هل تُفلح تظاهرات "حرق المراحل" في إنتاج خارطة سياسية جديدة؟
كتالوج “الربيع العربي” ينذر بجر السودان نحو المجهول!
أكثر ما يستبعده السودانيون اليوم أن تؤدي التظاهرات المطالبة بإقالة المجلس العسكري إلى إنتاج خارطة سياسية جديدة تعيد السودان إلى المسار الانتقالي التوافقي، ومع ذلك تتصدر العديد من القوى السياسية ولجان المقاومة قيادة الشارع في تظاهرات تصر على حرق المراحل، بمطالبها إسقاط المجلس العسكري وفرض مدنية الدولة دون أن تكون لديها بدائل جاهزة تستطيع الإجابة على سؤال: وماذا بعد؟
تحليل / أبو بكر عبدالله
لم تمض سوى 6 أسابيع على توقيع اتفاق البرهان ـ حمدوك حتى عاد السودان إلى مشهد سياسي ضبابي مثير للقلق، بعدما قلص مكامن القوة لدى أكثر الأطراف السياسية بما في ذلك المجلس العسكري الذي ظل محافظا على هامش مناورة واسع للتأثير على المشهد السياسي في السوادن، قبل أن تحوله تظاهرات “إسقاط المجلس العسكري” والمواقف الدولية المناهضة للمجلس وتوجهاته لاعبا ضمن لاعبين آخرين في مشهد أزمة متصاعد.
هذا المشهد أنتج أيضا مبادرات ضبابية للحل السياسي، كما هو الحال مع المبادرة التي أعلنتها بعثة الأمم المتحدة لدعم التحول الديموقراطي في السودان والتي لم تقدم أي رؤية سياسية واضحة للحل سوى إعادتها جميع الأطراف إلى المربع الأول بحثا عن صيغة شراكة بين مكونات سياسية منقسمة تفتقد إلى الحد لأدنى من التعايش والتوافق والثقة.
والجهود الأممية لم تكن سوى استجابة لتحولات طارئة فرضتها استقالة رئيس الحكومة الدكتور عبدالله حمدوك والتي جاءت بعد فترة شلل قصيرة أمضاها وحيدا في رئاسة حكومة من دون وزراء، وخلطت أوراق المعادلة السياسية القائمة، بل ووضعت الجميع وسط انسداد سياسي مزمن.
وطبقا لإعلان ممثل البعثة الأممية في السودان فولكر بيرثس فإن المبادرة الأممية تقضي “بإطلاق مشاورات أولية لعملية سياسية بمشاركة كافة أصحاب المصلحة، من المدنيين والعسكريين بما في ذلك الحركات المسلحة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمجموعات النسائية ولجان المقاومة بهدف التوصل إلى اتفاق للخروج من الأزمة السياسية الحالية”، وهي تعني العودة إلى المربع الأول الذي أعقب الإطاحة بنظام عمر البشير.
ورغم أن ما أعلنته البعثة الأممية لم يكن سوى أفكار أولية لإعادة الأطراف السياسية خطوات للوراء تحت مظلة الرعاية الأممية، إلا أنها حظيت بترحيب أشبه بتجديف فوق الرمال عبَّرت عنه الجامعة العربية وكذلك الرباعية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات) التي دعت السودانيين إلى اغتنام هذه الفرصة لاستعادة الديمقراطية المدنية، بخلاف القاهرة التي حددت أساسا متقدما للحل السياسي يبعد السودان عن دائرة التدويل، بعدما أكدت دعمها للتحركات الأممية مع حضها جميع الأطراف للعمل على اختيار رئيس وزراء توافقي جديد، وتشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن.
استقالة حمدوك
بعد تسلم حمدوك منصبه في رئاسة الحكومة بناء على اتفاق 21 نوفمبر الماضي استمرت احتجاجات الشارع السوداني في التصاعد لتأخذ الأزمة بعدا أكثر تعقيدا مع ارتفاع عديد الضحايا في التظاهرات والاتهامات التي وجهت للمجلس العسكري باستخدام القوة المفرطة التي أودت بحياة 60 متظاهرا على الأقل وسقوط المئات من الجرحى، كما تعرضت 13 امرأة على الأقل لحوادث اغتصاب، فضلا عن تعرض العشرات من رجال الشرطة لإصابات خلال أعمال عنف اندلعت مع المتظاهرين.
وخلال الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق البرهان ـ حمدوك بدا أن رئيس الحكومة معزول وعاجز عن إدارة حوارات مع القوى السياسية المدنية، خصوصا بعدما أدى الاتفاق إلى توسع الهوة بين حمدوك وحاضنته السياسية تحالف الحرية والتغيير التي اعتبرت الاتفاق السياسي “شرعنة للانقلاب”، ناهيك عن اتهام لجان المقاومة الشعبية البرهان بالمشاركة في “الانقلاب” واعتبار عودته إلى منصبه “خيانة”.
عبّرت استقالة حمدوك عن الفشل في إقامة توازن يؤسس لدولة مدنيّة حديثة، بل يمكن اعتبارها فراراً من واقع بالغ لتعقيد وإقرارا باستحالة لإحداث أي قدر من الشراكة السياسية بين المكونين العسكري والمدني، وهو الأمر الذي عبّر عنه حمدوك بوضوح في بيان الاستقالة، إذ أكد أنه كان يسعى إلى تجنب “انزلاق السودان نحو الهاوية” كما حاول إيجاد توافقات لكنه فشل، محذرا من أن البلاد تواجه “منعطفا خطيرا قد يهدد بقاءها”.
لكن المؤكد أن استقالة حمدوك خلطت أوراق العسكريين الذين حاولوا ترويض القوى السياسية وتطويعها للقبول برؤيتهم الصارمة حول إكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية، كما أنها أجهضت محاولات المجلس العسكري إقصاء قوى الحرية والتغيير من المعادلة السياسية بعد أن حسمت الانقسام الذي خيم على المشهد السواداني بعد توقيع اتفاق البرهان ـ حمدوك، كما زادت من حجم التيار السياسي والشعبي المطالب بإسقاط المجلس العسكري وعودة التشكيلة السياسية السابقة.
ومن جانب آخر قوَّضت الاستقالة فرص التقارب بين المجلس العسكري والمجتمع الدولي الذي باشر باتخاذ مواقف أكثر صرامة بتلويحه بسلاح المساعدات الاقتصادية بعد ان أبدى مواقف مرحبة بقرارات المجلس العسكري الأخيرة، التي خففت من الاحتقان الداخلي وفتحت الطريق للمجلس العسكري بعيدا عن شبح العزلة.
وقياسا بالمرة السابقة التي استطاع فيها المجلس العسكري امتصاص تداعيات الخطوات التصحيحية التي نفذها بإقالة الحكومة والمجلس العسكري السابق، لا يبدو أن الفريق البرهان في وضع سياسي جيد هذه المرة، خصوصا مع تصاعد المواقف المناهضة له داخليا والتي انعكست على مواقف خارجية بدت أكثر صرامة من ذي قبل.
والواقع الجديد عبَّر عنه بوضوح الاتحاد الأوروبي وكذلك دول الترويكا (الولايات المتحدة والنرويج وبريطانيا) التي أصدرت بيانا مشتركا حذرت فيه رئيس المجلس العسكري من مغبة الانفراد بتشكيل الحكومة الجديدة، إلى تأكيدها عدم دعم أي رئيس وزراء أو حكومة يتم تعيينهما دون انخراط واسع من المدنيين، ما فاقم من الضغوط على مساعي العسكريين لتشكيل حكومة تلقى قبولا لدى القوى المدنية.
وأكثر من ذلك تحميلها “السلطات العسكرية مسؤولية انتهاكات حقوق الإنسان، فضلا عن مطالبتهم بالإفراج عن جميع المعتقلين ظلماً ورفع حالة الطوارئ فورا” إلى تطلعهم للعمل مع حكومة وبرلمان انتقاليين يتمتعان بمصداقية من الشعب السوداني ويمكنهما قيادة البلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة كأولوية“. معتبرا ذلك ضرورة لتسهيل قيام الاتحاد الأوروبي ودول الترويكا بتقديم المساعدات الاقتصادية للسودان“.
عقبات المبادرة الأممية
لا يمكن إغفال أن موقف الاتحاد الأوروبي ودول الترويكا شكَّل أرضية للمبادرة الأممية، رغم أنها لم تحدد حتى الآن على الأقل أسس التفاوض الرئيسية ما يرجح أنها تخطط لإدارة مفاوضات تمهيدية قد تستغرق الكثير من الوقت قبل أن تنخرط الأطراف السياسية في مفاوضات مباشرة، في حين لم تقدم للشارع أي دعوات بالتهدئة على أمل الوصول إلى حلول سياسية وفي المقدمة تشكيل الحكومة التي يعني عدم تشكيلها تفاقم الأزمة واكثر منه تفاقم المشكلات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالشارع السوداني وتلقي بآثار سلبية على استحقاقات المرحلة الانتقالية.
ومع افتراض أن لدى البعثة الأممية ودول الترويكا خطة جديدة للحل السياسي، لا يبدو أن هناك أملاً في حلحلة قريبة لمفاعيل الأزمة، فالتحركات الأممية ستواجه حتما صعوبات كبيرة كونها بإطارها العام تدعو إلى استمرار الشراكة بين المدنيين والعسكريين، في الوقت الذي أعلنت فيه القوى المدنية – ممثلة بتجمع الحرية والتغيير وتجمع المهنيين اللذين يقودان التظاهرات – رفضهم أي شراكة مع المكون العسكري وتأكيدهم على أن الحل هو في اسقاط سلطة المجلس العسكري وانتزاع سلطة الشعب المدنية الكاملة، معتبرين أن الأفكار الأممية تستهدف “التطبيع مع المجلس العسكري الانقلابي وسلطته الفاشية”.
وهذا الموقف لم يعد محصورا على تجمع المهنيين، في ظل انخراط العديد من القوى السياسية في الاحتجاجات وفي المقدمة الحزب الشيوعي وحزب البعث الاشتراكي الذين تعهدوا بمشاركة اللجان الثورية لقيادة مليونيات ومواكب ومسيرات وعصيان مدني وإضرابات في إطار برنامج التصعيد “لحين استلام السلطة من المكون العسكري”.
أكثر من ذلك إعلان تجمع المهنيين أن الجلوس على طاولة المفاوضات مع المكون العسكري” أمر مرفوض للقوى الفاعلة في الشارع والتي تتمسك باللاءات الثلاث (لا شراكة، لا تفاوض، لا مساومة).
هذا المشهد المتنافر يمكن اعتباره أهم العقبات التي تقف أمام أي توجهات اممية لإعادة الأطراف السياسية إلى مائدة الحوار، يزيد منه أن البعثة الأممية لم تجد بعد أي أرضية توافق بين القوى السياسية على أطر رئيسية للحل في ظل استمرار حراك الشارع الغاضب الذي يرجح أن يقود إلى المزيد من الخسائر في الأرواح بما يُصعّب مهمة الأمم المتحدة في إنتاج توافق سياسي قريب.
ويضاف إلى ذلك عدم حسم القوة المؤثرة في التظاهرات وفي المقدمة تنسيقيات لجان المقاومة مسألة التحول إلى حزب سياسي يشارك في السلطة كطرف جديد في معادلة الحكم.
ومن جانب آخر، فهناك من يرى أن المبادرات الأممية لا تزال بعيدة كليا عن الشارع الغاضب، ما يعني أن أي مبادرات لن تلبي مطالب الشارع السوداني في إبعاد المكون العسكري عن المعادلة السياسية لن يكتب لها النجاح، في حين أن محاولات لخلق وضع جديد يحافظ على الشراكة القديمة بين المكونين العسكري والمدني ستكون غير قابلة للتطبيق في ظل التدهور الحاد للوضع السياسي وتصعيد التظاهرات والعصيان المدني والاضرابات وتدهور الوضع الاقتصادي ومستوى الخدمات العامة التي تحولت إلى أزمة إضافية.
مشهد معقد
عندما قدَّم الدكتور حمدوك استقالته من رئاسة الحكومة برر خطوته بأنها جاءت بسبب “انسداد أفق الحوار بين الجميع ما جعل مسيرة الانتقال في السودان هشة”، وسبباً في “أزمة سياسية تكاد أن تكون شاملة” معتبرا أن “الحوار هو الحل نحو التوافق لإكمال التحول المدني الديمقراطي”.
والانسداد الذي عناه حمدوك مرتبط في الواقع بقوى سياسية تحاول كل منها تمرير مشروعها بما يمكنها من السيطرة على السلطة بعد إجراء الانتخابات، وهي ذاتها التي جعلت القوى السياسية المدنية ولا سيما المقصية من اتفاق البرهان ـ حمدوك، تستدعي كتالوج ثورات الربيع العربي لمواجهة المجلس العسكري الذي شكل عقبة كبرى أمام مشاريعها السياسية.
وما يثير الاهتمام بهذه المعادلة أن القوى السياسية المدنية لم تلتفت حتى اليوم إلى حجم الكلفة التي سيترتب عليها تأجيج الشارع في تظاهرات واضرابات وعصيان مدني وأعمال عنف، وهو ثمن في ظل وضع السودان الراهن سيكون كبيرا للغاية وغير مأمون العواقب.
والشارع الغاضب عندما يرفع شعار إسقاط المجلس العسكري، فهو يعني ذلك تماما، ما يجعل أي خطوات تتجاوز مطالبه مناورات سياسية لا طائل منها، خصوصا بعد المواقف الدولية التي انطوت على رسائل سياسية واضحة بالانحياز لمطالب الشارع بالحكم المدني وإنهاء ما يعتبره الشارع انقلابا مع التلويح من جديد بفرض العزلة الدولية على المجلس العسكري.
واللافت أن المجتمع الدولي لم يلتفت إلى معضلة كبيرة ومهمة تكمن في أن القوى السياسية المؤججة للشارع لم تطرح أي بدائل يمكن الركون عليها لقيادة السودان في المرحلة المقبلة، في ظل مطالبتهم الإطاحة بالمجلس العسكري الذي لعب دورا مهما وأساسيا في الحفاظ على استقرار السودان منذ الإطاحة بنظام البشير، ما يجعل حراك التظاهرات في ظل أعمال العنف مرشحها للمزيد من التصعيد في سيناريو غير بعيد عن تكرار التجربة الليبية التي أطاحت بالنظام وتفاجأت بمرحلة فراغ وانقسام بين قوى الثورة جرّت البلد إلى دوامة طويلة من الحروب والانقسامات والفوضى وغياب الدولة.
يزيد من ذلك حالة الجمود التي يعيشها المجلس العسكري في مساعيه لتعيين رئيس حكومة بدلا من عبدالله حمدوك وتشكيل حكومة كفاءات، حيث أن عدم إنجازه هذه الخطوة سيعني اعترافا صريحا بخطأ الإجراءات التي اتخذها في 25 أكتوبر الماضي بل وإدانة صريحة له بوصفه المتسبب الأول في الأزمة، وربما نهاية لمحاولاته أن يكون لاعبا مؤثرا في مسار المرحلة الانتقالية.
وما يتعين الإشارة اليه هو أن الأزمة الأكبر التي يواجهها السودان اليوم تكمن في غياب الوعي السياسي باحتياجات المرحلة الراهنة واولوياتها، فالحرص الذي يبديه المجلس العسكري لكي يكون لاعبا مؤثرا في المرحلة الانتقالية لا يبدو أنه رغبة في الهيمنة على الحكم بقدر ما يبدو تلبية لاحتياجات ملحة تفرضها المرحلة الراهنة.
وعلى السودانيين المنخرطين في دوامة التظاهرات إدراك أن وجود المجلس العسكري ضمانة أولى لأمن السودان وأي مساس به في هذا الوقت ستترتب عليه تداعيات خطيرة تهدد البلد، فتجارب الأزمات الدولية المشتعلة في غير منطقة عربية تؤكد أن أي تشكيل لحكومة مدنية من تيارات منقسمة في غياب الغطاء العسكري لا يضيف سوى المزيد من الأزمات وربما الذهاب بالبلد نحو المجهول.
وفي حال كان مطلوبا تفادي الأسوأ، فإن المعادلة الوحيدة القابلة للتطبيق هي إفساح المجال للمجلس العسكري لاخيار رئيس حكومة مستقل لتشكيل حكومة مدنية من الكفاءات بغطاء من المجلس العسكري، وسوى ذلك، تدويل للأزمة السودانية قد يجعل من التعافي أمرا مستحيلا.