محمد أحمد المؤيد
ومضةٌ من حياة المرحوم بإذن الله تعالى الكاتب والأديب الأستاذ/ عبدالكريم المقالح .. الملقب بـ ” المقالح عبدالكريم” ..؟
في صبيحة الثلاثاء الـ ٢٠ من ديسمبر للعام ٢٠٢١م كان موعد رحيل الأستاذ القدير والبارع والمتفنن في كتابة الأدب العربي المعاصر باللغة العربية الفصحى واللهجة العامية، والذي كان قد وضع لنفسه ووطنه وأمته العربية شيئاً من الطابع الأدبي المعاصر الذي حفظ ماء وجه الأدب العربي في ظل العولمة الممعنة في تهميش الذات والتنكر له، خاصة وقد عملت العولمة على ربط الثقافات العالمية بحيث تكاد تذوب فيها خصوصيات الشعوب كالعادات والتقاليد والعرف التي تًميز كل شعب عن غيره، بحيث أصبح حال الشعوب في ظل هذا التزاحم الثقافي العالمي كأيقونة غير مسموعة، كونها بين خليط من الثقافات والمتغيرات العالمية التي ضج عالم النت بها والخلويات وكل ما جادت به التكنولوجيا الحديثة التي جعلت العالم قرية كونية، ولذا كان من الطبيعي أن تذوب الثقافة العربية بين هذا الكم الهائل من الثقافات العالمية التي تبدو متصارعة وبشدة حول من يكسب الرهان ويلجم العالم بثقافته التي يحب أن يبهر العالم بها فتتهافت الشعوب لأخذ قسط منها، وهذا ما حدث ويحدث في العالم من خلال محاولة تعميم اللغة الإنجليزية وبعدها الفرنسية والإسبانية والإيطالية وغيرها من لغات الغرب فصارت كشيء ضروري من ضروريات العصر، حتى غدت لغات ضُمت إلى المناهج الدراسية في مواد إجباريةٌ تدرس في صفوف المدارس أو مواد متطلبةٍ في السنة الأولى للدراسات الجامعية، ناهيك عن المعاهد والكليات التي أنُشئت لغرض نشر هذه اللغات وإتقانها للراغبين في تعلمها واتقانها وبشكل مكثف، وهذا قد يرجعنا للحديث الشريف للرسول محمد “صلوات الله عليه وآله ” القائل – في معنى الحديث – : ” من تعلم لغة قوم أمن مكرهم ” صدق رسول الله ، والذي يبدو هو أن الحديث يحثنا عن تعلم اللغات لغرض تحاشي المكر من قبل أي شعوب أخرى قد تمكر، وهذا جميل إلا أن الملاحظ في عالم اليوم وكما شرحت لكم أن الأمر بات انهماكاً وليس تحاشياً، فبدلاً من تعلم اللغات لغرض تحاشي المكر ومن أجل تعامل تجاري واقتصادي وغيره صار انبهاراً وتبعية مقيتة، بحيث أنه بات يلاحظ اليوم كم هي تلك التغيرات في كثير من النواحي الثقافية داخل الشعوب !!!، وخاصة العربية منها، فالآداب العامة واللبس وطرق العيش والأكل وأسلوب التعامل وغيرها ذات الطابع الحضاري للشعوب أصبحت تسير على ذات المنوال لتلك الثقافات الغربية، وخاصة العواصم والمدن الحضرية منها إلا قلة قليلة مازالت محتفظة بالأصالة، والتي يمكن حصرها في القرى والأرياف، وبذلك فإن الدور الريادي للكتَّاب والمثقفين والأدباء لا يقل أهمية عن غيره من الأدوار في المجالات الوطنية والمؤسسات التي تعمل على حفظ خصوصيات الأوطان والشعوب بحيث لا تصبح قريبة المنال للمتغرضين منها وخاصة لقوى الاستكبار العالمي الذين لا يريدون بأمة محمد خيراً.
من خلال كل هذا وذاك، يمكننا أن نعتبر الكاتب والأديب والمبدع إنساناً ذا مبدأ سام لوطنه وأمته، ويجب تقديره واحترامه حق التقدير والاحترام، فهو يحترق كالشمعة كي يضيء لنا، ويعبرِّ عنا وعن ومعاناتنا وأوجاعنا فتصل إلى العالم عبر كلمات تعبِّر عن الأصالة والهوية، فكلمات الكاتب والأديب ذات معان دقيقة وتحمل إحساساً مرهفاً ومعبراً، فهي ليست مجرد كلمات، كونها ليست دروساً خصوصية أو حصصاً دراسية ومحاضرات تتسم بأبجديات رياضية أو أرقام قواعد وقوانين مقننة ونصوص إجبارية ومحبذة وغيرها مما يمكن تعلمه وتعليمه وتدريسه، وإنما هي كلمات من القلب إلى القلب تشرح وتفصِّل وتفسر وتستفيض وتسبح مع واقع الناس وهمومهم ومشاكلهم كلمة كلمة ونغمة نغمة وهمسة همسة بحيث لا تقف عند نقطة من الشرح بقدر ما تنطلق مبحرة في كل المجالات والعلوم فتوجد لنا خليطاً من الكلمات تنير دروبنا كخليط مواد الدواء الذي مهمته الانقضاض على الداء، فالكاتب إنسان لكنه حي الضمير، كون همه إيصال فكرة جريئة وهادفة علها تكون سبباً في نجاح وفلاح الكثيرين، وهذه هي ميزة الكاتب والأديب، فلا تغريه الفلوس ولا المقتنيات بقدر ما يغريه واقع يعمه الخير والبركة للجميع، فيستاء حين يرى عيناً تدمع وجرحاً ينزف وحرمة تنتهك وجهداً لا يقدَّر ونفوساً لا تعزَّز وتكرَّم كما كرَّمها الله من عنده، ولا يرتاح ضميره إلا حين يطلق العنان لكلماته فيعبِّر بها بكلمات تحمل زئير الأسد في البراري، معتبراً الصمت خيانة عظمى سيحاسب عليها أمام الله.
إن شخصية أدبية كشخص المرحوم بإذن الله تعالى ” المقالح عبدالكريم ” – وكما رأيته بأم عيني وتعاملي معه لسنوات بحكم الجوار -، شخصية لها ألف تحية وألف سلام وألف مليون رحمة، الذي من سماته عزة النفس وطهارتها رغم ظروف عيشه التي لم يكن يعلمها إلا جبار السموات والأرض، والتي حالت دون ظهوره بالشكل الملفت، مع أنه كان قد حصل على جائزة رئيس الجمهورية في مجال القصة، وموظفاً وكاتباً في مؤسسة “الثورة” للصحافة ولديه الكثير من المواد الأدبية والشرحية التي كانت قد نشرت في صحيفة “الثورة”، ولذلك فمحبوه ومتابعوه من كل أرجاء الوطن ممن قرأوا له وتعاملوا معه، فهو وبكل فخر شخصية محبوبة ومبتسمة على الدوام، ذو ذوق رفيع وهادف وكلمة صادقة ونصوحةٌ، لا يعرف الكبر مكاناً في قلبه بقدر ما كان يحمل الود للجميع والاستعداد لمدّ يد العون لمن طلبه وبتواضع عجيب، وخاصة في المجال الأدبي واللغة العربية والكتابة، ولم أر قط ظهور لغة المصلحة حتى في نظرة عينيه وتلميحاته، فهو رجل نزيه يتشرَّف ويعتز بنسبه ومبادئه التي ترعرع عليها منذ صغره بين حنايا وطنه وأمته وشعبه وأهله وناسه، ولذلك ظل مخلصاً وفياءً، يكره التزمت والانتماءات الضيقة، فحبه وولاؤه لليمن واليمنيين، وروحه العالية البريئة والشهمة والرجولية اتسعت للجميع، كل ذلك بدا في تعامله وكتاباته التي حدَّثني في آخر مرة التقيت به بأن لديه مهمة لتـأليف رواية بعنوان ” باب اليمن حزيز ” بدا من عينيه هدفه نيل جائزة نوبل للأدب التي سألته حينها: هل هذا هدفك ؟ فأجاب: لا تنسى يا أخي محمد أن هذه الجائزة لا تعطى إلا لمن وصل عمره السبعين من الكتَّاب والروائيين، فابتسمت وعلمت أنه كان ينوي المنافسة رغم عائق السن، أتذكّر حينما سألني يوماً قبل أن يقول لي مباركاً بعد ترددي عليه بعدة مقالات لمدة أسبوع ومن ضمنها قصة قصيرة تتكون من ٣٦صفحة، وقال هذه الكلمات التي لن أنساها ما حييت، كونها كانت أملاً وبفضل الله وتعاونه وتشجيعه تحقق ذلك: ” أنت أصبحت الآن كاتباً يا محمد من ضمن ثلاثة كتَّاب عالميين وحيدين يتقنون الكتابة باللغة الفصحى ودمجها باللهجة العامية بأسلوب لا يخل في السرد للمقال .. وهذا مدهش “، فقال: متسائلاً: لماذا تريد أن تكتب؟ فقلت :” لكي أنشر الخير بين الناس ولو بالكلمة “، فقال: هذه سجية يجب أن يحملها كل كاتب في نفسه وإلا فليس كاتباً ولن يوفقه الله مهما عمل.. فوداعاً أستاذي الذي تشرَّفت بأنني بلغت منزلة كاتب على يديك، ومقالي هذا المتواضع كان حقاً عليَّ أن أرد الإحسان بمثله وها أنذا أكتب فيك أستاذي عبدالكريم المقالح بكلمات اختلط فيها حبر القلم بدمع العين حزناً على فراقك، قال تعالى :” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ” صدق الله العظيم، فأسأل الله العلي القدير أن يرحمك ويجمعنا يوم لقاه في مستقر رحمته في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
،،ولله عاقبة الأمور،،