هو أحد النماذج الثقافية المتميزة بالعطاء والإبداع في المشهد الثقافي اليمني..
أتحدث عن الأديب والمبدع المفكر عبدالرحمن مراد.. هذا الإنسان المثقف التنويري، والأديب والمبدع والناقد والمفكر الذي أنفق الكثير من سنوات عمره في محراب الثقافة والإبداع والفكر، منتجاً ومتأملاً، وباحثاً، ومتلقياً، ومتابعاً، وناشطاً بحبر القلب، وضوء الحب.. كتبتُ هذه السطور المتواضعة والبسيطة ودوَّنت هذه الخواطر العابرة والعفوية والمفعمة بالود والمودة، تعبيراً عن مشاعري العميقة والصادقة والجياشة تجاه هذا الإنسان الخلوق، والأنموذج الرائع للمثقف الحقيقي المهموم بشؤون الثقافة والفكر، وإيقاعات وتحولات مجتمعه وعصره.. هذا مع اعتذاري الشديد عن سوء تعبيري، وهشاشة تعابيري، وتدني أسلوبي وفقري المدقع من امتلاك ناصية الكتابة الجيدة، وجهلي الكبير بفنونها ومتونها، وضآلة يراعي أمام سموقها وعنفوانها..
هذه السطور حاولت عبرها إنصاف هذا المبدع الرائع بقدر المستطاع، ولكن يبدو أنها فشلت في أداء مهامها على أكمل وجه:يكتبها/ محمد القعود
**2**
بقلمه الجريء، وبرؤاه الثاقبة وبضوء يقينه المبهر خاض غمار الكثير من القضايا: السياسية والاجتماعية والفكرية والنقدية والثقافية، فكان هو الفارس الكرّار والمبارز الجبار والمقدام الجسور والباسل المغوار، والمحاور القدير والمجادل الخبير والمناور الخطير والمنتصر بيقينه والغالب بحجّته وحججه والمُفحم بدلائله وأدلته والمُسكت بمنطقه وبلاغته وفصاحته وأطروحاته واستنتاجاته وبراهينه.
يلجُّ كل غمار، ويخوض كل مجال، ويصول في كل مضمار، فيكون هو الحائز قصب السبق وفرس الرهان وإليه تتجه الأنظار وتؤول الأمور وترسم أصابعه علامة الفوز والنصر والانتصار، عن جدارة واقتدار.
يُقدم على ما يراه الصواب، ويخوض ما برز له.. كربيعٍ يُداهم أرضاً جرداء، فيشعل في حقولها الشاحبة وأشجارها اليابسة بهاء الحياة وخضرة الأمل وبهجة العطاء وروعة الإطلالة وندى الصباح وعطر الفرح.
يخوض كل معاركه الفكرية، ويدير كل مواجهاته وأطروحاته الثقافية، بأسلحة الفكر واستراتيجيات المنطق وذخيرة العقل الفاعلة وتراكمات التجارب والقراءات والاطلاع وخلاصات المعايشة والتأملات ومواقف ومخرجات الأيام والأزمنة والوقائع والحياة، وخبرته، ودربته، وبراعته.
بلغةٍ تفيض بالجمال والبهاء والوضوح والإشراقة والفخامة والجزالة والفصاحة، وبأفكارٍ وبمعانٍ تتلالأ منها الألمعية والحشمة وسمو ونبل القصد، وتتجلّى فيها حشمة الطرح والتناول وشرف الخصومة ومودة الاختلاف.
لُغةٌ تمنح النقاش والجدل فسحة ومساحة وانطلاقا، وتمنح التحاور آفاقاً، وقواسم مشتركة للتلاقي والتوافق الإيجابي.
لغة فيها رغبة التلاقي، ولهفة لعناق الحقيقة وتشوق لنهل نشوة المعرفة، وطموح صادق للتلاقي والإفادة والاستفادة والوصول إلى محطة وضفة ومرحلة وانطلاقة جديدة ترحب بالجميع وبأشواقهم المحتدمة للأجمل، بإيناع المواسم المنتظرة والوفيرة العطاء.
لُغةٌ لا يجيدها إلا فرسان الأصالة والجدارة والتواضع والتسامح والمحبة والإخاء والدفء الإنساني والنفوس والضمائر السامية، المتعالية عن سفاسف الأمور وصغائر الأشياء وقتامة النقائص والضغائن.
لُغةٌ ناطقة بالضوء، وبلاغة الحقائق وجوهر الاستنارة والتنوير.. لغة معبِّرة عن نفوس وعقول عامرة باليقين وحب المعرفة وممتلئة بالجمال والصفاء والنقاء والحب والمودة والمشترك الإنساني النبيل المقدّس لجوهر الإنسان وإرادته وطموحاته وحقّه في الحياة المنشودة (الحرية، الكرامة، الفكر، التفكير، اختياراته الحرة، قيمه ومبادئه النبيلة).
وهُوَ دوماً في طرح أفكاره وآرائه وفي تناولاته وأطروحاته وانتقاداته وجدالاته مِنْ ذَوِي الشَّجَاعَةِ، وَالْبَسَالَةِ، وَالْبَأْسِ، وَالإِقْدَامِ، وَالْجُرْأَةِ، وَالصَّرَامَةِ، وَرِبَاطَة الجَأْش، لا ترهبه سلطة، ولا ترعبه أنظمة طغاة وكهنوت وقمع.
دوما هو في مواجهاته وانتقاداته الهادفة قوي الشَّكِيمَة، شَدِيد الْحُمَيَّا، أَبِي الضَّيْمِ، لا يَعْنُو لِقَهْر، وَلا يَصْبِرُ عَلَى خَسْفٍ، وَلا يُقِيمُ عَلَى مَذَلَّة، وَلا يَلِينُ جَنْبه لترويعٍ، وَلا يتدثر مَلابِسَ الْهَوَان، ولا يرتدي أقنعة المصالح ولا يتخيّر طرق ووسائل السلامة، ولا يتراجع أمام ما يراه، إنه الحق والصواب والعدل، مهما كانت عواقب ذلك وخيمة، وَلا يَقِفُ مَوْقِف المهادن والمراوغ والمخاتل، مهما كانت المغريات أو التلويحات بسوء النتائج والعواقب.
وهو دوماً في مواقفه ومواجهاته المختلفة، أَنِف، وَأَنُوف، أَبِيّ، حَمِيّ، أَشَمُّ، شَرِيف الطَّبْعِ، عَالِي الْهِمَّةِ، عَزِيز النَّفْسِ، ناصع الجبين، عفيف اللسان، لا يضمر الضغينة ولا الدنيئة ولا التحقير والإساءة أو الشماتة والتعريض بشوائب ومعائب ونقائص خصومه ومن تستهدفهم مضامين انتقاداته ورشقات كلماته وتعابيره اللمّاحة أو الوضّاحة , البعيدة عن التجريح والتقديح والتقريع والتصغير للآخر .
وهو عن كل الدنايا والصغائر، في حياته وكتاباته وتناولاته النقدية يأَنِفَ، وَيسْتَنْكَفَ، ويتعالى في أجوائه محلقاً بشموخٍ وسموٍ عن الانغماس في ذلك أو مجاراته، أو السباحة في مستنقعات الأيدولوجياً الآسنة وما تضمره من أوبئة وجوائح وعفونة مضرّة بالعقول والبطون والمجتمعات والبيئة والإنسانية جمعاء.
توعزهُ عِزَّة النَّفْس، وتمنعه أخلاقه وقيمه ومُثلهُ وثقافته العميقة وصفاء ينابيعه ومشاربه عن الغمز واللمز والقدح والتعريض بكل نقيصة ومثلبة تلوح له في الآخر، بعيداً وخارجاً عن موطن وموضع الجدل والنقاش.
وهو دوما لا يضع نفسه وسطوره في مواضع تحفّها الريبة والتنازل والمساومة، لأَنَّهُ يَرْبَأ بِنَفْسِهِ عَنْ مُوَاطِن الذُّلّ والْهَوَان والامْتِهَان والارتهان.
وَيَتَعَالَى، وَيَتَأَبَّه، وَيَتَنَزَّهُ عن كل مواضع (مواطن) الابْتِذَال والانصياع.
**3**
في كتاباته ومواقفه النقدية في مجال الشعر والإبداع تجده من النقاد والأدباء من ذوي الاطلاع والخبرة والمعرفة الشاملة بمجالهم.. ومن المثقفين الموسوعيين.. فهو في مجال الشعر والنقد من المبدعين والمبرزين إنتاجا وإبداعا، وقراءة ومتابعة ونقدا.. وعلى اطلاعٍ بالشعر ومدارسه ومراحله , قديما وحديثا، وعلى بينة دقيقة وشاملة بأطواره وفنونه وجمالياته وإنجازاته الفنية في مختلف عصوره وأزمنته وحُقبه.
كما استطاع هضم وتمثل النقد قديمه وحديثه ومدارسه ومذاهبه المختلفة واتجاهاته الحديثة والمعاصرة وما حملته من رؤى ونظريات واجتهادات مختلفة المنابع والمشارب.
وتمثلت إسهاماته وعطاءاته النقدية في دراساته وأبحاثه الكثيرة والمتعددة وإصداراته المائزة.
ثراء وتنوع وتفرّد وتجدد وتدفق وخصب مبهر في الإنتاج والعطاء الثقافي والإبداعي والفكري العميق والمختلف عن السائد والشائع.
وصاحب وحادي مسيرة غنية وحافلة بالعطاء والتجارب والمواقف والإنجاز.. مسيرة وسيرة ورحلة ثقافية متألقة ومضيئة ومشرقة ومتدفقة بالمبهر والمدهش والأصيل والغدق، قادها ووأصلها وسار بها نحو المبتغى ومراقي الذُّرى، رغم قتامة الظروف والضنك والقساوة والتجاهل والعوز ومتطلبات الحياة والمعيشة الضرورية، ورغم المعوقات الطارئة والمقصودة ومحبطات البيئة الاجتماعية.. مسيرة قادها وضخّ فيها نبض وجدانه وروحه الوثابة بصلابة وإصرار وعزم وقوة وتحدٍّ ومغامرة مشبوبة بعنفوان الآتي.
لم يتناقض أو يتراجع أو يتنكر أو يتنصل لمواقفه وأطروحاته وآرائه، أو يتنازل عنها من أجل مصلحة عابرة أو غلبة موهومة أو غرورٍ غاربٍ.. أو.. أو.. إلخ..
لم يخسر إنسانيته، وقيمه ومنطلقاته التي تشرّبها وتنفسها والتحم بها، أو يتنازل عنها، ولم يراهن على السراب والبريق العابر، ولم ينجرّ للعبث ولم تجذبه واجهات الصراعات والاختلافات البلهاء والرخيصة والصراعات الوافدة وادعاءات النظريات البائسة والمتدثرة تحت مسميات شتى، بعضها أحالت الإبداع والفكر إلى طلاسم ومعادلات رياضية، وفجوات يسكنها عواء الفراغ والبلاهة، وبعضها كانت مهادا ومحاضن وجسور عبور للرداءة والانحطاط…
ولم يلتحق بمواكب الإسفاف والهتاف الممجوج والسطحية والتهريج وترويج الزيف والتفاهات وتسويق مختلف الترهات والشعارات والدجل والخرافات وهرطقات كُلّ مَنْ هبّ ودبّ.
ولم يستغل قدراته ومواهبه وتسخيرها لجلب المنافع والمكاسب والمناصب..
ولأنه يتكئ على أصالة وأرومة إبداعه وفكره بكل ثقة، تجنّب النزوع إلى الاستعراض والحذلقة وزخرف القول الخاوي واجترار بضائع الآخرين البائرة والغابرة، ولم ينزلق بفكره وكتاباته نحو الدرك الأسفل من الإسفاف والسقوط في مهاوي ومزالق مظلمة وغريبة الطرح واللغة والمضمون والمقصد والهدف المشبوه، كما آل إليه ووقع فيه الكثير من باعة الضمير ومروجي الأوهام.. و”كتبة” و”منظري” “الهلس” والهلوسة العابرة للقارات والحارات…!!
**4**
في مجالات الفكر والأدب والإبداع والثقافة له إسهاماته الجادة وحضوره اللافت.
قد تختلف معه في بعض كتاباته وقناعاته، ولكنك تحترم مبرراته وتجلي مقاصده وتتفهم كوامن مقاصده ومراميه وما تحمله سطوره من دلائل إشارات وإحالات لها مالها من مغازٍ وأغوار عميقة وصور أخرى..
تحترم فيه – وأنت المختلف معه- إنه ينظر إليك وإلى ما تطرح كإنسان له اتجاهه ومنزعه الخاص والمستقل ورأيه المعبِّر عنه وقناعاته الراسخة.. وتجد أنه يتعامل معك بكل ودٍّ، وعلى لسانه تلك المقولة الشهيرة:” قد نختلف في الرأي ولكني على استعداد..”.. ويؤكد لك بكل حميمية ” هذا رأيك يا صديقي العزيز.. وتلك قناعاتك.. ولا تثريب عليك إن اختلفت معي وعاكستني في مواقفي وآرائي واتجاهي “.
تتأمّل هذا النموذج/ الضوء الماثل أمامك، وتنثال أمامك محامده وشمائله النبيلة، وتستعرض وتعدد مناقبه وفضائله، وإبداعاته وإنتاجاته الفكرية، فتشعر بتقديرٍ وإعزاز تجاهه.. وفي نفس اللحظة تستحضر العديد من الصور والنماذج التي تتماوج وتتمايل عجبا وكبرا، وتميس زهوا بنفسها، وتصول وتجول في المشهد الثقافي، وتصدّعك بضجيجها وزعيقها ونهيقها ونقيقها، وادعاءاتها التافهة، وهراءاتها وفراغها وجدبها وطنينها وجعجعتها الفارغة..
وحين تحاول المقارنة بينها وبين هذا النموذج/الضوء، تجد ذلك البون الشاسع بين الثرى والثريا..
تجد الفرق بين النهر والنبع وبين “المجاري” والمستنقعات..!!
تجد الفرق الكبير بين الورد وبين الأشواك وبين الغصون المثمرة وبين أعواد الحطب اليابسة..!!
تجد الفرق العميق بين الإنسان السوي المبدع وبين الدَّعي المزيف، الثرثار المهذار المصاب بلوثة مركبة بفقر في الموهبة وتضخم في الأنا والتخلف والمصاب بالكساح الفكري والمعرفي، وفقر في العطاء والأخلاق…!!
منذ اشتعل بمواجيد الكتابة وتضرّج بضوء الكلمة، ومنذ نبض وثمل قلبه بعشق المعرفة وهام وتولّه بغرام الثقافة والإبداع، ومنذ تراءت له آفاق وفضاءات الفكر، وهو في محراب حبه وعشقه وهواه ذلك العاشق المخلص والوفي، والشغوف حدّ الوله بعشق الثقافة والإبداع والمعرفة والفكر، وإنفاق سنوات العمر وأجملها في رحابها.. مبدعاً ومفكراً ومثقفاً ومطلعاً وناقداً وقارئاً ومتلقياً، ومحترقاً ومضيئاً بهموم الثقافة والفكر وقضاياها، وأعاصيرها وعواصفها، وفصولها ومواسمها…!!
ولا تجد له أي ميولٍ أو اهتمام أو انشغالٍ سوى الثقافة والإبداع وقضايا الفكر لا غير، فهو هنا العاشق المغرم والصبّ المستهام والشغوف الولوع، والكلف المشتاق، الذي عَشِقَهَا، وَتَعَشَّقَهَا، وَهَامَ وَأُغْرِمَ بِهَا، ووَلِعَ بِهَا، وَأَخَذَتْ بشغاف وجوانح قَلْبِهِ، وصارت له نبضاً وغراماً وهياماً وحياة ووجوداً.
**5**
إن هذا الناقد الحصيف والمبدع الأديب والكاتب المبرز يتابع ويواكب كل إنتاج إبداعي وفكري وثقافي جديد، ويرصد ما يمور في واقعه الاجتماعي والسياسي والثقافي بحصافة الباحث والدارس وبشغف القارئ العاشق لكل إضافة إبداعية وفكرية مائزة وجديدة.. ويتأمّل ويتغوّر ويبحث في كل منتج إبداعي وفكري – رغم ندرة ذلك- ببصيرة نافذة وبعقلية مستنيرة وبذائقة عالية وحساسة وواعية، تعرف كيف تميّز وتتذوق وتفرق بين الغث وبين السمين وبين الأصيل وبين المزيف وبين الإبداع الجديد الفاتن وبين ما يسوّق من ثرثرات وهلوسات وشطحات تلفظه أفواه وعقول وأعماق ممتلئة بالفراغ والخواء والأوهام والهشاشة والادعاء الباعث على السخرية.
ويتمثل ذلك من خلال متابعاته النقدية وكتاباته وتناولاته الرصينة والحصيفة، التي تحمل في مضانها ومضامينها حصيلة هامة وعميقة وثرية من المعارف والرؤى والجماليات، التي اكتشفها والتقطها وصاغها وقدمها هذا الناقد الخبير الدارس والباحث المخضرم والقارئ العميق المتسلح بموهبته وثقافته وتجاربه المستمدة من رحلته الطويلة وحضوره الفاعل والمشرق في قلب المشهد الثقافي، وبصورة حيوية مثمرة.
وهو في كتاباته وتناولاته النقدية والفكرية ومقارباته للعديد من القضايا النقدية ذات الطابع الإشكالي والقضايا الثقافية والإبداعية المختلفة، لا تجد فيما يطرح أو يتناول أي تحيز أو تحامل أو تمترس وتخندق في بؤرة معينة أو اتجاه محدد وواحد وتمسك بوجهة نظر مسبقة، ومن زاوية محددة سلفاً.. بل على العكس والنقيض من ذلك تجده صاحب عقلية منفتحة ومستنيرة.. فهو الناقد والكاتب والباحث الحصيف والرصين، المؤمن بالجدل المثمر وبتعدد الرؤى والابتعاد عن الأحكام المطلقة، والقناعات المسبقة ووجهات النظر المعتمة والقاصرة والقصيرة النظر.!!.
**6**
كانت التجارة بدء اشتباكه مع الحياة وأول ممارسة له في مشواره العملي، في بدء غرّة الصبا وفجر الشباب، – كما هي عادة الكثير من أبناء اليمن، في العمل وشقّ طريق مستقبلهم-.. انطلق برفقة بعض أقرانه في حقل التجارة والسير في عوالمها الشائكة والمتعددة.. وحثّ الخطى بجدٍ للوصول إلى مراتب النجاح والفلاح والأرباح، فكان المأمول لمن كان همّه ذلك..
أما صاحبنا، فكان الفشل هو رفيقه والإخفاق هو الختام، وكانت الخسارة المرّة المريرة هي المآل الذي انتهى إليه، والثمرة التي قطفها، والخيبة التي صدمته، لأنه انشغل بالثقافة وهمومها، وبالإبداع وتجلياته، وبالفكر وعوالمه.. ومن أدركته حرفة الأدب, أدركته حرفته الفقر..!!
لقد خلت الخزائن من صُرر المال، وحُزم أوراق البنكنوت، والأرصدة من أرقامها المهيبة، وتلاشى رنين من كانت له مكانة وحظوة وهيبة.. وحلت محل ذلك أكوام ورفوف وأدراج الكتب ودفاتر وأوراق الثقافة والأدب وأفكار وتطلعات مجنّحة بإنجاز ما يدور في البال من الحلم الثقافي والإبداعي..
ضاع (الضمار) ورأس المال، وتراكمت الديوان والمطالب، وتلاشت الأرصدة، لأنه انغمس في عالم الثقافة وانشغل بها وولّى قبلته تجاهها غير مبالٍ بالتجارة وأرقامها وتقلباتها ومغرياتها..
واختار طريق الثقافة، والالتحاق بها وغضّ الطرف عن سواها.. فهي الربح الأكبر والمغنم الأوفر والدائم.
**7**
كانت “حجّة” المدينة والمحافظة، هي الحاضن والرحم الأول والفضاء الأول لتحليقه في سماء الثقافة.. وهي المنطلق لإبداعاته واهتماماته الثقافية، والقمّة الشاهقة والشجرة العملاقة الباسقة، والشرفات المفتوحة على الآفاق، والتي منها أطل على الوطن وخارجه ومنها وفيها وإليها ارتحل وجال، وقدَّم أوراق اعتماده/إبداعه، وعمّق حضوره، فتألق واشتهر، وصار لاسمه حضوره ووقعه المميز، ولإسهامه ولعطائه الثقافي والإبداعي بصماته الخاصة والمغايرة والمختلفة عن الشائع والسائد.
في بدء تمعنه وإمعانه وتأمله لكل ما حوله صدمه المحيط وأحزنه الواقع, وتجسد له الإحباط واللّا جدوى في المشهد القائم والمثقل بالقتامة والتعاسة.. والذبول والفرااااااااااااااااااااااغ.
.. لم يرتد على أعقابه، ولم يسقط في غياهب وأجباب الهزيمة والانكسار واللا مبالاة.. والانزواء والانطواء حول ذاته وعزلته..
لقد تجرأ، وخرج عن صمت وخنوع القطيع، وبغبغائية التهريج.
أشعل حرائق الثقافة.. وأشعل ضوء الفكر..
وفكّر بصوتٍ عالٍ:”.. لا بد مما ليس منه بد..”.
وأعلنها صراحة وعالية -صادقة: لا بد من تحريك السواكن والرواكد ودفع انهار وينابيع الثقافة لتجري في مساراتها ومصبّاتها الحقيقية..
قالها بوضوحٍ: لا لكل اللاءات والخطوط الحمر الموضوعة ولا لكُلِّ الحواجز وأسوار المنع والحجب والخوف والتردد..
لا.. وكلا.. لكل العقول والعقليّات الصلدة والصدئة والموصدة الموبوءة بالخواء والفراغ والغبار..!
أعلن تمرّده على “الرتابة” والكسل والجلوس على مقاعد العاطلين عن الأمل، والقناعة بالموجود والحاصل.. وصمّم على الخروج مِنْ دوائر الرداءة وعلى محيطٍ يتوجّس من كلِّ جديد ومتغيّر, ويضفي هالة شبه مقدسة على كل ما هو عتيق ومكرور وموروث جامدٍ ابهتته الشوائب والحقائق والأزمنة.!
ورفض أن يتقولب ويكتفي بتقليد الآخرين، في البقاء كمتلقين ومتابعين بلهاء لكل مشاهد معايشة توالي فصول ومواسم الخواء والذبول والجدب والرداءة والتصفيق الحار للّا شيء…!!
استفزّهُ ذلك السكون وأثاره ذلك الجمود وأحزنه أن تبقى مدينته/ محافظته غارقة في صمتها وجدبها الثقافي، تجترّ إرثاً فقد صلاحيته للحياة والواقع، وتستمرئ الإيقاع الرتيب، وتدمن غيبوبة الغياب الطويل, والتواري خلف اللامبالاة.
وتواجد وتواصل مع/في/ الداخل والخارج، وصار لاسمه رنينه المميز, وحضوره العالي والفاعل في ساحات ومنابر وملتقيات الثقافة.
ولم تكن دروبه وطرقه مفروشة بالورود والرياحين، ولم تكن أطروحاته ورؤاه وأنشطته وأفكاره وإنتاجاته الفكرية والثقافية والإبداعية محل قبول وترحاب لدى تلك العقول المعبّأة بالرماد والخواء والتخلف والتوجس والريبة من كل جديد ومخالف ومغاير للسائد والمألوف..!
أدرك وعرف وأيقن – منذ البداية- أن مهمة المثقف في مجتمعات العالم الثالث هي مهمة شبه انتحارية ولها تكاليفها الباهظة، وأن الدور الملقى على عاتق المثقف الحقيقي هو دور كبير جدا وعظيم وهام جدا جدا.. خاصة المثقف الجاد، صاحب المشروع الثقافي.. ذلك المثقف التنويري، الحرّ، غير المرتهن لأي سلطةٍ وقيودها، وإملاءاتها، أو المأسور بتوجهات ومنطلقات ورهبة جماعات وكيانات أخرى، تتوازى في هيلمانها مع أي سلطة قائمة.
وطوال مسيرته الثقافية والأدبية لم يتغافل أو يتجاهل أن من مهام المثقف التنويري الحقيقي في مجتمعات العالم الثالث ومجتمعه هو مواجهة ركام ثقافة التخلف وتبديده ومحوه وكشف مساوئه وأضرار نتائجه المتواصلة وانعكاساته الكارثية الموغلة العمق في شتى مناحي وجوانب حياة المجتمعات. وأن ركام الثقافة، إياه، هو مصدر المشكلات والقضايا المزمنة لكل صور وبؤر التخلف المتعددة، في أي مجتمع إنساني.
وأن من أولويات ذلك هو مواجهة ونقد ثقافة التخلف، وإظهار وكشف جذورها ومنطلقاتها ومكوناتها ومساربها وأنساقها، وتجلياتها في صورها وملامحها المتعددة، وتشريح جوانبها السلبية، ومخاطرها في تأجيج الصراعات وديمومة واتساع بؤر التخلف والتيه والبلاهة.. وبقائها كحواجز وكعوائق أمام مسيرة التحديث والتطور الحضاري والحداثة والحرية والديمقراطية، وأمام تطلعات وطموحات الإنسان والمجتمع في مستقبل مشرق ومزدهر ومتطور, يواكب العصر ومنجزاته العلمية والحضارية المتلاحقة في شتى المجالات والميادين.
**8**
من يعرفه أو تعرّف عليه الآن, أو بعد الآن,أو قبل سنوات طويلة, أو تابع ونقّب وراجع سيرته ومحطات حياته ومشواره في دروب الحياة, سيجد ويلقى أمامه إنسانا عظيما, يتمتع بالكثير والجم الغفير من الشمائل والصفات والمزايا الحميدة والرائعة والنادرة, في زمان يكتظ بالكائنات الممسوخة والفقيرة من كل مزيّة بهية وجليلة تنتمي للإنسانية..
أحسن الله خَلْقه وخُلقه.. ووهبه من الشمائل والمزايا الحميدة ما لا يحصى، وأنعم عليه بروحٍ طيبة سمحة وبقلب نقيٍ وبنفسٍ أمّارةٍ بالحب والجمال والخير والسمو الأخلاقي والإنساني، وبعقلٍ راجحٍ وبصيرة ثاقبةٍ ونافذة..
عرفه الجميع بالإنسان المثقف المستنير الجامع للكثير من الصفات والمحامد النبيلة.. كَرِيم الْخَلِيقَة، نَبِيل النَّفْسِ، حُرّ الْخِلال، مَحْمُود الشَّمَائِل، أَرْيَحِيّ الطِّبَاع، كَريم الْمَخْبَر، جَزْل الْمُرُوءة، أصيل الأرومة، شريف المنبت والمنزع، سَهْل الأَخْلاق، سَلِس الطِّبَاع، لَيِّن الْعَرِيكَةِ ، دَمِث الطَّبْع, لَيِّن الْجَانِبِ، رَقِيق الْحَاشِيَةِ، خَافِض الْجَنَاحِ، رَضِيّ الأَخْلاق، سَهْل الْجَانِبِ، ، مُنْسَجِم الأَخْلاق، عطر السيرة والمعشر.
كما عرفه الجميع ,دوما ودائما, وفي مختلف الظروف والمواقف, بأنه:
ثابت الجنان، رَحْب الصَّدْر, رَحْب الْبَال، وَقُور النَّفْسِ، رَاجِح العقل والْحِلْم… وأنه صاحب حِلْم، وَوَقَار، وَسَكِينَة، وَرَجَاحَة، وَرَزَانَة، وَرَصَانَة، وَدَعَة ، وَحَصَافَة، وَتُوءدَة.
ووجده كُلُّ من حادثه وناقشه، وجالسه في “مجبر” و”مخبر” وملتقى ومحفل, انَّهُ صَاف الذِّهْنِ والنفس، سَرِيع الفَهْمِ، سَرِيع الفِطْنَةِ، سَرِيع الإِدْرَاكِ، صَادِق الحَدْسِ، ، يَقِظ الفُؤَادِ، متوقد الذَّكَاء.
و”َ إِنَّهُ لَيَفْهَم مِنْ الإِيمَاءِ قَبْلَ اللَّفْظِ، وَمِنْ النَّظَرِ قَبْلَ الإِيمَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكْتَفِي بِالإِشَارَةِ، وَتَكْفِيه اللَّمْحَة الدَّالَّة، وَيَسْتَغْنِي بِالرَّمْزِ عَنْ الْعِبَارَةِ”.
لا يغريه أي مطمع بتغيير رَأْيه، وَلا يُسْتَنْزَلُ عَنْ حِلْمِهِ ووَقَارِهِ، و رَزَانَتِهِ أي متعتعٍ وطائشٍ وجاهل وثرثار ودعيٍ ، وَلا يَسْتَفِزُّهُ نَزَق، وَلا يَسْتَخِفُّهُ غَضَب، وَلا يَتَسَفَّهُ رَأْيَهُ مُتَسَفِّه.
فهُوَ بثقته بنفسه وفكره ورؤاه , وأخلاقه الحميدة، ذلك الجبل الشامخ والجلمود الصلب، والطَّوْدُ الثابت الذي لا تُقَلْقِلُهُ الْعَوَاصِف، وَالْبَحْر لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاء, والنجم الشاهق الذي لاتطاوله قامة ولا هامة.
ويجد المرء أنه -من خلال الحديث والجدل والنقاش- هو ذلك الأديب الأَرِيب، واللَبِيب، الكَيِّس، والفطِن، وَمِنْ ذَوِي الأَلْبَابِ، وَذَوِي الأَحْلامِ، وَأُولِي الأَبْصار، وَمِنْ ذَوِي العُقُولِ الثَّاقِبَةِ والراجحة، ومِنْ أكْمَل الرِّجَال عَقْلاً، وَمِنْ أَسَدِّهِمْ رَأْياً، وأكيسهم.. وممن لحضورهم أنس الروح والمكان وعطر المجالس والنفوس، وممن يفيضون ويتدفقون بما يفيد السامع ويزوّد العابر, والسائل, بقناديل ومشاعل ومقابس المعرفة, المبددة لعتمة وظلمة الدروب والعقول والمجاهل..
****
ولأن الناس معادن، كما يقال, فهذا النموذج/ الضوء, من تلك المعادن النفيسة التي لا تصدأ ولا تتغيّر بتغيّر الظروف والمناخات والمراحل المتقلبة.. وهو من أغلاها وأندرها، وهو من فصيلة ونوعية الماس النادر..
هو إنسانٌ, جوهره نفيس، ونقي , وطيّب, لا يتغيّر, ولا يتحوّل, ولا يتبدّل, ولا يتنكّر، ولا يتكبّر, ولا يزورّ عمن حوله..
**9**
هو -كما هو- نهرُ عطاءٍ, وينبوعُ محبةٍ ووفاء, وربيع إنسانية ونبل وقيم ومبادئ..
إنْ هبّتْ عليه نسائم الخيرِ, وأمطرتْ شآبيب وغيوم العطاء, أو عشعشت بين أنامله طيور السعد, وأناختْ أمامه قوافل الحظوظ السعيدة, أزاح أولوياته ومتطلباته, جانباً, وجعل الأصدقاء والأقرباء ,هم أولى من نفسه ..هم أولاً, وهو في المرتبة الأخيرة..
تأخذه نشوة الكرم والبذل والسخاء, المجبول والمعتاد عليها.. وتغمره, وتجبره نوايا نفسه الأمّارة بالكرم والإيثار والمروة, وذهب راضياً, مختاراً، صادقاً، متشوّقاً، متلهّفاً، عازماً, باذلاً, يتعسّس أحوال رفقائه وأقربائه.. حاملاً إليهم جُوده, ومحبته، وميسرة بهيجة, لها مالها، من آثارٍ سريعة الفعال، في تفريج كربةٍ، وإزاحة غمٍّ, وقضاء حاجةٍ, وإقالة عثرةٍ, وردم مسبّغةٍ..!!
ودون موعد مسبقٍ، يأتيك طلْق المحيّا، سمحاً، باسماً.. يناديك هامساً، ويطرق باب صمتك وعزلتك وحيرتك.. يبثّ إليك برسالة ممتلئة سطورها ومثقلة بما لا تتوقعه من خيرٍ وذخيرة تفيض بالندى والعطاء..
تجده أمامك هاشاً, باشاً, متهلل الأسارير.. وعلى استحياء يقول لك وملامحه طافحة ببشائر تتهادى إليك..
****
وإنْ ذهبتَ للاطمئنان, أو في زيارة عابرة, التقيته صدفة, تجده بنظرة خبيرة يقرأ أعماقك, ويتفرّس ملامحك.. فإن وجدك سعيداً ومبسوط الحال، ارتاح لذلك وحمد الله كثيراً, وتمنى لك دوام ذلك الحال..
وإنْ وجدك في أحوال عسيرة، وأوضاع مريرة, وفي حالة من همٍّ وغمٍّ وضنكٍ, نادمك وحادثك، وأزال مما عُلق بك, وأخرجك مما أنت فيه، بل وعمل وسعى واجتهد، دون مللٍ أو كللٍ، من أجل مساعدتك على تجاوزك وخروجك مما ألمّ وحاق بك.. قاصدا مساندتك فقط، لا يبتغي من وراء ذلك لا حمداً وشكراً ولا صيتاً ولا صنيعة معروفٍ..!!
وبأيمانٍ مغلظةٍ منه، حباك وقاسمك كل ما معه، وعمل ما بوسعه من أجلك وإسعادك.
ولو لم يكن معه سوى رغيفٍ واحدٍ يسدُّ به رمقه, في يومٍ ذي مسبغةٍ، لقاسمك إياه.. بل لو كانت لقمة واحدة، لا سواها لوضعها في فمك، وآثرك وفضلك على نفسه.
ولن تطيب نفسه إلا عندما يراك تتقبل منه ذلك، وهذه هي عادة الكرام وأصحاب النفوس النبيلة والعظيمة..
**10**
هو من ضمن قلّةٍ قليلةٍ جداً ممن يحملون فصيلة وفضيلة الوفاء ..وهو من قلةٍ قليلةٍ من الأصدقاء المعدودين، بعدد أصابع اليد ممن لهم حضورهم الدائم الاخضرار في القلب, وممن لهم ولصداقتهم أعمق جذور المحبة و المودة والإعزاز, الموغلة في الوجدان والعمر، وممن لهم مكانتهم العالية والرفيعة ..
تجده دوماً وأبداً من الإخوان والأصدقاء والرفقاء الأصفياء, الذين لا غنى عنهم أبداً.. فهو كالدواء الذي لا غنى عنه , وليس كالداء الذي لاحاجة إليه..!!
تجده دوماً وفي مختلف الظروف- بحلوها ومرّها – أمامك, وبجوارك، ومعك.. شجرة وارفة المحبّة والظلال, تسدل عليك ظلالها ونسائمها, وتحجب عنك لظى وهجير الحياة والظروف, والجبل الذي تسند ظهرك إليه, وتجده بجوارك يرد عنك غوائل الظروف والأيام , وأنيابها ومخالبها القاسية .. وتجده مثل تلك اليد التي تمتد لغريق، لتنشله من يمٍّ وبحرٍ زخّارٍ، مهتاجٍ, يجذبه نحو قاعٍ سحيقٍ لا قرار له..
وتجده بسمة أمل, وإشراقة نورٍ, ودفقة نبعٍ عذبة، إن أحاط بك اليأس والقنوط, وأرْخت حولك العتمة أستارها وخمارها, أو حاصرك الظمأ بسرابه..
تجده أمامك ومعك, الصديق الصدوق والرفيق الرائع والوطن الذي يغمرك بروعة الإنسانية وبهجة مشاعرها النبيلة.