قصة نهر طالوت في تفسير المولى العلامة السيد / بدرالدين بن امير الدين الحوثي

 

بدرالدين بن امير الدين الحوثي
وبالتزامن مع كلام السيد القائد حول القات وتشبيه من يمضغونه كمن شرب من نهر طالوت وسقط في اختبار القائد :
(249) {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} فقد اضطروا ـ لغلبة الحجة عليهم ـ إلى إظهار الطاعة والانقياد وفيهم الأخيار الأبرار الصادقون، فالجنود قد جمعت من يصلح ومن لا يصلح فكان من الحكمة التمييز بين الخبيث والطيّب والاكتفاء بالطّيّب وإن قل.{قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} فاختبرهم بهذا النهر من الماء؛ لأن من صبر على العطش صبر على القتال، ودل امتناعه من الشرب على صدق نيته في الجهاد، ومن شرب دل ذلك على فساده، وقلة صبره، وضعف نيته، وكانت الغرفة الواحدة مستثناة؛ لأنها لا تنافي صدق النية ورحمة للعطشان ليخف عنه العطش؛ حتى يصير إلى مكان آخر يرخص لهم فيه في الشرب.{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وهنا تميز الخبيث من الطيب، ورجع الجمهور الفاسد عن المسيرة، ولعل الحكمة في ذلك أنهم لو خرجوا معه ما كانوا إلا مفسدين، كما قال تعالى في المنافقين: ]لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلاَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ..[ الآية [التوبة:47].{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} يعنون أنهم قليل؛ لأنهم قد خلفوا الجماهير الذين شربوا من النهر أكثر من غرفة للواحد، وقد تبين: أن المتقي المطيع مؤمن، وأن العاصي ظالم من الآيتين هذه والأولى ]فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[ فكل فريق يختص باسمه فلا الظالم مؤمن، ولا المؤمن ظالم، كما فهم من سياق الآيتين.{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} أهل الأمل القصير في الحياة فهم لذلك راغبون في الشهادة، راغبون في الجهاد في سبيل الله، ليختموا به البقية الباقية من أعمارهم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} قالوه تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم، والإذن بوقوع الشيء يلزم معه إزالة الصارف والمانع من وقوعه. ولذلك فقوة جالوت تنهار مع الإذن من الله بأن يكون هو المغلوب وحزب الله هم الغالبون، فقولهم: {بِإِذْنِ اللَّهِ} تنبيه على أن النصر من عند الله وأنه إن ينصرهم فلا غالب لهم.{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}ولذلك إذا صبرنا عند لقاء العدو كان الله معنا، وإذا كان معنا كانت القوة معنا.. الغالبة على كل قوة وكنا نحن الغالبين، وبناءً على ذلك بطل قولهم: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} ولم يبق إلا العزم والثبات والصبر ليفوزوا بالنصر وعظيم الأجر. (250) {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فاستعملوا السلاح الذي هو سلاح المؤمن قبل استعمال السيوف ونحوها، ومعنى {بَرَزُوا لِجَالُوتَ} ظهروا له ولم يبق بينه وبينهم حاجز من جبل أو غيره ولا بعد مسافة بل أشرفوا على الشروع في القتال، فاستعانوا بالله، وطلبوه أن يفرغ عليهم {صَبْرًا} أي يصب عليهم صبراً، ولعل اختيار الصبّ ليشمل الأعضاء فتتحمل ما يلحقها من الضرب ونحوه.{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} عند اللقاء؛ لأن المقاتل قوي ما لم تزل قدماه عند مصاولة العدو فيسقط، وتلك الحال مظنة زلل الأقدام لما يكون من المراوغة القوية واختلاف اتجاه حركات الأقدام ووجود ما يتعثر فيه في الأرض مع اشتغال الذهن والبصر بالعدوّ، ومن تثبيت الأقدام الإعانة على البقاء في المعركة وترك الفرار؛ كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: ((تِد في الأرض قدمك)) يعني أثبت مكانك حتى كأن قدميك موتدتان على الأرض.{وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الذين هم أعداؤك وأعداء دينك، وفي هذا الدعاء دلالة على أن مهمتهم نصر دين الله وكبت أعداء الله حيث قالوا: {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ولم يقولوا مكانها وانصرنا على أعدائنا. (251) {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} الذي بيده قلوب العباد؛ يقوي منها ما يشاء، ويرعب ما يشاء، وبيده ملكوت كل شيء؛ فأعز جنده، وهزم عدوه، وجعله المغلوب المقهور {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} وتحقق النصر من الله؛ بقتل قائد الجيش وأميره وتمت النعمة لطالوت ومن آمن معه بما صبروا {وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} أي آتى داود (عليه السلام)، وكأنها كانت جائزة له على إقدامه وقتله لجالوت لعظم فعل ذلك وعموم نفعه؛ كما روي في فضل قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمرو بن عبد ودّ.{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} كتعليمه صناعة الدروع الجيدة الجامعة بين القوة وحسن تقدير السرد؛ فلا تثقل أكثر مما يلزم ولا يخرقها السلاح.{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} فالجهاد مصلحة ضرورية، والمسئولية في سفك الدماء على أعداء الله الذين لو خلوا وشأنهم لفسدت الأرض؛ لأنهم يدعون إلى الباطل، ويصدون عن سبيل الله، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويحرقون الكتب الدينية، ويسعون في الأرض فساداً؛ والله لا يحب المفسدين، وفي قصة الملأ من بني إسرائيل ونبيهم وطالوت ونخبته فوائد عسكرية مع كونها دينية، فقد أفادت أن كبار الناس وأشرافهم قد يطلبون الجهاد باسم الدين وغرضهم الدنيا والحصول على المناصب.
ومنها: أنه لا يوثق بهم للجهاد لأن من همه ونيته الدنيا يكون حريصاً على الحياة، فليس مظنة الثبات للموت وإن كانوا أبطالاً فإن حبهم للحياة يمنعهم من المغامرة في مظانِّ الهلاك؛ ولأن حرصهم على المناصب يؤدي إلى إفساد نياتهم إذا لم تحصل لهم المناصب.
ومنها: أن الجدال على المناصب علامة حب الدنيا الذي ليس من شأن من يقاتل في سبيل الله.
ومنها: انتخاب القائد القوي الكامل في كفاءته ودينه الذي لا إشكال في أنه أصلح للقيادة ليقتنع به أهل النفوس البريئة من فساد النية ويصدقوا في الكون معه، وطاعته ونصحه، ولأن القائد الزاهد في الحياة الدنيا أشجع وأثبت في المهالك وأصبر على الشدائد وأحسن رعاية لأصحابه لصدق نيته وسلامته من الأنانية والتكبر وحبه لهم ورحمته لهم وسلامته من الاستبداد والغش للأصحاب، ولأن القائد الديني أقوى رغبة في الجهاد والشهادة فهو أشد إقداماً وثباتاً.
ومنها: انتخاب القائد الذكي المدبر السليم من الجبن المعارض لحسن الرأي والسليم من البخل الذي هو من أعظم أسباب الذلة وتفرق الأصحاب مع معارضته لحسن الرأي في الإنفاق. ومنها: انتخاب الأعلم في علم الدين ليكون أعلم بالحق في تصرفاته وتصرفات أصحابه وأثبت على الحق لعلمه أنه على حق. ومنها: انتخاب الأقوى في بدنه ليتحمل شدائد القتال وما يكون معه من الحر والبرد والمطر والجوع والعطش فيكون ثابت الصحة بعيداً من المرض وليحمل ما حُمِّلَ من التكاليف بجدارة وقدرة كاملة ويستطيع الثبات على القتال والاستمرار عليه ومصابرة العدو، ويتحمل التعب والسهر وأذى الأصحاب مع العناء في الجهاد.
ومنها: أن يكون واسع الصدر حليماً يصبر على الأذى، ويتحمل السب والاتهامات التي تعرض من جهلة الأصحاب، ولا يضيق صدره عنهم أو يضيع عليه الرأي لأجل ضيقه منهم أو يصير في شقاق بينه وبينهم، وليستطيع حسن البيان لهم حتى يردهم عن الغلط برفق ولين، وتكون معاملته لهم كلها ترغيب وسبب لحبهم إياه وثباتهم معه.
ومنها: أن يكون له شجاعة طبيعية ورباطة جأش ليستطيع القيادة في المعارك واقتحام المهالك؛ لأنه إذا كان ضعيف القلب والأعصاب لا يستطيع ذلك وإن كان دينياً زاهداً في الحياة، فهذا ما حضر من صفات القائد المشار إليها بقوله تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ[ فأما من جهة الجند فقد ظهر منه اختياره ما تيسر من الصالحين الصادقين إذا اجتمع له جند منهم. وقد قيل: أن أصحاب طالوت الذين ثبتوا معه كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، وهذا النصاب نص عليه الإمام زيد بن علي في (المجموع) وذلك لأنه إذا لم يكن له من يثق به ويعتمد عليه من الصالحين؛ كان على خطر من أصحابٍ مظنةِ الهزيمة أو الخلاف له أو الاختلاف، ولم يكونوا مظنة الصبر الذي هو سبب النصر، ولا اللجوء إلى الله في طلب الصبر، ولم يكن له يد عليهم في أمرهم بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل يحتاج إلى مداراتهم في دين الله، فليسوا مظنة النصر بالطريقة التي انتصر بها أصحاب طالوت بل يكون معهم بين الرجاء واليأس إن صدقت نياتهم. ومن تدبير الجند: دفع أهل النيات الفاسدة عن صحبته، وردهم عن الخروج معه بحيلة يحتال لها القائد الذكي، بحيث لا يؤدي ردهم بالعنف إلى أن يصيروا مع العدوّ، أو ينظموا منظّمة ضده أو غير ذلك من فسادهم كالإرجاف على من بعدهم والدعايات المضللة. ومن تدبير الجند: إعداد ما يحتاج إليه من الطعام والشراب وغيره بواسطة عمال لهذا العمل، فإن كانت نفقاتهم من عنده تولى تحصيل عمال لتحصيل ما يحتاجونه وعمال لأخذه وإيصاله إليهم وعمال أمناء لتوزيعه عليهم وإن كانت نفقاتهم منهم فإعداد من يشترون منهم إذا نفد ما بأيديهم من الزاد.. لكن هذا الأخير وإن لم تدل الآيات عليه من حيث انتخاب الجند فقد دلت عليه من حيث اصطفاء القائد فهي من جملة صفاته التي تقدمت وهي حسن الرأي.{وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} فمن فضله أن يجعل أولياءه يدفعون أعداءه عن الفساد في الأرض، ومن فضله أوجب الجهاد، ودل عباده على أسباب النصر، وأمرهم بإعداد القوة، وأمر بالكون مع الصادقين، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وأمر بتكوين أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف:11-10] فدل على أن الجهاد خير للذين آمنوا، وأن من الدعوة إلى الخير الدعوة إلى الجهاد.

قد يعجبك ايضا