التنين الصيني يكسب الوقت من غرق أمريكا في اليمن
الصين تراوغ في القبول بأمريكا شرطي العالم وتطمح لحقبة منفردة
أزمة الغواصات كشفت سوءة واشنطن مع حلفائها وضيق خياراتها لفرملة اندفاع الصين
تقرير / إبراهيم الوادعي
غداة سلسلة من الإجراءات الأمريكية التي تتصف بالتصعيد تجاه الصين، لهجة جديدة على لسان المتحدث باسم الخارجية الصينية تخاف ما اعتاد العالم على سماعه من الصين، إذ قال المتحدث باسم الخارجية الصينية أن عصر الإفلات الأمريكي من العقاب قد ولّى.
اللهجة الصينية الجديدة والحادة تجاه واشنطن سبقها فرض بكين عقوبات على عدد كبير من الأفراد والمؤسسات الأمريكية بينهم وزير التجارة السابق في الولايات المتحدة ويلبور روس..
خلال الأشهر الماضية تنامت الاستفزازات الأمريكية تجاه الصين وخاصة في بحر الصين الجنوبي والذي تعتبره الصين ضمن مجال أمنها القومي وتطالب بأحقيتها في حوالي 90 % منه، وتمادت واشنطن في استفزازها عبر زيارة لوفد من الكونجرس إلى تايوان لتذكير الصين بأن تايوان لا تزال متمردة على الصين الكبرى بدعم وحماية من الولايات المتحدة.
خلال السنوات الأخيرة عبرت الولايات المتحدة في أكثر من منبر عن قلقها العميق تجاه النمو الكبير للصين اقتصاديا وعسكريا، فالصين التي تمتلك اليوم الاقتصاد الأكبر عالميا في معدلات النمو، لا ينقصها سوى أعوام قليلة تؤكد الصين فيها تفوقها عالميا فيما يتعلق بالدفاع وتكنولوجيا الجيل الخامس واللتين تمضي فيهما الصين بوتيرة عالية جدا.
بدورها تدرك الصين القلق الأمريكي وتمضي بوتيرة متسارعة نحو التربع على عرش العالم واضعة في حسبانها مواجهة خطوات أمريكية قد تتخذ لعرقلة مسيرتها تلك، ولعل قضية حظر برنامج الأندرويد بوجه عملاق التكنولوجيا الصينية هواووي مثال صارخ على الاستعداد الصيني للمواجهة مع أمريكا، فالشركة أظهرت برنامجها الخاص هونغ مينغ وأجبرت واشنطن على مراجعة قرارها خوفا من خسارة سوق عالمية كبيرة واعدة أمام التكنولوجيا الصينية.
عسكريا بدأت الصين منذ سنوات بنشر قواعد عسكرية خارج أراضيها تحسبا للمواجهة المرتقبة أن وقعت مع واشنطن، وخاصة في القارة السمراء، وربط مناطق الاقتصاد الصيني بخطوط نقل استراتيجية مع أوروبا، وإحياء طريق الحرير بنسخته الحديثة أو عبر النسخة القديمة كما تفعل الصين عبر الميناء الباكستاني الذي تقوم بتطويره لينافس بشكل كبير ميناءي دبي وعدن مع اكتمال أعمال البناء فيه.
وخلال العام 2020م أجرت الصين وروسيا وإيران مناورات بحرية هي الأولى من نوعها والأكبر بين البلدان الثلاثة على امتد نحو 7000 ميل بحري في المحيط الهندي، وبالتزامن انضمت الصين إلى قائمة الدول التي تمتلك قواعد عسكرية بالقرب من باب المندب على الساحل الشرقي للبحر الأحمر في الأرضي الجيبوتية، ويمثل المضيق أحد أهم المضائق المائية وتمر من خلاله ما يزيد عن ثلث التجارة العالمية.
بحسب تصريحات لمسؤولين أمريكيين، فإن الولايات المتحدة باتت تقر باقتسام الزعامة العالمية مع الصين، لكن الأخيرة لا ترغب في تضييع فرصة التفرد بديلا للولايات المتحدة على العالم وإزاحتها نهائيا من عرش العالم، وهي فرصة لا تفصلها عنها سوى خطوة واحدة يلتقي فيها النفوذ الصيني الاقتصادي والتكنولوجي المسنودين بقوة عسكرية هائلة تحميهما.
الولايات المتحدة وسعت من العقوبات المفروضة على الشركات الصينية، وبين الحين والآخر تضيف قائمة جديدة من الشركات الصينية إلى قائمة العقوبات الأمريكية.
هناك ثمان قضايا أضحت حلبة الصراع بين الصين والولايات المتحدة تتمثل حاليا في فيروس كورونا حيث تتهم واشنطن الصين بأنها مصدر الفيروس وبأنها لا تظهر قدرا كبيرا من الشفافية والتجارة حيث تفرض مزيد من الرسوم على الواردات الصينية وعقوبات متنامية على الشركات الصينية ، وبحر الصين الجنوبي والذي تحول إلى بؤرة استفزاز عالمي مع استقدام أمريكا لقطع عسكرية تابعة لحلفائها آخر الدول الواصلة إلى بر الصين الجنوبي كانت حاملة الطائرات الألمانية ، هونغ كونغ ، حيث اختلفت الصين والولايات المتحدة حول الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية هناك ، الصحافة وتبادلت الصين والولايات المتحدة الأمريكية طرد المراسلين ومعاملة وسائل الإعلام كوضع لسفارات الأجنبية في كلا البلدين ، وهواووي الشركة الصينية للتكنولوجيا أضيفت إلى قائمة وزارة التجارة الأمريكية الخاصة بالمخاوف على الأمن الوطني ، والإيغور وهنا واشنطن تعمل على استغلال قضيتهم ليس إلا لتشويه سمعة الصين ، فالولايات المتحدة ضالعة في جرائم إنسانية بشعة ومجازر لحقت بالمسلمين في عدد من الاطار لا يزال بضمها قائما كحال اليمن وفلسطين .
قبيل ظهور النفط الصخري وتحول الولايات المتحدة إلى قائمة مصدر النفط الدوليين ، مثلت منطقة الشرق الأوسط احدى المناطق التي واجهت فيها الولايات المتحدة تواجد الصين ، وفي مقابل انخفاض اهتمام واشنطن بالمنطقة يتنامى الاهتمام الصيني ، وهو اهتمام ينبع من احتياجات بكين للطاقة ، ومنذ التسعينيات بدأ الاهتمام الصيني بمنطقة الشرق الأوسط يأخذ طابعا تنافسيا مع الولايات المتحدة في ظل حذر صيني من وقوع صدام مع واشنطن المهيمنة على المنطقة بشكل كلي .
لكن التطورات الجيوسياسية الأخيرة على مستوى الشرق الأوسط وكذا النمو الصيني في مقابل التراجع الأمريكي اقتصاديا بالدرجة الأولى منذ 2011 حولت الاستراتيجية الصينية إلى وضع المنافس القوي للولايات المتحدة والتي أعلنت في نهاية عهد الرئيس أوباما عزمها الانسحاب من المنطقة وترك إدارتها لإسرائيل وحلفائها لمواجهة النفوذ الصيني فيها والتفرغ لمواجهة الصين في المحيطين الهادئ والهندي ، لكن فشل ” إسرائيل ” وحلفائها في الخليج لا يزال يعيق واشنطن ولا تزال تغرق في مشاكل المنطقة بشكل اكبر وبخاصة منذ شن العدوان عل اليمن في محاولة لوأد الحركة الثورية الصادة فيه والتي تناصب ” إسرائيل ” العداء وتناصب الإدارات الأمريكية العداء كذلك على خلفية دعمها للكيان الصهيوني الغاصب وجرائمها في المنطقة الإسلامية .
أزمة الغواصات والتي اندلعت بين فرنسا وأستراليا إثر إلغاء الأخيرة عقدا ضخما لشراء غواصات فرنسية واستبدلتها بغواصات أمريكية ذات دفع نووي، تكمن خلفياتها في إطار جهود أمريكية لمواجهة الصين وإن اقتضى الأمر طعن حلفائها في الظهر كما وصف ذلك وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان.
واشنطن الساعية لتعزيز تحالفاتها في كل الاتجاهات للتصدي للصين، شكلت تحالفا أمنيا استراتيجيا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يضم إليها كلا من لندن وكانبيرا.
وجرى الآن عن معاهدة أمنية ثلاثية جديدة أطلق عليها اسم “أوكوس” خلال قمة افتراضية استضافها الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض، وشارك فيها عبر الفيديو كل من رئيسي الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأسترالي سكوت موريسون.
وفي بيان مشترك صدر في ختام القمة تعهدت لندن وواشنطن بشكل خاص “مساعدة أستراليا في الحصول على غواصات تعمل بالدفع النووي”. ومثل هذا الإعلان نقطة تحول استراتيجي لا سيما وأنها المرة الأولى التي ستشاطر فيها الولايات المتحدة مثل هذه التقنية الحساسة مع دولة أخرى غير بريطانيا.
وأعلنت أستراليا إثر صدور هذا الإعلان إلغاء الصفقة الضخمة التي أبرمتها مع فرنسا في 2016 بقيمة 90 مليار دولار أسترالي (56 مليار يورو) لشراء 12 غواصة تقليدية من طراز “أتاك”.
إقصاء الصين عن عرش العالم أضحى طموحا أمريكا ولم يعد هدفا سهل المنال، تسعى الولايات المتحدة بدلا عن ذلك إلى تقاسم النفوذ العالمي مع التنين الصيني وتهدد بمواجهة عسكرية للدفاع عن مكانتها عالميا.
ومن جانبها تقاوم بكين الرغبة الأمريكية بتقاسم النفوذ العالمي وتنساق وراء رغبتها بحكم أوحد للعالم لا تنغصه وجود واشنطن، وفي ظل استمرار أمريكا بذل الجهود لاستفزاز التنين الصيني يواصل الأخير سياسة ضبط النفس وعدم قذف اللهب، مفضلا احتواء أمريكا اقتصاديا وبالقوة الناعمة حتى تضمحل ، مع أن ثمة تحولا في هذه الاستراتيجية الصينية تظهر اللهجة الحادة للخارجية الصينية تجاه واشنطن بالحديث عن اندثار زمن الإفلات الأمريكي من العقاب..
ولدى شعوب منطقة الشرق الأوسط، فإن الانحسار الأمريكي يأتي في صالح شعوبها بعد أن أسهمت كدولة ونظام عالمي بعد الحرب العالمية الباردة في إذكاء الصراعات وسفك الدماء ، وفي أتون المواجهة القائمة في اليمن مع المعسكر الأمريكي يكسب التنين الصيني الوقت ريثما يستعد أكثر.
يرجو العالم أن يكون انتقال القيادة عالميا من الغرب إلى الشرق هادئا ودون حرب عالمية ثالثة أو صدامات على الاستقرار العالمي، لكن الهدوء الذي ينشده العالم قد لا يتحقق بالكامل في ظل معاندة واشنطن ورفض الصين بقاءها شرطي العالم.