ما هي حدود التدخل الإسرائيلي في الأزمة بين الجزائر والمغرب؟
الهزيمة الدبلوماسية لنتنياهو أجَّجت نزاع الصحراء
رغم الشوط الكبير الذي قطعه الجزائريون بإنجاح أول انتخابات بلدية، يُرجح أن تخفف من حدة الاحتقان الداخلي بتغييرها مفاعيل وأدوات المشهد الداخلي السائد منذ عهد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، إلا أن هذا البلد العربي الأفريقي لا يزال في قلب العاصفة مع تصاعد الضغوط والتهديدات التي يواجهها على مستوى الجوار الإقليمي وخصوصا مع المغرب المطبع حديثا مع إسرائيل، وقادت تداعيات التطبيع إلى تدهور مريع في العلاقات بين البلدين تجاوز لغة الدبلوماسية إلى التهديد بالقوة، في تداعيات تبدو غير بعيدة عن معادلة التوغل الإسرائيلي في شمال القارة الأفريقية.
الثورة / أبو بكر عبدالله
طوال عقود من الدور السياسي الذي تولته الجزائر، منذ رحيل الزعيم جمال عبدالناصر في المواجهة الناعمة للتوغل الإسرائيلي في شمال أفريقيا، تبدو فترة الرئيس عبدالمجيد تبون الذي يواجه تحديات 20 عاما من تركة نظام بوتفليقة، هي الأخطر من حيث المواجهة التي تصاعدت بحدة بعيد إجهاض الجزائر طموحات إسرائيلية بالانضمام إلى عضوية الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، وآلت تطوراتها إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، قبل أن تتصاعد الأزمة بين البلدين الجارين إلى توتر عسكري غداة توقيع المغرب اتفاقيات عسكرية مع إسرائيل اعتبرتها الجزائر تهديدا لأمنها الداخلي.
ومنذ إعلان رئيس مفوضية الاتحاد الافريقي موسى فكي قبول الطلب الإسرائيلي الانضمام إلى الاتحاد الأفريقي وما تبعته من خطوات في تقديم سفير إسرائيل لدى اثيوبيا أوراق اعتماده للاتحاد في يونيو الماضي، تعهدت الجزائر بتحركات واسعة في العديد من دول الاتحاد سيما غير المطبعة مع إسرائيل، وأفلحت في المسارين السياسي والدبلوماسي بمواجهة ما سمته القرار المنفرد الذي اتخذه رئيس المفوضية، في جهود تكللت بنجاحها في إقناع 24 دولة افريقية أعلنت تاليا معارضتها القرار، ما أرغم المجلس التنفيذي للاتحاد إلى اتخاذ قرار بإرجاء النظر في الطلب الإسرائيلي إلى حين انعقاد القمة الافريقية.
هذه الخطوة مثلت ضربة قاصمة لدبلوماسية الخروج من العزلة التي قادها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي كان قد قطع شوطا كبيرا منذ العام 2016م في بناء علاقات مع أكثر دول الاتحاد لدعم مشروعه في ضم إسرائيل إلى عضوية الاتحاد الافريقي، خصوصا وهي قلصت إلى حد كبير فرص حصولها على إجماع أفريقي بقبول الطلب في القمة الافريقية المقررة العام القادم بعد إعلان اكثر دول الاتحاد رفضها الطلب.
وحتى وقت قريب كان نتنياهو يبدو في قمة انتصاراته الدبلوماسية بعد أن كان قد أفلح بجر السودان وليبيريا إلى قاطرة التطبيع، ليضاف البلدان إلى 43 دولة افريقية من أصل 55 دولة أعضاء في الاتحاد الافريقي تقيم علاقات مع إسرائيل، وهي المرة الأولى التي تحرز فيها حكومة إسرائيلية هذا النجاح منذ فترة حكم الزعيم جمال عبدالناصر الذي قاد حملة سياسية ودبلوماسية كبيرة لمحاصرة طموحات إسرائيل التوغل في القارة الافريقية وأبقى علاقاتها محصورة بعدد قليل من الدول الأفريقية لأكثر من خمسين سنة.
وخلال السنوات العشر الماضية ساعدت الكثير من المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، إسرائيل على إحياء مشروعها القديم في النفاذ إلى أهم التكتلات السياسية في القارة السمراء، ولعل أهمها انهيار حكم القذافي في ليبيا وقبلها انهيار نظام منجستو هايلا مريان في اثيوبيا ثم انهيار نظام البشير في السودان، وأخيرا وهو الأهم الانتقالة الكبيرة في العلاقات الإسرائيلية المغربية بإعلان الرباط بدء علاقات دبلوماسية كاملة بين إسرائيل ضمن صفقة الاتفاق الثلاثي التي أفضت أيضا إلى اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية .
مفاعيل الأزمة مع المغرب
لم تكن العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل غائبة في السنوات الماضية، بل كانت حاضرة في مستويات عدة، وما حدث أخيرا هو إعلانها رسميا في إطار علاقات دبلوماسية كاملة تمهد الطريق لتعاون وتنسيق مشترك يتيح توقيع اتفاقيات عسكرية.
وثمة أسباب عدة تقف وراء الهرولة المغربية في هذا الملف، يتصدرها توجس الرباط من تطورات خطيرة مع جبهة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء الغربية، وتنامي مخاوفها من علاقات تقارب محتملة بين إيران والجزائر المتهمتين بالتحالف مع جبهة البوليساريو في مساعيها لاستقلال الصحراء الغربية، التي يراها المغرب جزءا من أراضيه.
هذا التوجس تصاعد بعد إصدار محكمة العدل الأوروبية ما اعتبره مراقبون دوليون انتصارا قانونيا لجبهة البوليساريو بالحكم الذي أصدرته بعدم إمكانية توسيع المعاهدة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب لتشمل الصحراء الغربية، ما دعا المغرب إلى اتخاذ خطوات موازية، قفزت إلى المشهد بإعلان الرباط علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، ساهمت في إنعاشها التوجسات الإسرائيلية المغربية من مخاطر علاقات تقارب محتملة بين إيران والجزائر.
ويسود التوتر منذ عقود العلاقات الجزائرية المغربية بسبب الخلاف الطويل الأمد بين البلدين حول جبهة البوليساريو والصحراء الغربية التي تصنفها الأمم المتحدة ضمن «الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي»، لكن التوتر تصاعد على نحو كبير بعد توقيع الرباط اتفاقيات عسكرية مع إسرائيل وما تلتها من تجاذبات على خلفية اتهام الجزائر للرباط بقتل ثلاثة جزائريين بقصف ناري في الصحراء الغربية وتعهدها بأن «اغتيالهم لن يمر دون عقاب».
زادت من ذلك تقارير تحدثت عن تسليم الجزائر معدات عسكرية لجبهة البوليساريو لتنفيذ «أعمال انتقامية» ضد الرباط والتي أثارت توجساً لدى المغرب خصوصا وهي تزامنت مع تعيينات جديدة في قيادة الجبهة، شملت أسماء توصف بأنها أكثر تشددا تجاه الرباط، فيما اعتبرته أوساط مغاربية محاولات لإشعال فتيل حرب كما حدث في حرب أمغالا 1976م بعد استرجاع المغرب للصحراء.
ولم ينته التحرك المغربي في قطاع التطبيع مع إسرائيل عند إعلان العلاقات الدبلوماسية الكاملة، إذ استقبلت الرباط مسؤولين إسرائيليين ووقعت اتفاقيات عسكرية مع حكومة الكيان الإسرائيلي، وكان آخرها زيارة وزير خارجية يائير لبيد في أغسطس الماضي وإعلانه من الرباط ما سماها هواجس إزاء الدور الذي تلعبه الجزائر في المنطقة وتقاربها مع إيران».
هذه التطورات أثارت مخاوف واسعة لدى الجزائر التي اعتبرتها تهديدا مباشرا لأمنها، ما دفعها إلى قطع علاقتها الدبلوماسية مع المغرب أواخر الشهر الماضي وسحب سفيرها من العاصمة الرباط، في ظل أجواء بالغة التعقيد عبَّر عنها مسؤولون جزائريون، كاشفين عن دعم مغربي إسرائيلي لمنظمة «الماك» القاطنة في مناطق القبائل جنوبي الجزائر، لتنفيذ عمليات إرهابية تقوِّض المشهد الأمني، وضلوع المغرب في التجسس على مواطنين ومسؤولين جزائريين عبر برنامج التجسس الإسرائيلي بيجاسوس والتخلي عن التعهدات بشأن الصحراء الغربية.
زاد من ذلك تمكن قوات الأمن الجزائرية من إلقاء القبض على 17 مشتبهاً به، ونشرها لهم اعترافات أقروا فيها بـ« التواصل مع جهات أجنبية عبر الإنترنت تنشط تحت غطاء جمعيات ومنظمات للمجتمع المدني متواجدة في الكيان الصهيوني ودولة من شمال إفريقيا» في إشارة إلى المغرب وإسرائيل»، فضلا عن اتهام السلطات الجزائرية جماعتين تم تصنيفهما مؤخرا ضمن التنظيمات الإرهابية، بالتسبب في اشتعال حرائق الغابات وقالت إن إحداهما مدعومة من المغرب وإسرائيل.
مواجهة مباشرة
إعلان المغرب علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، لم يحمل الكثير من الأسرار بالنسبة للجزائريين الذين اعتبروه جزءا من استراتيجية تنتهجها الرباط لتعزيز قدراتها في تهديد أمن الدولة الجزائرية وممارسة الضغوط عليها، وهو الأمر الذي عبّر عنه بوضوح رئيس الحكومة الجزائرية عبدالعزيز جراد عندما أكد أن الطبقة القيادية في الجزائر صارت تعتبر علاقات «إسرائيل» ونشاطها في المغرب خطراً مباشراً أمنياً واستراتيجيا.
وبرغم أن إسرائيل ردت باتهام الجزائر بكونها صارت جزءا من محور يضم إيران التي تحاول التوغل في منطقة الشمال الافريقي، إلا أن ما أفصحت عنه مراكز أبحاث في دولة الكيان مؤخرا، بدا متطابقا من الاتهامات الجزائرية، فهي تحدثت بوضوح عن إمكان أن تعمل إسرائيل في المناطق الفارغة لإضعاف الجزائر ومواجهة إيران عبر النافذة المغربية المفتوحة وكذلك التصدي للموقف الجزائري المناهض لحصول تل أبيب على عضوية الاتحاد الافريقي من خلال عقد الصفقات العسكرية مع المغرب واستثمار الصراع الدائر في ليبيا لدعم بعض الأطراف وكذلك دعم بعض القوى في تونس لتطويق الجزائر والتجسس عليها وانهاكها بمشاكل الجوار الإقليمي.
هذه التفاعلات خرجت إلى العلن بعيد زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى المغرب وتوقيعه مذكرة تفاهم دفاعية مع المغرب، يعتقد أنها قد تسهِّل حصول الرباط على التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية، كما قد يمّهد ذلك لتعاون عسكري، بما في ذلك تدفق مبيعات السلاح الإسرائيلي إلى المغرب، وهي الخطوة التي عززت مخاوف الجزائر من مخاطر تهدد أمنها عبَّر عنها الرئيس تبون بالأسف حيال الاتفاق الموقع بين إسرائيل والمغرب، واعتباره تهديد الجزائر من الرباط خزياً وعاراً فضلا عن تهديده بالقول «سنهاجم كل من يتجرأ على مهاجمتنا، العين بالعين والسن بالسن».
وطبقا للرواية الجزائرية فإن المؤامرات على الجزائر تصاعدت كثيرا بعد إعلان المغرب التطبيع مع إسرائيل، وتوقيعها اتفاقيات عسكرية وأمنية معها، وهي الاتفاقيات التي جاءت كما يقولون في إطار مشروع إسرائيل القديم التوغل في دول الصحراء للعب دور سياسي وأمني مستقبلي ينذر بمخاطر على دول الصحراء المغربية بصورة عامة.
وقد اتهمت الجزائر إسرائيل بما سمته تجاوزا للخطوط الحمراء، بمساعدتها المغرب على بناء قاعدة عسكرية قريبة من الحدود الجزائرية، مثَّلت تهديدا كبيرا لأمن الجزائر، ناهيك عن اتهامها بدعم حركة «الماك» الانفصالية تحت غطاء «مؤسسات المجتمع المدني» وهي الحركة التي تطالب بالانفصال وتصفها الجزائر بأنها منظمة إرهابية.
وتبدو التحركات الجزائرية في مواجهة تهديدات إسرائيل قد توسعت إلى أكثر من مسار، فبعد نجاحها في تشكيل تيار أفريقي واسع مناهض لانضمام إسرائيل إلى عضوية الاتحاد الأفريقي، شرعت بدور سياسي أكثر فاعلية في تبني قضية إعادة سوريا إلى الجامعة العربية خلال الاجتماع المقبل المقرر ان تستضيفه الجزائر في مارس المقبل، وهو الموقف الذي عبَّر عنه الرئيس الجزائري بوضوح بتأكيده على أن «سوريا من المفروض أن تكون حاضرة في القمة العربية».
غير أن التقديرات تشير إلى أن ارتياب الجزائر من إسرائيل لن يقف عند حدود العمل الدبلوماسي، في ظل سيناريوهات عدة أقربها انضمام الجزائر إلى محور المقاومة من خلال التقارب مع إيران خصوصا وهي تقف في المعسكر المناوئ لإسرائيل، وليس لديها تمثيل دبلوماسي في المملكة المغربية التي كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران في العام 2018م على خلفية اتهامها لطهران بدعم جبهة البوليساريو بالسلاح عبر حزب الله اللبناني، وهو الاتهام الذي نفته طهران كليا.
وفضلا عن ذلك بناء علاقات مع دول محور المقاومة ،في الصدارة،حركات المقاومة الفلسطينية وفي الصدارة حركة المقاومة الإسلامية حماس، التي كانت قد أشادت بموقف الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون من القضية الفلسطينية، معبِّرة عن «اعتزازها بالموقف الجزائري الخالد الذي عبَّر عنه الرئيس عبدالمجيد تبون خلال خطابه بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني».
وعلى المسار العسكري، فإن كل الاحتمالات تبدو واردة في حال أخفقت الجزائر والمغرب في السيطرة على تداعيات الأزمة المتصاعدة، أضف إلى ذلك أن التحركات الجزائرية بدت طوال الفترة الماضية تصاعدية، ما يرجح أنها على استعداد للدفاع عن أمنها الداخلي بالرد في كل المسارات.