في مقابل تطلع الشارع الليبي لانتخاب برلمان موحد وأول رئيس منتخب، ينهي مشهد الصراع والانقسام والفوضى العاصفة في ليبيا منذ العام 2011م تواجه العملية الانتخابية التي تمضي في مراحلها الأخيرة تحدياً جدياً من أهم الأطراف السياسية الممثلة لثورة 17 فبراير والممسكة بمقاليد الحكم، بعدما أفلحت ضغوطها في وقف العملية الانتخابية عند مرحلة إعلان القائمة النهائية للمرشحين للانتخابات الرئاسية مدفوعة بمخاوف من أن تقود انتخابات 24 ديسمبر الحالي، إلى منظومة حكم جديدة تزيحها عن المشهد السياسي.
تحليل / أبو بكر عبدالله
تعقيدات المشهد الانتخابي الليبي، المراوحة بين خياري التنظيم والتأجيل، قبيل أيام قليلة من موعد الاستحقاق الانتخابي، أثارت قلقاً تجاوز المسرح الداخلي إلى الدولي، بدا واضحاً في انقسام مجلس الأمن بشأن تعيين مبعوث أممي جديد إلى ليبيا، والتحرك المنفرد للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش لتدارك الوقت بقراره تعيين ستيفاني وليمز مستشارة له لشؤون ليبيا، للقيام بدور أممي يسعى لإنقاذ العملية الانتخابية من تدهور وشيك، بعد إفصاح بعض الأطراف الليبية عن عقبات جدية قد تنجز فيها العملية الانتخابية، لكنها لن تفلح في تحقيق أهدافها بإعادة الوحدة والاستقرار لهذا البلد الذي مزقته الحروب.
وعكس التدخل الأممي بإعادة ستيفاني وليمز إلى المشهد الليبي، حجم القلق من تفاعلات المشهد الانتخابي التي تنذر بفشل العملية السياسية، في ظل التعقيدات التي ظهرت على السطح مؤخراً، بصعوبة تطبيق بعض بنود القوانين الانتخابية في ظل السقف الزمني الضيق المرسوم وفق مقررات مؤتمر باريس، والحاجة إلى توافقات سياسية في بعض الملفات العالقة، وأكثر من ذلك ومخاوف التغير الشامل للخارطة السياسية دون قواعد دستورية نافذة، ما زاد من احتمالات الانزلاق مجددا نحو العنف، في ظل احتفاظ الفرقاء الليبيين بكميات من السلاح تكفي لوضع ليبيا في عقود من الصراع المسلح والانقسام والفوضى.
هذا الواقع المعقد أقنع العديد من الأوساط الليبية والدولية بأهمية إنتاج مقاربات سياسية داخلية جديدة، تضاف إلى توافقات باريس، وتمنح الانتخابات المزيد من الشرعية الضامنة لاعتراف جميع الأطراف بنتائجها لتكون القاعدة الصلبة التي يمكن الوقوف عليها لإنجاز ما تبقى من الاستحقاقات المؤجلة للمرحلة الانتقالية.
وينقسم المشهد الليبي حالياً إلى قسمين الأول يمثل شرق ليبيا وجنوبها ووسطها المؤيد لتنظيم الانتخابات الرئاسية البرلمانية في موعده المحدد، وفق محددات مؤتمر باريس ويسانده في ذلك المجتمع الدولي، بينما يمثل القسم الثاني الغرب الليبي بقواه السياسية الممثلة لتيارات ثورة 17 فبراير، والمطالبة بتأجيل الانتخابات إلى فبراير القادم بحجة استكمال القواعد الدستورية والقانونية الناظمة للعملية الانتخابية، يساندهم في ذلك بعض القوى الإقليمية والدولية المؤيدة لهذا الخيار.
قياسا بهذا المشهد المنقسم على المستويين الداخلي والخارجي، فقد جاء قرار غوتيرش بإعادة ستيفاني وليمز إلى ليبيا كمحاولة أممية لتقليص فجوة الانقسام، استنادا إلى خبرتها خلال فترة عملها كنائب لرئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا في التعامل مع تعقيدات الوضع الليبي وتجاذبات مراكز القوى واحتياجات التسويات الممكنة، والتي كانت تكللت سابقاً في مؤتمر جنيف بإنتاج توافقات أولى أثمرت عن اتفاق وقف النار وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بعد إخفاق ستة مبعوثين أمميين في تحقيقه.
هذه الخطوة أفصحت عن إدراك أممي مبكر لمخاطر التعامي كلياً عن الاختلالات الحاصلة في المشهد الانتخابي اليوم، باعتبارها قد تشكل- في وقت لاحق قريب- وقوداً لتفجر الصراع المسلح تماماً كما حدث في العديد من التجارب الانتخابية السابقة في مناطق عدة من العالم، ما جعل غوتيرش يعيد الكرة إلى الليبيين، ليقرروا الصيغ السياسية التوافقية الملائمة التي يمكن من خلالها تلافي المخاطر المحتملة جراء تنظيم الانتخابات على أرضية دستورية وقانونية مختلف عليها.
ما هي العقبات المحتملة؟
الخارطة التي أكد عليها مؤتمر باريس بشأن الانتخابات الليبية، كانت تواجه مشكلات من اليوم الأول، فهي جعلت تنظيم الانتخابات الهدف، دون النظر إلى ثبات القواعد الدستورية والقانونية والتقنية ومدى قدرتها على إنجاح العملية الانتخابية والقبول بنتائجها من جميع الأطراف المتصارعة.
ومقررات مؤتمر باريس على سبيل المثال، نصت على تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالتزامن بمشاركة جميع الأطراف، كما منحت مفوضية الانتخابات سلطة عليا في الاشراف على العملية الانتخابية واتخاذ القرارات استنادا إلى التشريعات النافذة، غير أنه وعند التطبيق ظهر التعارض بينها وقرارات البرلمان الليبي الذي أقر تنظيم الانتخابات البرلمانية بعد الانتخابات الرئاسية لتلافي الوقوع في الفراغ الذي ستنعدم فيه السلطة التي يفترض أن تقوم بمهام تسليم السلطة للمكونات السياسية المنتخبة.
ومن جانب آخر عجزت مفوضية الانتخابات عن تطبيق بعض بنود القوانين الانتخابية بسبب ضيق الوقت أو بسبب التسييس الذي أرادته مقررات مؤتمر باريس، ولذلك بدت قراراتها متعارضة أحيانا مع القانون ومع مسودة الدستور ومع سلطة القضاء.
أبرز تجليات ذلك أن مفوضية الانتخابات لم تستطع حتى نهار أمس إعلان القائمة النهائية للمرشحين لانتخابات الرئاسة الليبية، رغم انتهاء الفترة القانونية المحددة لإعلانها، كما أن فترة الدعاية الانتخابية لم تبدأ بعد رغم مرور الموعد القانوني لذلك، في أزمة جديدة تضاف لمشكلات كبيرة، تواجه العملية الانتخابية ويُعتقد أنها قد تعرقل تنظيم الانتخابات في الموعد المحدد يوم 24 ديسمبر الجاري.
وقبلها قرار المفوضية باستبعاد رموز النظام السابق من السباق الانتخابي في الإجراء الذي اثبت القضاء الليبي عدم شرعيته بإصداره أحكاماً أعادت البعض منهم إلى السباق الرئاسي، ثم تعاميها عن المخالفات القانونية والدستورية لبعض المرشحين مثل عبد الحميد دبيبه رئيس الحكومة الانتقالية والمشير خليفة حفتر.
هذه النماذج وغيرها كانت كافية للتأكيد بأن العديد من قرارات مفوضية الانتخابات كانت مسيسة، خصوصاً وهي تزامنت مع إعلان بعض الأطراف النافذة رفض ترشح بعض الشخصيات، بينما تزامن حجب القائمة النهائية للمرشحين للانتخابات الرئاسية مع مبادرة جديدة أعلنها المجلس الأعلى للدولة قبل أيام بدت إنقاذية للأطراف السياسية المتوقع ان تغادر المعادلة السياسية باقتراحها تأجيل الانتخابات إلى فبراير المقبل، وتحديد ولاية الرئيس والبرلمان لفترة واحدة من أربع سنوات غير قابلة للتجديد، وتنظيم الانتخابات الرئاسية بنظام القائمة المكونة من رئيس ونائبين، ورئيس حكومة على أن تحدد صلاحيات كل منهم وفق التوافق بين مجلسي النواب والدولة.
ورغم أن القوائم النهائية لمرشحي الانتخابات الرئاسية تشير من الناحية القانونية إلى 75 مترشحا بعد ما أعاد القضاء الليبي سيف الإسلام القذافي إلى حلبة السباق الرئاسي، إلا أن تأخير المفوضية إعلان القائمة النهائية للمترشحين بعد انتهاء الفترة القانونية للطعون، بدا ملبياً لمطالب أطراف نافذة ترفض إعلان القائمة النهائية للمرشحين وفيها أسماء لهم حظوظ كبيرة في الفوز، وفي المقدمة سيف الإسلام القذافي والمشير المتقاعد خليفة حفتر.
ومن جهة ثانية فقد بدت مفوضية الانتخابات مستجيبة لجماعات الضغط السياسي في مطالبها بـ “القاعدة الدستورية” التي يرى الكثير من الأوساط السياسية عدم جدواها في هذا التوقيت الذي يستعد فيه الليبيون بعد أيام قليلة لتنفيذ أول عملية انتخابية برلمانية ورئاسية في ظل حالة الاستقرار الهشة الناتجة عن اتفاق وقف النار.
ومعروف أن الجدل حول الدستور توارى خلال الفترة الماضية وظهوره الآن بدا وكأنه محاولة يائسة للالتفاف على العملية الانتخابية وربما إجهاضها بما يبقي الوضع على ما هو عليه، الأمر الذي تنبهت إليه العديد من المكونات السياسية وخصوصاً في معسكر الشرق الليبي والأقليات الثقافية مثل الطوارق والتبو، الذين أعلنوا رفضهم هذه المقترحات جملة وتفصيلاً.
والعقبات الحاصلة في العملية الانتخابية ليست قانونية فقط، فهناك تحديات أمنية كبيرة يصعب معها توقع تنظيم الانتخابات في ظل المواقف المعلنة برفض تنظيمها والمشاركة فيها وخصوصا في المناطق التي تتمركز فيها المليشيات والمرتزقة التي جعلت من ليبيا خلال عشر سنوات دولة فاشلة بامتياز.
هذه التحديات تجعل من الصعوبة بمكان توقع أن يُسمح للمرشحين تنظيم برامج دعايتهم الانتخابية في كامل الخارطة الليبية دون استهداف، أو حتى السماح للمراكز الانتخابية في طول البلاد وعرضها العمل في ظل عجز وزارة الداخلية الليبية عن حماية الانتخابات والمراكز الانتخابية، وهو ما تجسد خلال الأيام الماضية باقتحام بعض المليشيات لمراكز انتخابية ومنعها قضاة من دخول المحاكم، وهو مؤشر عن خطط لدى المليشيا قد تهاجم خلالها المراكز الانتخابية أو منع الليبيين من المشاركة وإرهابهم.
التوافقات المحتملة
في مقابل إجماع الشارع الليبي على تنظيم الانتخابات في موعدها باعتبارها تمثل طوق النجاة الأخير للخروج من النفق، فإن فرص المطالبين بالتأجيل تضيق كل يوم، وخصوصا تيار الإسلام السياسي والأطراف السياسية المنخرطة في ثورة 17 فبراير، والتي لا تزال تطالب حتى اليوم بتأجيلها إلى فبراير المقبل أو لآجال أبعد.
ذلك أن كثيرا من الليبيين يرون أن تأجيل الانتخابات، سيؤدي إلى فقدان فرصة التوافق التاريخية المحققة في مؤتمر باريس وما رافقها من رفع علني لسلاح العقوبات الدولية، ما يعني أن المضي بمنعطفات العملية الانتخابية، سيجعل من خيارات العودة للعنف والحسم العسكري فرضيات قد تجاوزها الزمن، خصوصا وأن هذه الخيارات كانت مرتبطة سابقا بالحاضنة الشعبية التي تبدو كلها اليوم ملتفة حول خيار المنافسة السياسية لإخراج ليبيا من عشرية الصراع والانقسام وغياب الدولة.
وأكثر من ذلك فقدان الثقة لدى الشارع الليبي عموما بإمكانية حل الأزمة الليبية سياسيا وإعادة بناء الدولة الحارسة، وهو الموقف الذي أعلنه بوضوح مبعوث الأمم المتحدة المستقيل يان كوفتيتش، عندما أكد أمام مجلس الأمن أن إجراء الانتخابات الليبية في موعدها، أمر بالغ الأهمية للشروع في بناء الدولة وسيساهم في الخروج من دوامة الانتقال السياسي التي طال أمدها، والعودة إلى الشرعية الديمقراطية والشروع في بناء دولة تعمها الوحدة والازدهار والسيادة الحقيقية وإنهاء التدخلات الأجنبية.
ومن جهة ثانية، فإن الوقت المقترح للتأجيل في حال تفهم دواعي التأجيل لن يفي بالمتطلبات الأساسية للاستفتاء على الدستور وتعديل التشريعات الانتخابية في ظل حالة الانقسام الكبير بين القوى السياسية الليبية ومحاولة كل طرف تفصيل التشريعات على مقاسه وبما يناسب مصالحه.
كل هذه العوامل تجعل الممكن الوحيد هو العمل على إنتاج توافقات سياسية على مبادئ أساسية تنظم على أساسها الانتخابات البرلمانية بمحدداتها الراهنة لمرة واحدة، على أن يقوم البرلمان المنتخب باستكمال التشريعات الدستورية والقانونية اللازمة، أو تأجيل الانتخابات لمدة ستة أشهر على الأقل لإكمال الأرضية الدستورية والقانونية للانتخابات بالمؤسسات القائمة وفق تفاهمات جنيف.
ومع ان العديد من الأطراف الليبية بدت متفائلة بعودة الدبلوماسية الأممية المتمثلة بستيفاني وليمز إلى المشهد الليبي وسط آمال بأن تُفلح في إنتاج توافقات جديدة تزيح العقبات القائمة، إلا أن الوقت يبدو ضيقا، فمع وصولها إلى ليبيا بعد أيام سيكون الوقت المتبقي للانتخابات اقل من 10 أيام ما يجعل التوافق على تجميد بعض بنود القوانين الانتخابية لمرة واحدة، هو الممكن الوحيد، بما يزيل المخاطر التي قد تعرقل تنظيم العملية الانتخابية من جهة وتقليل مخاوف الأطراف القليلة الحظ في الانتخابات، ويضمن مشاركة الجميع بصورة متوازنة بما يحقق أهداف المرحلة التمهيدية للحل الشامل.
ولا يمكن القول إن تنظيم الانتخابات في موعدها المحدد سيأتي بالحل الشامل لجميع المشاكل التي تواجهها ليبيا إلا أنها قد تمثل خطوة مهمة للغاية في إيجاد دولة وحكومة شرعية، وهي خطوة أساسية قد تفسح المجال مستقبلا للحلول الشاملة لسائر التحديات التي تواجهها ليبيا.
لا صوت يعلو على الانتخابات
أكثر ما يأمله الشارع الليبي بعد عشرية سوداء من حكم أمراء الحروب والمليشيا، هو تنظيم الانتخابات المقبلة على أمل أن تفضي إلى رئيس قوي وبرلمان موحد قادرين على إنهاء حالة الحرب والانقسام وإعادة الاستقرار لليبيا.
ذلك أن الأزمة الحقيقية في ليبيا تكمن في غياب الحكومة الشرعية، وهي المعادلة التي يصعب إنتاجها دون الشروع بعملية انتخابية حرة ونزيهة يشارك فيها الجميع وتمكن الليبيين من تغيير المشهد المسلح إلى مشهد سياسي تنافسي ببرامج تتوخى المستقبل وتطوي صفحة الصراع.
ولأن المفاعيل الداخلية لم تنضج بعد، فإن الرهان الأكبر ينصب الآن على الدعم الخارجي للعملية السياسية الانتخابية بل يمكن القول إن استمرار الضغوط الخارجية الأوروبية والأميركية والأممية صارت اليوم شرطا أساسيا ضامنا لمضي الأطراف قدما بخيار الانتخابات وتقليص فرص العودة للصراع المسلح والانقسام.
وبين مصالح الغرب الضامن لإنجاح الانتخابات ومصالح ليبيا المترنحة في نفق الانقسامات والكيانات المتصارعة، يبدو أن لا صوت سيعلو على مقررات مؤتمر باريس التي تعهدت إنجاز العملية الانتخابية لتشكيل حكومة شرعية يمكن التعامل معها في هذه الدولة التي تختزن أهم منابع الطاقة في شرق المتوسط.
وسيكون من مصالح الغرب إنجاز هذا الاستحقاق الذي يمكن أن يقود لحلحلة مشاكله في منطقة شرق المتوسط من جهة، والحصول على تموينات سهلة ورخيصة للطاقة من هذا البلد الذي يعد الرابع في افريقيا في إنتاج النفط والغاز.
وتبقى النيات بإنجاح الانتخابات الليبية مرهونة بالإرادة السياسية الدولية لتسوية الملعب بصورة نهائية، من خلال حلحلة ملف القوات الأجنبية والمرتزقة المتواجدين في ليبيا واستثمار التفاهمات التي أبدتها تركيا بإعلانها القبول بسحب المرتزقة جميعا في وقت واحد، لتكون أساسا في إنهاء هذا الملف المثير للقلق، والذي يتوقع أن يبقى تهديدا كبيرا حتى بعد إعلان نتائج الانتخابات.