الذكرى الـ54 للاستقلال.. وقفة مع حقائق التاريخ بين الغزاة القدامى وأدواتهم القذرة

باحثون:
اتحاد إمارات الجنوب العربي المزيف كان مؤامرة على الوحدة العربية واستهدافاً للهوية اليمنية
وصول مشاريع المستعمر إلى طريق مسدود دفعه للإبقاء على رعايا وأنظمة لاستخدامها لتلبية أطماعه المستقبلية
وثائق:
بريطانيا سعت لتوقيع اتفاقيات مع الكيانات الجهوية الطامحة في الحكم لتضمن اعترافاً متبادلا بشرعية وجودها
صنعاء والقاهرة والجامعة العربية رفضت إعلان بريطانيا الرسمي (11 فبراير 1959م) بشأن اتحاد الجنوب العربي
مراقبون:
المحتل البريطاني قسم ديموغرافيا جنوب اليمن إلى إمارات وأدواته (السعودية والإمارات) يُفتتونها إلى فصائل متناحرة
ما يجري في المناطق المحتلة من أزمات كفيل بأن يجعل من 30 نوفمبر مناسبة لتحقيق استقلال جديد

أن يكون 30 نوفمبر 1967م يوما مجيدا سطرت ساعات صباحه الأولى إنزال أعلام المستعمر الإنجليزي، إيذانا باستقلال جنوب اليمن من وجوده العسكري بعد 128 عاماً من الاستعمار، إلا أنه لا يعني إنهاء أطماعه في اليمن، بل بداية لابتكار حيل ووسائل أكثر غموضا وأبعادا لاأخلاقية، فبعد انكشاف كامل أحابيل مكايده القذرة التي كانت تطبق على الشعوب عبر استدراج فئات منهم أو طوائف أو مشيخات أو سلطنات طامحة بمصالح ضيقة لا أفق فيها ولا انتماء وطني، بخطابات مغلفة بالإغراء بالمال والسلطة والحماية، وأحيانا بالإدانة بممارسات تمس بمصالح الأقوياء الطامعين، وتبعا لذلك لا ثمن لتلك الإدانات إلا السيطرة على أرض المدان.. عمد الاستعمار البريطاني إلى صناعة أدوات ترتدي لباس القواسم المشتركة من دين ولغة وثقافة، لينفذ بها أطماعه في البلد أو المنطقة المستهدفة..
الدليل الواضح اليوم على هذا التطور اللافت في سياسات الاستعمار الجديد، يتجلى في ما تشهده مناطق اليمن الشرقية والجنوبية من احتلال يرتدي العروبة والاسلام ويمارس ما لم يمارسه المستعمر، في تحالف دولي تقوده السعودية والإمارات ومن ورائهما أمريكا وبريطانيا.. فكيف عاد الغزاة.. وكيف صنع أدواته المطيعة.؟ وما المفارقات بينهما؟.. ولماذا قرنت فترة الاحتلال البريطاني -التي انتهت في 30 نوفمبر 1967م- بنوع من الازدهار؟ فيما قرنت فترة الأدوات بالأزمات المتفاقمة والأوضاع الكارثية التي تنذر بثورة جياع؟ … وغيرها من الأسئلة التي سنجيب عليها في المادة .. إلى التفاصيل:
الثورة /قراءة ومتابعة/ محمد إبراهيم

حسب وثائق التاريخ، لم يمض على تاريخ حادثة جنوح السفينة (داريا دولت) قُبَالة الشواطئ اليمنية- الواقعة ضمن سلطة سلطان لحج العبدلي والحاكمة الفعلية على مدينة عدن، وسيطرة القوات البريطانية على موانئ عدن- أكثر من عامين، حيث جنحت السفينة 1837م وأعلنت بريطانيا سيطرتها على عدن وضواحيها في 19 يناير 1839م بعد اتهام سكان عدن وما حولها بنهب السفينة، وكان الهدف المعلن معاقبة المدانين بنهب السفينة وحماية السفن التجارية من اعتداءات مماثلة، بينما الهدف المضمر هو السيطرة المطلقة على طرق التجارة، ثم تحويل المنطقة إلى قاعدة بحرية ومستودعات للسفن البريطانية ترجمة لما أوصى به تقرير ضابط البحرية الكابتن هينز -الذي بعثت به السلطات البريطانية إلى منطقة خليج عدن في عام 1835م، ودراسة خصائص موقعها الجغرافي- بضرورة احتلال عدن.
إن تحويل مدينة عدن إلى مركز تجاري وبشري عامر بالحياة المناسبة لتلك الحياة التجارية، جعلت الإنجليز أمام خيار إقامة دولة استعمارية ذات نظام متكامل يذيب التحديات ويحولها لصالحها، عبر فرض الأمن وإقامة التعليم واحترام الحقوق لسكان المستعمرة، لإدراكها أن استمرار سيطرتها الحديدية أمراً مستحيلاً لضراوة المقاومة التي واجهتها، فكان لا بد من تطبيق المثل السياسي الخبيث للقوة الاستعمارية الكبرى في العالم حينها “فرِّقْ، تسُدْ”، ولكن تحقيق هذا المبدأ يجب أن يأتي تحت شعارات تنطوي على أبعاد قيمة كمبدأ الحماية لكل من يحالفها ويلتزم بقوانين مستعمراتها ومصالحها.
ولأن بريطانيا قرأتْ بخبث واقع شتات الجغرافيا بين سلطنات ومشيخات وقبائل، بعين فاحصة، عمدت الى تكريس مبدأ التحالفات مع تلك السلطنات رافعة اسمها في المنابر الخطابية السياسية والمنشورات كقوى حليفة لها من أجل استدامة سيطرتها على ميناء عدن، وعلى مدى أربعة عقود من سيطرتها على عدن نجحت سلطات الاحتلال في توقيع اتفاقيات مع الكيانات الجهوية الطامحة في الحكم، لتضمن اعترافاً متبادلاً بشرعية وجودها مظلة لجمع المتصارعين، مقابل حماية مشتركة، و(مرتبات) دائمة لزعماء السلطنات التي فرختها، وفق ما سمي بـ”النواحي التسع” المتمثلة في إمارات ومشيخات وسلطنات: (لحج “العبدلي” – العلوي – الضالع “الأميري” – العقربي- العوالق السفلى- الفضلي- الحواشب- الصبيحي- يافع السفلى).
الأغرب في هذه النواحي التي نشأت تحت ما يسمى “سياسة الحماية” على أساس أن هذه النواحي تسمى بالمحميات البريطانية، يعنى الوجود بحمايتها من هجمات العثمانيين، بعد أن رغبت في الاستقلال عن الدولة العثمانية، بينما كانت هذه النواحي التسع في واقع الأمر، سياجات جغرافية وبشرية تحمي مصالح بريطانيا في عمق تمركزها في عدن وموانئها ومطارها، ومركزها الذي بات تجارياً استراتيجياً لمصالح بريطانيا.
الدليل على ذلك أن سلطات الاحتلال عبر الترغيب بالمال والترهيب بالحرب اشترت من زعماء تلك النواحي مساحات شاسعة من الأراضي لتصنع لها جيوباً عسكرية تؤمِّن تمركزها الأهم في الميناء، حتى استحوذت على منطقة خور مكسر في 1849م، وعدن الصغرى في 1869م والشيخ عثمان في 1882م، والحسوة في 1888م، وما خارج هذه المناطق أشعلت الحروب والنزاعات بين سلطنات ومشيخات جنوب اليمن التي تزيد عن (17) سلطنة ومشيخة، على حدود تافهة وبعيدة كل البعد عن مركز الحركة الملاحية والتجارية “ميناء عدن”، الذي أصبح الثاني في العالم في منتصف خمسينيات القرن الماضي، بعد أن أتخم الانجليز خزائن الإمبراطورية البريطانية بالأموال والعائدات.

استغلال المد القومي
ولأن فترة الخمسينيات كانت محمومة بطفرة القومية العربية كنتاج طبيعي للحضور القومي للزعيم عبد الناصر، أرادت بريطانيا أن تناغي مدها في جنوب اليمن، ليس حباً في الوحدة العربية حلمها الأزلي وإنما استهدافا للنسيج اليمني المترابط بمسمى سيُطْمس في ذاكرة الأجيال القادمة للهوية اليمنية، عبر احتمال حدوث تشجيع عربي واسع بهذه البروفة الأولية على طريق الوحدة العربية.
هذا التوجه الاستعماري لم يكن جديد، ففضل عن استمالة الزعامات والقيادات العربية إلى صفها بإيهامهم بتحقيق الوحدة العربية الكبرى من أيام الشريف الحسين، “بدأت منذ بداية عام 1934م بسلخ هوية الأجزاء الجنوبية والشرقية من اليمن، عن هويتها التاريخية والجغرافية، عبر تغليب الثقافات والهويات المحلية وتغذية النزعات الانفصالية وتعميق هوة الخلافات والصراعات البينية، لضمان طمس الثقافة والهوية الوطنية اليمنية وتكبيل ووأد أي هبة شعبية تحررية”.
ومع إطلالة العام 1952م بدأ الانجليز بترجمة سياستهم الجديدة عبر الترويج لإقامة كيانين اتحاديين فيدراليين حسب التقسيم الإداري في الإمارات ومستعمرة عدن وتوحيدها في دولة جديدة تسمى “دولة الجنوب العربي الاتحادية”، على أن تبقى مستعمرة عدن خارج الاتحاد، وفي 1954م قدموا وجهة نظرهم بشأن الاتحاد الفيدرالي وإدارته، على أن تتكون من المندوب السامي، وتكون له رئاسة الاتحاد والعلاقات الخارجية والقرار الأول في حالة الطوارئ، ومجلس رؤساء يضم رؤساء البلاد الداخلية في الاتحاد، ومجلس تنفيذي وآخر تشريعي، وفي 19 فبراير 1959م أُعلن رسمياً عن قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي.
وفيما كان الإنجليز يراهنون على اعتراف الحركات القومية في كثير من الدول العربية بتأييد واعتراف سياسي بهذا الاتحاد، حدث العكس.. وفي هذا السياق يقول الباحث والكاتب اليساري قادري أحمد حيدر، في قراءته وثيقة لحركة القوميين العرب المركزية الصادرة في عام 1959م بعنوان “اتحاد الإمارات المزيف مؤامرة على الوحدة العربية”: سعت الإدارة الاستعمارية البريطانية لإقامة اتحاد فيدرالي في جنوب البلاد، في تصور منها أنها تحسن وجهها القبيح، وتزين شكل وجودها.. وطيلة الحقبة الاستعمارية قسمت بريطانيا جنوب اليمن إلى ثلاث مناطق، أو إدارات، كل منها دويلة، في داخلها دويلات صغيرة مستقلة خاضعة ومقيدة فعلياً وسياسياً بجملة معاهدات واتفاقيات مع الإدارة الاستعمارية البريطانية. وهذه المناطق الثلاث هي: عدن وحكومتها، والمحميات الغربية، والمحمية الشرقية، وفي عام 1954م سعت لإقامة دولتين اتحاديتين، في كل من: المحميات الغربية، والمحميات الشرقية، ثم إقامة ما سمته آخر الأمر “دولة اتحاد الجنوب العربي” وأرادت إدخاله في الجامعة العربية.
وفيما يرى حيدر، كان الهدف الأهم في هذه الخطوات ضرب وحدة الجغرافيا اليمنية وكانت تلك خطوات سياسية لإعطاء هوية مفتعلة لمناطق جنوب اليمن في صورة هويات سياسية مناطقية قبلية، عشائرية، لكل واحدة منها دويلة مستقلة عن الأخرى، تجتمع في مسمى “محمية غربية” و”محمية شرقية”.. تؤكد المجريات المقرونة بالطفرة القومية الساعية للوحدة العربية في تلك الفترة، إن الانجليز استغلوا المد القومي، لإلغاء الهوية اليمنية بخطوة أولى على طريق الوحدة العربية التي كانت لحلمها حضور كبير ومد في حركة القوميين العرب في الجنوب اليمني، وإغراء الحركة باعتماد دول الجنوب العربي كدولة معترف بها في مظلة الجامعة العربية، وسع المستعمر لطرح المشروع السياسي الفيدرالي الجديد، في 11 فبراير 1959م، لكنه قوبل بالفشل وكان لمعارضة جميع أطراف الحركة السياسية الوطنية، بما فيها الإمامة في صنعاء، دور كبير في ذلك الفشل، لكن الدور السياسي والإعلامي الذي لعبته جمهورية مصر العربية كان أكثر وقعا وكشفا لخبث المشاريع البريطانية حينها، وهو ما جعل الجامعة العربية ترفض جميع مشاريع بريطانيا السياسية في جنوب اليمن منذُ مشروع 1954م حتى مشروع 1959م.
وأضاف حيدر: وجاءت “وثيقة حركة القوميين العرب” في هذا الاتجاه، ولكن ضمن رؤية سياسية جديدة جعلت من قراءتها ومناقشتها للمشروع الاستعماري مدخلاً لتأكيد خيارها السياسي من أن لا حل سوى بالكفاح المسلح. ومع قراءة الوثيقة النقدية التحليلية لحركة القوميين العرب، نجد أنفسنا أمام كتابة راقية في الفلسفة السياسية، وأمام رؤية تعيدنا إلى صراع تاريخي قومي، وخطاب حدي يكن عداءً صارخاً لكل ما يتصور أنه خارج نطاق القومية العربية أو فيه شبهة عداء لها، خطاب مشحون بميثولوجية ثورية قومية عصبوية، عدوها الأساس الاستعمار وحلفاؤه والشيوعية، ولكن في هيئة ومضمون خطاب ثوري مقاوم من أجل انتزاع استقلال البلاد العربية ورفض التجزئة والتقسيم.. خطاب، وكتابة محكومة بمنطق صعود حركة التحرير العربية القومية، والدور السياسي القيادي لمصر عبد الناصر، الذي تعتبر حركة القوميين العرب وقياداتها حتى ذلك الوقت (أواخر الخمسينيات) واقعة تحت طغيان الآيديولوجية القومية الناصرية، ولم يبرز بعد ذلك في إطارها أي تباين جدي حول ما سُمي بعد ذلك: اليمين واليسار الذي تشكَّل مباشرة من بعد النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي.

تداعيات ومسار زمني
أخذت ردة الفعل الوطني اليمني بعدا ميدانيا من التداعي الميداني على الأرض، خصوصا بعد رفض الجامعة العربية وجمهورية مصر العربية، للمشروع خلافا لما كان يتوقعه المستعمر، لتؤجج الأحداث عبر مسار زمني، من المقاومة التي تطورت إلى المظاهرات والاحتجاجات، ففي 24 سبتمبر 1962م شهدت كريتر، مسيرة كبرى سميت بمسيرة الزحف المقدس ضد الاستعمار، وضد دمج عدن في الاتحاد الفيدرالي، وسقوط ضحايا، وفتاة عدنية تنزل علم الاتحاد.. وفي 23 فبراير 1963م شكلت القوى الوطنية جبهة التحرير “الأولى”، جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، في مؤتمر لمناضلي الجنوب بكل فئاتهم في صنعاء، وصدور ميثاقها ونشرة خاصة بها. وفي 19 أغسطس 1963م أعلن عن تشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، التي فضلت الخيار المسلح على خيارات الجبهة السابقة.
وفي 14 أكتوبر 1963م انطلقت الشرارة الأولى للثورة ضد الاستعمار البريطاني، من جبال ردفان، بقيادة عضو جبهة التحرير راجح غالب لبوزة، الذي استشهد يومها. لتبدأ سلطات الاحتلال الإنجليزي بشن حملات عسكرية شرسة على مختلف مناطق ردفان والضالع وغيرها، وفي 10 ديسمبر 1963م أصيب المندوب السامي البريطاني “كنيدي ترافيسكس”، ومقتل نائبه “جورج هندرسن” وجرح 53 من كبار موظفي الانجليز، في حادثة المطار الشهيرة حيث ألقى عضو الحركة العمالية بعدن “خليفة عبدالله حسن خليفة” قنبلة يدوية في عمل فدائي إيذانا ببدء الكفاح المسلح الذي استمرت أحداثه القاسية التي اجبرت المستعمر على قبل الموعد الذي أعلنته الخارجية البريطانية في 22 فبراير 1966م، في ما يسمى بالكتاب الأبيض، الذي أعلن رسميا عن قرار بريطانيا القاضي بمنح عدن والمحميات الجنوبية والشرقية الاستقلال مطلع 1968..
وفي 30 نوفمبر 1967م أعلن الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وأصبحت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل إبان حرب التحرير تتولى مسؤولية الحكم، وصدور قرار القيادة العامة للجبهة القومية بتعيين قحطان محمد الشعبي أمين عام الجبهة، رئيساً لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لمدة سنتين، وإعلان تقسيم سياسي وإداري جديد للمحافظات الشمالية والشرقية، يضم 6 محافظات و30 مديرية، وكان الاستعمار البريطاني قد عمل على تقسيم الجنوب إلى 21 إمارة وسلطنة ومشيخة، بالإضافة إلى مستعمرة محمية عدن، لكل منها كيانها السياسي والإداري وحدودها وعلمها وجواز سفرها وجهازها الأمني، والمرتبطة في الأخير بالمندوب السامي البريطاني في عدن.

مرجعية الأدوات
تسليم بريطانيا بزوالها ورحيلها عن أهم مستعمراتها في الهند والشرق والأوسط ومن المنطقة الأكثر أهمية استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، فعمدت الى سن قوانين تصورها للعالم زيفا بأنها الأكثر وفاء لحلفائها، إذ التزمت لهم بالنفقات حتى بعد رحيلها، باعتبارهم أدوات مستقبلية لأدواتها الرسمية من الأنظمة الخليجية التي استطاعت بريطانيا بسياستها العميقة تشكيلها وإرساء مداميك حكمها العميل كالسعودية والامارات والبحرين وغيرها، ولتشكل مرجعيات لأطماعها الاستعمارية والمستقبلية، وهو ما تحاول- من خلاله- العودة هذه المرة بشعارات أجد وأحدث.
ويرى مراقبون أن ما يجري اليوم في محافظات اليمن الشرقية والجنوبية مختلف تماماً مع وجود الأدوات البريطانية الحديثة (السعودية والإمارات) حيث تفتيت المجتمع اليمني في مناطق سيطرة التحالف بصور تفصيلية أكثر، فبدل المحميات وتعددها، أوجد التحالف أحزمة أمنية، لكل منطقة ولكل كيان وجهة وقبيلة، والكل يستلم المال والسلاح من التحالف السعودي الإماراتي، وفي عمق عدن توجد الفُرْقةُ الأهم والقائمة في قوتي: حكومة هادي المقيمة في الرياض، الانتقالي المدعوم من الإمارات، وكلاهما يتصارعان لتأمين أدوات الاستعمار القديم وسيطرتها على الموارد والثروات النفطية والغازية، عبر تلك الأحزمة الأمنية والتشكيلات المفتوحة على التعدد المصالحي الضيق الأفق.
وفيما ذهبت بريطانيا الى الاتفاقيات الجزئية مع السلطنات كمحميات، وعقد مصالحات بين تلك المحميات ترعاها القوة العظمى لتضمن بقاء زعمائها في الحكم، وبقاءها كحاكم فوق الأطراف، سعى التحالف لاتفاق الرياض بين حكومة هادي وسلطات الانتقالي، فيشعر كل طرف بأنه محمي من الآخر باتفاق الرياض، وبهذا الشعور شرعن التحالف وجوده كحاكم على الطرفين، ومسيطر خارج صراعاتهما في المدن على منابع قطاعات النفط والغاز في حضرموت ومارب وشبوة والمهرة وسقطرى.
الأكثر قرباً من خباثة السياسة الاستعمارية أن هذا التعدد المتباين حد النزاع والتقاتل، جاء تحت شعار حماية اليمن ووحدته واستقراره والاعتراف بهادي وحكومته سلطة شرعية على البلاد، المحصورة في فنادق الرياض، فيما لم تخرج شرعيتها المزعومة عن التوقيع على قرارات التدمير لكل مقومات اليمن البنيوية والاقتصادية والتجارية الدولية من موانئ ومضايق ومطارات، واستلاب ثرواتها النفطية والغازية.
هذا التعدد المفارق لما قام به المستعمر القديم، لم يأتِ بهذا التشعب لأن وسائل الحرب والدمار صارت اليوم أقوى وأكثر فتكاً ودماراً، والمال الخليجي أكثر سيولة وعطاء، بل لأن المصالح خرجت من الميناء متسعة إلى منابع النفط في حضرموت وشبوة ومارب، وإلى واحات السياحة والثروات الطبيعية والبيئية النادرة في محافظة المهرة، ومينائها الأهم (نشطون) بإطلالته على البحر العربي، وفي محافظة الأرخبيل (سقطرى) المتاخمة للمحيط الهندي.
هذا الاتساع فرض على أدوات المستعمر البريطاني وبإيحاء من دوائره السياسية الماكرة والصانعة لدويلات الخليج، توسيع مهمة نهب الثروات، وهذا يتطلب ضرورة السيطرة عسكرياً على الجزر والموانئ والمطارات وكافة المقومات الاقتصادية، في مسار واضح يعيد إنتاج التاريخ الاستعماري القديم بأدوات حديثة، ولم يعد ذلك خافياً على أحد، بعد وصول القوات البريطانية إلى مطار الغيضة أواخر يوليو الماضي، الذي تسيطر عليه القوات السعودية.
إنما تقوم به أدوات الاستعمار البريطاني في هذه الأيام لمسار واضح على محاولة عودة الاستعمار القديم، فيما الرياض وأبو ظبي وغيرهما من عواصم دول تحالف الحرب والحصار ليست سوى قفازات لبريطانيا، مهمتهما الجوهرية منافية جداً لشعار وحدة واستقرار اليمن وحماية أراضيه، بل تمضي في سياق ترجمة خطة حديثة رسمها الجاسوس الدبلوماسي البريطاني نويل بريهوني الواردة في كتابه “اليمن المقسم” الصادر في لندن عام 2011م، رغم أن الكاتب في ظاهره وكثير من طروحاته كان مع الوحدة اليمنية، دلالة تفصح بياناً عن الصلة الموصولة بالمفارقات الواردة آنفاً.

قد يعجبك ايضا