يبدو أن ثقافة “حيَّا بهم.. حيَّا بهم” التي شغلت بال الإخوان وحيز الساحات في عموم المحافظات ذات صباح قد أصبحت علامة مسجلة على ملامح المرحلة، فالخطاب المقاوم والممانع أصبح خطاباً مستهدفاً ومستهجناً من قوى كانت تدعي المقاومة والممانعة وترفض الذوبان في هوية الآخر، وقد ساهم الإعلام المركز على إشاعة هذه الثقافة إلى درجة تداخل هذه الثقافة الذائبة مع الموقف، وتهاونها بالرموز وقيمتها كما لمسنا ونلمس، فالفراغ لا ينتج عنه إلا فراغ مثله، لذلك فمتواليات الإساءة إلى الرموز الدينية لن تقف عن حدود الفيلم الأمريكي أو الرسوم الكاريكاتورية للمجلة الفرنسية بل ستتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد منه، فالقضية أضحت قضية امتلاء حضاري وفراغ يجب عن الامتلاء وهنا تكمن الإشكالية الحضارية.
فالذين يشعرون بالنقص ويتكاملون في الظاهرة الحضارية المظهرية والشكلية ولا يقدِّرون القيمة الجوهرية الحقيقية للأبعاد الثقافية التي يتفاعلون بها ومعها ولا يملكون الحس النقدي ولا الحس النقدي المقارن بالضرورة يرتكبون أخطاءً تاريخية لن تضيف نكوصاً حضارياً جديداً في المسار العربي بل ستذهب إلى أعمق من ذلك وهو تفتيت النسيج العام للمجتمعات العربية من خلال تدمير البنية الثقافية وطمسها تمهيداً لإعادة صياغتها وفق رؤية تعادي المتجانس وتتصالح مع المختلف وتأتلف معه، وهو أمر بدأنا نشهد بداياته الأولى في فتاوى ومواقف الجماعات التي تبرر لأمريكا بأكثر مما بررت أمريكا لنفسها وحضرت كل الدلائل والنصوص المقدسة التي تغيب في التفاعل والموقف من الجماعات المتجانسة.
فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- ليس في مقام الرسول محمد – عليه وعلى آله الصلاة والسلام-، وحين تنال منه جماعة متجانسة دينياً وثقافياً تقوم الدنيا ولا تقعد وتكاد ترى الشرر ينضح من الجباه والألسنة وحين ينال الآخر المختلف من الرسول – عليه الصلاة والسلام- تصبح القضية قضية تشريعات وحريات شخصية، والأغرب أن الذين غضبوا من تشخيص الأنبياء في الدراما المتلفزة لم يغضبوا من تشخيص الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم- بل وأفتوا بجواز تشخيص الصحابة حين تصدرت المشهد قطر والسعودية في مسلسل عمر الذي بثته بعض القنوات في السنين الخوالي وكانوا يحرمون ذلك التشخيص ويتصدى الأزهر لها بكل قوته وتقف وراءه كل القوى الدينية المتجانسة ويبدو أننا في زمن ثقافة «حيَّا بهم.. حيَّا بهم» سنشهد الكثير والكثير، فتدمير البنية الثقافية قد يخلَّ بالقانون الطبيعي والنظام العام ويعمل على تطويع النفوس حتى يمكنها أن تتقبل ما يحدث وتسقط قداسة الرموز الدينية التي تراكمت ثقافتها فيهم عبر الأزمنة.
فالربيع العربي كما نقرأ نتائجه في ملامح الواقع وتجلياته لم يحمل مشروعاً حضارياً ولكنه حمل مشروعاً تطبيعياً مع الآخر المختلف، وصراعياً مع البيني المؤتلف والمتجانس، وبحيث تبدلت ثقافة الممانعة والمقاطعة التي شهدناها في الماضي إلى ثقافة تبرير للآخر المختلف، إذ أباحوا بل أجازوا ثقافة التسامح معه وحرموها وجرّموها في الإطار البيني المتضاد مذهباً والمختلف رؤية ومنهجاً، فإذا كانت الحرية هي المبرر الموضوعي للتبرير للآخر فلماذا لا تكون هي المبرر الموضوعي لقبول البيني المتضاد رؤية ومذهباً والمتجانس ثقافياً!!!؟
فالقضية التي نشهدها في الواقع تسير وفق منهجية واعية وتعمل وفق آلية محددة حتى تكرار بث المشاهد المؤلمة في ذكرى المآسي والحروب الذي يأتي بفعل الضرورة للحالة الثورية والحالة السياسية هو في المقابل فعل مضاعف يعمل على تفكيك المنظومة العامة ويخل بنظامها العام ويساعد بشكل أو بآخر في خلق المناخات العامة للبدائل.
وشواهد مثل تلك المنهجية واضح بيِّن في المسار التاريخي للقاعدة التي دلَّ خطابها في بداية التكوين والنشأة على الممانعة والرفض للتواجد الأمريكي في الخليج وجزيرة العرب وكان هدفها المعلن إخراجهم من المياه الخليجية ومن جزيرة العرب ومنهجيتهم استهداف تواجدهم وضرب مصالحهم الحيوية ثم تبدّل ذلك التوجه ورأيناه يستهدف مصالح المسلمين وجنودهم وحتى الأبرياء منهم كطلاب الكليات العسكرية والمواطن الآمن في الأماكن العامة والأسواق، وقد دلّ هذا التبدل في المنظومة الفكرية للقاعدة على قوة خفية تعمل على التفكيك وتعمل على اختراق الجماعات والكيانات وبما يكفل تنفيذ أجندات يعيها الآخر ولا تدركها الجماعات والكيانات التي تتفاعل مع اللحظة كمقدمات لا تدرك نتائجها التي يدركها الآخر وهيأ لها الأسباب للوصول اليها، فالماسونية العالمية أصبحت أكثر تغلغلاً في النسيج العام للجماعات والكيانات ذات التوجه الإسلامي السني وقد ظهرت بعض سماتها في مناخ الربيع العربي من خلال خلق وصناعة رموز عالمية من بين صفوف الشباب، ويمكن مراجعة تلك المصفوفة من تونس إلى مصر إلى اليمن إلى ليبيا، فالظاهرة لها مؤشراتها الدالة عليها.
وتبعاً لذلك فالقول بالتحديث والتطوير للفكر والموقف السياسي الذي يظنه البعض قولاً باطلاً ولا قيمة موضوعية له ذلك أن ثقافة «حيَّا بهم.. حيَّا بهم» التي كرّسها الإخوان في اليمن لم تحمل متغيراً ولا مشروعاً حضارياً ولكنها حملت مشروعاً إستلابياً وتطبيعياً «فالمارينز» الذي أغضبهم تواجده في المياه الإقليمية وحملوا من أجله الأحزمة الناسفة والعبوات المتفجرة أصبح بين ظهرانيهم ولا يثير غضبهم بل يحسنون الظن به، فهو جاء لمساعدة اليمن للخروج من أزمتها، ونياتهم طيبة تجاه أمن اليمن واستقرارها ووحدتها – حسب تصريحات بعضهم-، فهذا التبدل في الموقف ليس تحديثاً ولا تطويراً كما يراه من يحاول التبرير، بل هو نكوص دال على تفكيك الهويات وتجزئتها لتمرير مشاريع بديلة، ذلك أن المنظومة الإسلامية الكاملة مهما تعددت طرقها ومذاهبها وفرقها وتأويلاتها للنص وتعددت مواقفها ورؤيتها إلا أنّ غايتها وهدفها الخروج من الذلة إلى العزة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفراغ إلى الامتلاء، ومن الدونية إلى الندية، والمؤشرات الموضوعية لثقافة «حيَّا بهم. حيَّا بهم» غير مطمئنة وتبعد كل البعد عن الغايات الإسلامية في منظومتها المتكاملة، وها نحن في اليمن نلمس النتائج لتلك الثقافة في شوارع حضرموت وشواطئ وموانئ المهرة وفي المياه الإقليمية والجزر، وفي قاعدة العند , ومضيق باب المندب ,وها هي أفواج السياح من إسرائيل تهبط آمنة في سقطرى، فماذا سيقول الإخوان بعد أن تمخض الجبل فولد احتلالا جديدا وتطبيعا ؟؟.