكن نعرف سوى هذه السعادة البسيطة، ولم نكن نحلم سوى بهذه الأيام الموسمية، وكان مذاق الفتوش ينافس وبجدارة، ويتصدر أي قائمة مشتهيات في ذلك الوقت، خاصة في زبدية الفخار التي يملكها جدي منذ أن كان في موطنه الأصلي (يافا).
تلك الذكريات تداهمني ونحن على أعتاب شهر رمضان، وغداً سيكون يوم الفجعة الذي عشت تفاصيله الجميلة مع جدي الذي غاب عن عالمنا هذا في العام 1992م، والذي ترك لنا زبديته تحت سريره، وبعد أيام كثيرة على رحيله مددت يدي لكي أتناولها من تحت السرير، فخرجت مقسومة إلى قسمين فتعجبتُ، واكتشفت أنها قد تأثرت وخرّت صريعة لوفاة صاحبها وليس العكس.
يوم الفجعة كان قديماً بوجبة لذيذة وشهية، ومغذية ومشبعة وغنية بعناصر غذائية لا تعد ولا تحصى، وبينها رائحة أصابع جدي السميكة والطويلة والمجعدة والمتغضنة، والغائرة الأظافر، ولكنها أجمل من أصابع أشهر عازف بيانو في نظري وقلبي، وكنت أتابعها وهي تتحرك بخفة ومهارة ودراية في الزبدية، وأتعجب من طول بال جدي وهو يحرك الخبز الجاف المقطّع حتى يذوب بين مكونات السلطة، لكي يصبح طرياً ويستطيع أن يلتهمه؛ لأن فمه كان فاقداً لمعظم الأسنان في الحقيقة.
الحقيقة، إن ذكريات الطفولة مع يوم الفجعة لا يمكن أن تنسى، وهي محفورة في قلوب أبناء جيلي الذين عاشوا تلك الأيام الجميلة، ويوم أن كان هناك بيت للعائلة وبيت كبير واسع يجمع الصغار والكبار، فيه محبة وألفة وأنس واحترام.
كنا نحترم جدي، ونرى أن طلباته أوامر نتسابق لتلبيتها، ونكون بين يديه وهو يجلس فوق الحصيرة الممزقة ويفرد ساقاً ويثني الأخرى ويرتدي السروال، وينتظر بفارغ الصبر حتى نعود واحداً تلو الآخر بطلباته، التي لم تكن سوى حبة خيار وبضع حبات بندورة، ولكنه كان يرى أنه يمتلك ثروة يوزعها في أماكن خفية وغريبة، مثل أن تكون الخيارة تحت النملية “خزانة المطبخ”، وأن تكون حبات البندورة في سلة البيض المصنوعة من القش، وهكذا كنا نتسابق ونلهث ونعود مثل الطيور، ونقع بين يدي جدي وننتظر الوليمة، وما أشهى تلك الوليمة.

قد يعجبك ايضا