القول المُعْتَبَر في مقالة ” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “

العلامة/عدنان أحمد الجنيد

لقد اشتهرت هذه المقولة – ” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” .. ويقصدون بالجهاد الأصغر أي الجهاد في سبيل الله، و مقاتلة أعداء الله ..
ويقصدون بالجهاد الأكبر أي جهاد النفس..
ثم أصبحت هذه المقولة فيما بعد حديثاً معتمداً عند بعض طوائف المسلمين من العلماء وطلاب العلم ؛ ويبنون عليه أحكاماً سلوكية، بل وجعلوا بعض فرائض الله – مثل فريضة الجهاد في سبيل الله – في الدرجة الثانية بعد جهاد النفس؛ لأن جهاد النفس – بنظرهم – أعظم من جهاد أعداء الله ورسوله من الغزاة والمحتلين..
ونحن لا نقلل شأن مجاهدة النفس بل هي أول طريق السائرين في السلوك الصوفي، ولكن نحن ليس مع من يقلل من شأن الجهاد ويثبط الناس عن القتال في سبيل الله بحجة هذا الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..
وها نحن سوف نبين مدى صحة هذا الحديث، وأنه معارض للقرآن، وأن الجهاد الأكبر هو جهاد وقتال أعداء الله ورسوله، وما عداه فهو جهاد أصغر وإليك حديثهم :
كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عائدا من إحدى غزواته – (غزوة تبوك)- ” فقال:رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وقيل له: ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ فقال: جهاد النفس ،( وفي رواية: جهاد القلب، وفي رواية أخرى : مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ “.(1)
قلت: إن هذا الحديث لا أصل له، وهو منسوب إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -وليس له أي ذكر في كتب الصحاح، ولا في كتب السنن الست، ولا في المعجم الكبير ولا في المعجم الصغير ولافي موطأ الإمام مالك، ولافي مسند أحمد بن حنبل على كثرة ما فيه..
إن هذا الحديث – في الحقيقة – هو من كلام إبراهيم بن عيلة، وقد اشتهر على ألسنة الناس بأنه حديث نبوي، قال العجلوني(2): قال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس: هو مشهور على الألسنة ،وهو من كلام إبراهيم بن عيلة، انتهى. وأقول: الحديث في الإحياء, قال العراقي: رواه بسند ضعيف عن جابر, ورواه الخطيب في تأريخه عن جابر بلفظ: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزاة, فقال عليه وآله الصلاة والسلام: “قدمتم خير مقدم, وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” , قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: “مجاهدة العبد هواه”، انتهى.
والمشهور على الألسنة: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر, دون باقيه ففيه اقتصار، انتهى.
قلت: وكثير من الحفاظ والمحدثين ذهبوا إلى أن هذا الحديث إنما هو من كلام إبراهيم بن عيلة منهم على سبيل المثال : المزى فى “تهذيبه “(3)
حيث جاء فيه: وَقَال النَّسَائي: أخبرني صفوان بْن عَمْرو، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابن زياد أبو مسعود من أهل بيت المقدس، قال: سمعت إِبْرَاهِيم بْن أَبي عبلة وهو يقول لمن جاء من الغزو: قد جئتم من الجهاد الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: يا أبا إِسْمَاعِيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب..”
قلت: إن هذا الحديث – أيضا – يتعارض مع كتاب الله، فقد قال تعالى:(لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ‌ أُولِي الضَّرَ‌رِ‌ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ..)[النساء :95] أي: لا يستوي عند الله الذين تركوا الجهاد لإعلاء كلمة الله وآثروا القعود دون أي عذر يمنعهم عن ذلك، لا يستوي هؤلاء مع الذين جاهدوا في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم ثم قال – في نهاية الآية -(…وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرً‌ا عَظِيمًا )[النساء : 95] ، فهذه الآية تدل على أن القاعدين في بيوتهم من غير عذر مهما جاهدوا أنفسهم ووصلوا إلى مقام قدسهم ليسوا بأفضل من المجاهدين في سبيل الله الذين يقاتلون أعداء الله ورسوله في ساحة الوغى.. والآيات كثيرة في كتاب الله تدل على فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله تركنا ذكرها طلباً للاختصار ..
ويكفي أن الله تعالى ذكر في كتابه من صفات المؤمنين الصادقين الكاملين الإيمان أنهم مجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحجرات : 15] ولاحظ جاءت الآية بأداة الحصر لتؤكد بأن المؤمنين الحقيقيين هم أصحاب الصفات المذكورة في الآية ..
أما الأحاديث التي وردت في فضل المجاهدين في سبيل الله والمرابطين ومالهم من الأجر والفضل فهي كثيرة، ولو ذكرناها لطال بنا المقام، ويكفينا حديث واحد فقط لتعلم أن المجاهد في سبيل الله لا يعدل بعمله أحد مهما كان عمله أو مجاهداته لنفسه ،فعن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال: ” هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ ” فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك،
ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” فوالذي نفسي بيده لو طوقت – يعني أطقت – ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ..”(4)
إن المجاهدين في سبيل الله الذين دافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم حتى نالوا وسام الشهادة يُعدون من أعظم الذين جاهدوا أنفسهم وقتلوها بسيف المجاهدة، حيث أنهم منعوها من رغباتها وخالفوها في شهواتها .. وإليك بيان ذلك :
إن المجاهد المؤمن أول ما يفكر في الذهاب إلى الجبهة للدفاع عن بلاده ربما نفسه قد تمنعه؛ لأنها تحب الحياة والبقاء في هذه الدنيا، لكنه – بهمته وعزيمته – خالف نفسه وخالف كل رغباتها، وقد تظهر له عوائق أخرى فربما أسرته أو زوجته وأولاده قد يثبطونه بكلام ربما يجعله يتراجع، مثل أن يقولوا له: ( إلى من ستتركنا فليس معنا غيرك… )، أو ربما يكون خاطباً أو على موعد من عرسه، لكنه – مع كل ذلك – خالف نفسه ومنعها من كل رغباتها وشهواتها، وهذا – لاشك – أمر عسير على أي إنسان، لاسيما عندما يعلم أنه ذاهب إلى الموت، ونفس الإنسان – بالفطرة -محببه لديه، فقد يمنعها من رغباتها، لكن أن يكون الأمر فيه قتال ودماء تسال فهذا أمر عسير عليه جداً !!..
لكن المجاهد لم يلتفت إلى كل ذلك، بل ترك كل شهواته ورغباته، ولم تحجمه عاطفته ومحبته لأهله وأولاده عن الخروج للجهاد والقتال في سبيل الله، خرج من بيته ليس له أية مصلحة ذاتية ولا منفعة مالية ولا أية رغبة دنيوية، بل هدفه في خروجه هو حبه لله والجهاد في سبيله والاستشهاد؛ لكي ينال رضا الله ورسوله ،وقاسى المشقات وهو في رباطه وجبهته يفترش الأرض ويلتحف السماء، ترك كل النعيم ورغد العيش في بيته واختار الجبهة ليقاتل في سبيل الله لكي يحمي شعبه من أن يُمس بسوء..
فبالله عليكم إذا لم يكن هذا الجهاد الأكبر فما هو إذاً ؟!..
أليس المجاهدون لأنفسهم من الصوفية وغيرهم هم الذين منعوا نفوسهم عن معاصي الله وعن رغباتها الدنيوية وصبَّروا نفوسهم وروَّضوها على طاعة الله حتى وصلوا إلى أنهم وجدوا لذتهم بطاعات الله وذكره فكانوا من أوليائه الصالحين!!..
وإذا كان كذلك، فإن المجاهد الذي خرج إلى ميادين البطولة والشرف قد سلك هذا السبيل من المجاهدات، لأنه ما حصل على وسام الشهادة إلا بعد أن ألجم نفسه بالتقوى وجانب أهواءها ومنعها من رغباتها وشهواتها، وهذا هو قتل النفس المعنوي، ولهذا اشتاق المجاهد بعد أن باع نفسه من الله
ومع ذلك فاز على أولئك الذين اقتصروا على جهاد أنفسهم بأن حصل على وسام الشهادة وعلى حياة برزخية في الحضرة العندية، ورُزق من فيضها وارتاح بأُنسها وتملَّى بمشاهدة نورها وقدسها فكان ممن قال الله عنهم 🙁 وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَ‌بِّهِمْ يُرْ‌زَقُونَ فَرِ‌حِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُ‌ونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[آل عمران:170-169] ولو سلمنا جدلاً بصحة الحديث -الذي أثبتنا أنه ليس من كلام رسول الله – نقول لهم: لماذا لم تقتدوا برسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في جهاده الأصغر ؟!.. فحياته كلها معارك مع أعداء الله، وعليكم أن تبدؤوا بالجهاد الأصغر كي يوصلكم إلى الجهاد الأكبر، ولكم أسوة – أيضاً – بالصحابة وآل بيت رسول الله الذين خاضوا المعارك وفتحوا الأمصار ونشروا الإسلام وقاتلوا الظالمين من الكفرة والمجرمين.. ثم أليس القرآن مليئاً بآيات الجهاد والقتال في سبيل الله !! فقد أمرنا الله ورغبنا وحذرنا من ترك الجهاد في سبيل الله…
إن الجهاد الأكبر – لو عرفتم حقيقته – هو الانطلاق نحو جبهات العزة والكرامة والنفير العام للدفاع عن بلادنا وأعراضنا، وليس مجاهدة النفس أن ننبطح للمستكبرين ونقبل بأن يحكمنا المحتلون والظالمون، بل إن من يقبل بالذل والهوان، ويرضى أن تكون بلاده تحت هيمنة الصهاينة والأمريكان ووصاية آل سعود العربان فإنه لا يعرف من جهاد النفس سوى السفططة والهذيان وكان عبداً لنفسه والشيطان..
………………….
الهامش:
– (1) – هذا المشهور على ألسنة الناس واخرجه البيهقي – بنفس المعنى – في كتاب الزهد برقم”373″ وقال :” هذا اسناد فيه ضعف” وانظر ” تاريخ دمشق” للبغدادي[498/13]
– (2) – ” كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ” [ 486/1] للحجة إسماعيل بن محمد العجلوني
– (3) – “تهذيب الكمال في اسماء الرجال “[144/2] للحافظ جمال الدين المزي
– (4) – روى هذا الحديث البخاري في صحيحه (2785) وابن حبان في صحيحه(4621)
واللفظ ” لابن عساكر في ” تأريخ دمشق” [449/32] وانظر ” سير أعلام النبلاء” للذهبي[412/8] و ” تفسير ابن كثير” [448/1]

قد يعجبك ايضا