“ساحات الحرية” تنقل الشباب من رصيف النسيان إلى فضاءات الامل


الثورة نت محمد سيف القراري –
كثيرون أولئك الذين جذبتهم رياح التغيير والثورات السلمية الشبابية التي عمت دولا في المنطقة وكانت اليمن احداها.. ساحات الاعتصام وميادين الحرية والتغيير عنوانا لتلك الاحداث التي شهدها عام 2011م بعد انطلاق شرارتها الأولى من تونس الخضراء.
فاندفع الجميع إلى تلك الساحات والميادين ينشدون أوطاناٍ ليس فيها ظلم ولا اقصاء ولا توريث للحكم تواقون للحرية والديمقراطية والعدالة والعيش الكريم كعناوين رئيسية للمستقبل الجديد.
وكان الشباب وطلاب الجامعات والعاطلون عن العمل والمثقفون والناشطون في مجال الحقوق والحريات هم أول من انطلقوا إلى الشوارع ثم الساحات التي نصبوا فيها الخيام واستقروا فيها متحدين الاعتداءات والضرب والسجن وسموم الغازات ثم القتل وكل صنوف القمع التي اعتادت أن تمارسها الأنظمة طوال عقود من أجل الحفاظ على كراسي الحكم.
وقد تبع تلك الطلائع الشابة جموع المواطنين من اقصى الوطن إلى اقصاه وذابت في السحات كل الفوارق والانقسامات التي سعى النظام في اليمن طوال حكمه إلى صنعها بين الاخوة من منطلق فرق تسد ولكن أبرز من شدتهم الاجواء التغييرية إلى تلك الساحات هم أولئك المظلومين والمقهورين والبؤساء الذين تجرعوا أبشع المرارات وأكثرهم تحمسا وتضحية من أجل تغيير الواقع كان أولئك الذين حولهم ظلم وطغيان النظام إلى فئة محبطة فرزت الانفصال عن الواقع الفاسد وأتخذت الهامش حياة جديدة لها واستقر بها الحال إلى الهيام في الشوارع والاحياء المظلمة والمبيت فوق الأرصفة أو الانزواء في حجرات مظلمة لا يختلف حالهم عن حال من هم خلف القضبان في زنزانات محصنة لا أحد يعلم اين هم ولا ما هو مصيرهم فقط مع فارق أن الفئة التي نريد التحدث عنها اختارت المنفى الاختياري تراقب ما يجري حولها لكنها لا تستطيع أن تتفاعل أو تشارك فيه تتحدث لمن يصر على الحديث معها بالرموز أو الكلام غير المفهوم فاطلق عليها ظلما “بالمعتوهين “والمختلين عقليا وبالفصيح بالمجانين وللأسف الشديد تعمد النظام بما يمتلكه من آلة بوليسية واعوان ومنافقين ومسؤولين يمارسون الظلم بأسوأ اشكاله وصوره إلى حشر هذه الفئة في هذه الزاوية اللا إنسانية والمؤسف ايضا أن المجتمع تعامل مع هؤلاء بنفس الطريقة التي ارادها النظام وازلامه فظربوا حولهم مزيدا من الحصار والازدراء وظل الوضع على هذا الحال إلى أن جاءت لحظة التغيير فتغير كل شيء.
تحولت ساحات وميادين التغيير إلى مستشفيات إنسانية وعلاج طبيعي لكثير من تلك الحالات التي وجدت نفسها وكامل ارادتها واندفعت بقوة وشجاعة نحو الصفوف الأولى في المظاهرات جنبا إلى جنب مع الطلاب والشباب والاطفال والشيوخ والمثقفين والأكاديميين يتحدون القنابل السامة وضربات العصي ومياه المدرعات القذرة والحارة بل والرصاص الحي.
لذا فإن هذه الشرائح المظلومة تحولت في لحظة التغيير إلى قادة ومنظرين يحمسون الجماهير على الاقدام وعدم التراجع شاركوا بفاعلية يعجز الكثير ممن رأوهم عن وصف شجاعتهم في ميادين التغيير السلمية استشهد الكثير منهم وبعضهم جرح وبعضهم اعتقل وفقد مصيره والبعض الآخر خرج من ساحات التغيير والحرية أناس آخرون أكثر اقبالا على الحياة متفائلون بالمستقبل يمارسون حياتهم الطبيعية تركوا حياة العزلة وانخرطوا في يوميات العمل والإنتاج يساهمون بفاعلية في بناء الوطن الجديد الذي حلموا به بعد الصمت الطويل وصلت ببعضهم لأكثر من عقد هتفوا في المظاهرات «الشعب يريد اسقاط النظام»ورددوا باجلال الأناشيد الوطنية وغنوا لحن الوطن ورسمو بعضهم على الجدران وكتب آخرون الشعر وشاركوا بالحوارات الساخنة في جلسات النقاش داخل الخيم التي تحولت إلى مراكز تنوير ومنتديات ثقافية وسياسية وأدبية معمقة كل قضايا الوطن ناقشوها بعمق وحرص على نجاح المستقبل الذي خرجوا من أجله ويتابعون باهتمام تطورات الاحداث اليوم بعد ثلاث سنوات من الثورة الشبابية السلمية قصص كثيرة احتوتها ميادين الساحات عن مشاركات العديد من أولئك الذين وصفهم وحكم عليهم الواقع الفاسد والنظام الجائر بالمعتوهين وكيف تحولوا إلى عقلاء وعادت إليهم الحياة بكل آمالها المستقبلية الطامحة بوطن جديد لا يزالون مصرين إلى ايجاده.

الباحث عبدالسلام الشعيبي نموذجا
> نحاول في هذه الزاوية أن تؤكد حقيقة ما ذهبنا إليه من خلال ايراد قصة حقيقية لأحد أولئك الأشخاص الذي وقع تحت طائلة الظلم المباشر وتم استهدافه من قبل رأس النظام حينها شخصيا وهو الباحث عبدالسلام محمد الشعيبي واعتقد أن الكثير يعرفه أو سمع به على مستوى الوطن بل وتجاوزه إلى الوطن العربي والعالم خصوصا لدى الباحثين والعلماء المهتمين بالعلم والنظريات وابتكار الجديد.
بدأت مأساته عقب إعلانه نظريته المشهورة «الاهرامات القوالب الاسمنتية وفروعها» عام 1995م في مؤتمر صحفي عقده حينها في العاصمة صنعاء الأمر الذي اعقبه جدل وصل إلى درجة الهجوم والتشكيل والتشويه به وبنظريته خصوصا من قبل علماء الآثار المصريين في عهد النظام السابق محمد حسني مبارك لكن الهجوم الاشرس والأكثر ايلاما له كباحث وكيمني هو الذي جاء من رأس النظام السابق الذي خرج وعلى العلن وعلى شاشات الفضاء ليوجه إليه اقصى الاتهامات وشدها فتكا بإنسانيته وعلمه وهو اتهامه في عقله وقدراته العقلية حيث وصفه بـ«المعتوه والمختل عقليا».
الباحث عبدالسلام الذي تحول من عالم إلى مختل وكانت الاتهامات الموجهة إليه بمثابة حكم الاعدام بالنسبة لباحث لا يزال في بداية الطريق خصوصا أنه في البداية لم يستسلم بل سعى للمقاومة القانونية لذلك الاتهام حيث رفض التهمة وحاول أن يتجه إلى القضاء وكان أول مواطن شجاع يتجرأ أن يقاضي رئيس الجمهورية وقتها الأمر الذي لم يستوعبه القانونيون ولا القضاء ولا المجتمع بل وحتى أقرب الناس إليه وتحول الجميع حوله إلى ناصح بترك ذلك أو محذر بينما تولت الأجهزة البوليسية مهمتها وكل مفاصل السلطة في البلد بقية المهمة.
فالقضاء رفض الدعوة والمحامون طلبوا منه اثبات عكس ما أتهمه به بالتوجه نحو الطب النفسي وهلم جرا.
بالتزامن مع ذلك قامت الجهات التي كان يعمل لديها بوظيفة باحث في إحدى دوائر وزارة الدفاع بفصله من وظيفته كما طرد من عمله كمحرر صحفي اقتصادي وتوالت عليه الكوارث والنكبات وقطعت به السبل وفقد مصادر دخله تماما وطارده الخوف في كل مكان بعد تعرضه لفترة اعتقال خرج بعدها مرعوبا بشك في كل شيء يرفض الحديث عما جرى له يتوارى عن أعين الناس اتخذ العزلة وعدم الاختلاط بالآخرين حياة بديلة له انتهى به الأمر إلى اتخاذ الرصيف منفى اجبارياٍ له في حي القاع خلف الجامعة القديمة بالأمانة يصطحب مذياعاٍ يدوياٍ صغيراٍ يأنس إليه وبعض أوراقه في حقيبة مهترئة يرتدي ثياباٍ تنم عن حالة الظلم الذي اعتراه وذنبه الوحيد أنه اراد أن يكون باحثاٍ وعالماٍ ومبتكراٍ في بلد كان يحكمه نظام اتخذ موقف العداء لكل ما هو علمي أو مدني أو ابداعي وظل عبدالسلام الشعيبي على هذا الحال إلى أن هبت رياح التغيير ونسائم الحرية نهاية عام 2010م وبداية 2011م فخرج من عزلته وترك منفاه واتجه صوب طريق الحرية والتغيير فالتحق بثورة الشباب منذ بداياتها الأولى واتذكر أنني شاهدته في إحدى المظاهرات في شارع الجامعة بالدائري وهو يسير بخطى واثقة بجسده المثقل من معاناة الظلم والقهر وثيابه التي تعكس ما كان عليه من حال وقدماه المشققتان يتقدم الصفوف كله حماس بأن ساعة الحقيقة جاءت وأن لحظة التغيير أصبحت في متناول ارادة الجميع يصرخ بملء حنجزته «الشعب يريد اسقاط النظام».
شكلت له ساحة التغيير وطناٍ جديداٍ خلع فيها حالة البؤس وسنوات القهر والظلم وبدأ حياة كلها أمل وتفاؤل بمستقبل آخر ليس الذي كان شارك بالمظاهرات نجى من الموت باعجوبة عدة مرات كانت اخطرها احداث شارع هائل عام 2011م اشيع أنه استشهد لكنني عندما حاولت البحث والتقصي عنه عندما فكرت أن أكتب هذا الموضوع والبداية كانت من الشبكة العنكبوتية فوجدت معلومات كثيرة عنه وعن ابحاثه ونشاطه العلمي وقصص مأساته وعما وجدته أن عمار النجار خصص له صفحة في شبكة التواصل الاجتماعي «الفيس بوك» تحمل سؤال رئيسي ما هو مصير الباحث اليمني عبدالسلام الشعيبي الذي يقدر أنه في منتصف الاربعينيات من عمره هذه الأيام.
لكن الاجابة وجدتها مع أحد الزملاء الصحفيين الذين شاركوا بفاعلية في ثورة الشباب السلمية وخاض كل تفاصيلها من ساحة التغيير وكان يعرف الباحث منذ أيام الجامعة وبعدها وهو الزميل محمد عبدالحليم الذي قال أنه وجده قبل أسبوعين في أحد الشوارع بهيئة تشرح النفس متفائل هادئ نظيف يلبس أنظف الثياب تحدث معه ووصف له عنوان يتواجد فيه باستمرار ويكون عبدالسلام الشعيبي أحد الناس الذي اعادته ثورة التغيير إلى ممارسة حياته الطبيعية واخرجته من وسط الاحباط مثله مثل كثيرين كانوا في رصيف الاهمال والظلم والقهر السياسي أو غيره.
وفي هذا الموضوع ومن صدر صفحات الثورة نتوجه للعهد الجديد والنظام الذي انتجته ساحات وميادين التغيير أن يتوجهوا إلى مثل هؤلاء الباحثين أمثال عبدالسلام بالاهتمام واعادتهم إلى وظائفهم التي فصلوا منها قسرا وإعادة الاعتبار لهم ومنح كافة حقوقهم وتعويضهم التعويض المناسب والأهم إزالة كل الأسباب والمسببات التي تخلق الظلم والقهر والحرمان والاقصاء لأي مواطن مهما اختلفنا معه ومهما كان رأيه وتوفير كل مقومات الابداع والابتكار وتشجيع البحث العلمي والأخذ بيد العلم والعلماء لأن الأوطان في أمس الحاجة لكل ابنائها.. وكل عام والوطن وكل أبناء الوطن بألف خير.

قد يعجبك ايضا