مزارعو تهامة يستبشرون بالخير بعد السنوات العجاف.. ثلاثة عقود من زراعة الفساد والربا والمنظمات حصدنا فيها الفقر والجوع

 

الحكومات السابقة دمرت الزراعة وحولت اليمن من مصدِّر للقمح إلى مستورد بـ5 مليارات دولار سنوياً
الخير واجي وثورة 21 سبتمبر حملت معها رياح مواسم الخير في تهامة
مراقيم مزارعي تهامة لا تزال محرزة لدى بنك التسليف على خلفية قروض فاقت بفوائدها الربوية كل خيال
الكريمي يرث التسليف في مهمة تجريد مزارعي تهامة ملكية أراضيهم بقروض المنظومات الشمسية
الربا آفة قتلت المزارعين في تهامة

منذ فجر التاريخ اعتمد الإنسان اليمني على الزراعة في مأكله ومشربه وحياته المعيشية، بالإضافة فإن الزراعة في اليمن – ركيزة الحياة – لعبت دورا حاسما في الأحداث والتحولات السياسية، وحتى ثورة 26 سبتمبر 1962 م، كان الناس في اليمن يأكلون من مزارعهم، ويوفرون احتياجاتهم من الحليب والسمن وغيره من مواشيهم، فقد اعتمد الإنسان اليمني أساسا في وجوده على الزراعة والخير.
كان اليمن من أهم الاقتصادات الزراعية في العالم قبل الثورة، إلى أن دفعها الفساد والسياسات التدميرية التي اتخذتها حكومات ما بعد 26 سبتمبر إلى الانهيار في القطاع الزراعي، بل وإلى حافة انعدام الأمن الغذائي.
وتتمتع تهامة الخير في اليمن بتربة من أجود أنواع التربة وأكثرها خصوبة في العالم، وتمد اليمنيين بالغذاء والمنتجات الزراعية والمواد الخام اللازمة للعديد من الصناعات الزراعية المتمثلة بـ(القطن والتبغ والخضروات والأصواف والألبان والزيوت والجلود) بالإضافة إلى الألياف والأخشاب، كما أن القطاع الزراعي يشكل سوقاً هاماً للسلع غير الزراعية.
وقد بلغت المساحة الصالحة للزراعة في الجمهورية اليمنية (1539006) هكتارات، وزرع منها حوالي (1241387) هكتارا، أي بنسبة (81 %)، وعمل في الزراعة أكثر من 07 % من سكان اليمن.
وتتفاوت الخصائص المناخية الناتجة عن اختلاف نسب معدلات الأمطار ودرجات الحرارة والرطوبة واختلاف الظروف الطبوغرافية، عوامل ساعدت على اختلاف الأقاليم النباتية وساهم في تنوع الإنتاج.. الزراعة المطرية قدرت نسبتها بـ(51 %) من إجمالي المساحة المزروعة ناهيك عن مصادر المياه الجوفية ومجموعة الخزانات والسدود والغيول والينابيع المائية التي وصلت المساحة المروية منها إلى (49 %) من إجمالي المساحة المزروعة.
واحتل الإنتاج النباتي المرتبة الأولى من حيث المساهمة في إجمالي الإنتاج الزراعي، حيث وصل في المتوسط إلى (76.5 %)، وبصورة عامة انقسم الإنتاج النباتي إلى (محاصيل الحبوب في المركز الأول من إجمالي الإنتاج النباتي- يليها الخضروات، والفواكه ثم المحاصيل النقدية، فالأعلاف).
وأخذ الإنتاج الحيواني المرتبة الثانية بعد الإنتاج النباتي من حيث مساهمته في إجمالي الإنتاج الزراعي، حيث وصل في المتوسط إلى (23.5 %)، وساهم الإنتاج الحيواني بنسبة كبيرة في سد احتياجات السكان. حيث يتنوع هذا الإنتاج في تربية الأغنام والماعز والأبقار والجمال، إلى جانب الاهتمام بتربية الدواجن والنحل. وهو ما وفر للسكان قدراً مناسباً من اللحوم الحمراء والبيضاء والألبان والأجبان والبيض والعسل والصوف والجلود على سبيل المثال لا الحصر.
لكن اليمن وخلال العقود الثلاثة الأخيرة تحولت إلى أكبر مستوردي القمح والحبوب على سبيل المثال، فما الذي حدث حتى انهار القطاع الزراعي وتحولت اليمن من بلد يصدر الحبوب إلى بلد يستورد بما قيمته 5 مليارات دولار غذاء؟
تشارك “الثورة” في ثورة البحوث وتقصي الحقائق التي تقودها مؤسسة بنيان التنموية وأكاديميتها بالشراكة مع اللجنة الزراعية والسمكية العليا ووزارة الزراعة والري والسلطات في المحافظات والمديريات اليمنية، وينفذها 7000 متطوع ومتطوعة من طلائع الجيش التنموي من شباب كليات الزراعة في الجامعات اليمنية، وقد ولجت الثورة إلى ذاكرة المزارعين الذين يتذكرون أيام الخير في تهامة، واستمعت منهم حكايات من سنوات الخير، وما حصل بعدها من سنوات عجاف.

الثورة / يحيى محمد

طعام الجدود
يتحدث المزارع محمد عايش علي عقب – من مزارعي المراوعة عزلة الربصة/ 58 عاما – بالقول: قضيت معظمها في الزراعة.. تعرفت على الدنيا، وكان أبي حينها يزرع حبوب الذرة الحمراء والبيضاء.. وقتها كان العشرة من القوى العاملة إذا نزلوا في 10 معاود، ما تأخذ منهم ساعة حصاد والخير بركة؛ المعاد يحصد وقتها أكثر من 10 أقداح.. الآن إذا معك معاد يعطيك قدحين تحتاج تحصده في يومين بنفس عدد العمال الذين كانوا يحصدون المعاود الـ 10 في ساعة.
فتحت عينيّ، فوجدت أبي وعمومي وأهل القرية يقولون: “الزراعة هي أساس الوجود، وطعام الجدود”.. الوالد – رحمه الله – توفي وعمره 120 عاما، وكان يحكي لنا أنهم كانوا يحمِّلون الجمال من طعام الدجرة والزعر (الذرة الرفيعة) والدخن ويخرطوه أطنان (يخرط: يفرغ حمولة الجمل) على الساحل، وتحضر السفن تصدره إلى فرنسا، وكانوا يستوردون من قيمته مادة القاز، وعود الكبريت، والباقي تورد ريالات فرنسي إلى خزائن بيت مال المسلمين.
اليوم، أتساءل مع نفسي: أين ذهبت تلك الرجالات؟ أهم كانوا أرجل وأشطر منا؟ لأجيب عليها: هم كانوا أميُّون لا يعرفون قراءة، ولا كتابة، ومع ذلك كانوا يصدِّرون المنتجات اليمنية إلى أنحاء العالم بالأطنان، ونحن تعلمنا وفهمنا الحياة، لكن كل شيء نستورده من الخارج حتى المعوز الذي أنت لابسه يأتيك من الصين، وكان يصنع من قطن بلادنا، وبأيد يمنية.
إذن، نحن لم نتعلم، ولم ننفتح على الحضارات الأخرى، كما ندعي، وإنما أغلقت علينا أبواب التحضر، لماذا؟ لأننا الآن، الحبة الزعقة تأتينا من الصين، وما نخجل ولا نستحي من أنفسنا؟ بل صار البعض يتباهى أنه يشتري حاجته أمريكي الصنع، أو بريطاني المنشأ، وبكل بجاحة يقول لك أنه اشترى هذه الآلة أو تلك الحلوى من صنع بريطاني، والأعظم نكالا عندما يقول لك: “هذا شغل يهودي ما يغش، ما هو شغل عربي ركش”.. ما هذا اليأس الذي نعيشه؟ أليست هذه حماقة لم تكن في آبائنا ولا في أجدادنا !!.
كنت دوما أسمع أبي يردد: “أنت تأكل من زهبك، أنت رجال حر، أنت تأكل من عطاء زهب غيرك أنت عبد مملوك بلقمة عيشك”.. عند الآباء والأجداد، موضوع لقمة العيش لم يكن يحتمل أنصاف الحلول أبدا، فإما أن تأكل مما تزرع، وتلبس مما تصنع، وإلاَّ فأنت بلا وجود، بلا شخصية.. حتى عجائز زمان كن يقلن: “اللي في زهبه زرع نباه، واللي زهبه صلب ما نباه”.. لماذا؟ لأنه عالة بطالة، ما تشي به، تتخذه تمثال تصور جنبه.
قروض ربوية
يتحدث المزارع عايش عن مشاريع البنك الزراعي بألم لما تسببت به القروض الربوية من كوارث، يقول: كان يعطيك 20 ألف ريال، كأن تقول اليوم مليون.. العشرين تخرجها من البنك بمعاملات ورشوات و”بوك واتيه واطلع وانزل” بعشرة آلاف ريال.. يصرفوا لك العشرين، قد أخذوا منها عشرة، وعاد عمولتها فوقها.. والعشرة لم تعد كافية لإنجاز المشروع الذي اقترضتها من أجله.. أنا أعرف أن أخوالي وأعمامي كانت معهم حفر في “الهيجه” أول ما يدركون مندوب تحصيل أقساط الديون حضر يهربون إليها.
لماذا؟ “مفيش معهم”، والنسبة من سنة إلى سنة تزيد وتتضاعف من عشرين إلى ثلاثين، وكلما تأخر الوقت وليس لديهم سداد زادت إلى درجة أن البعض بلغ دينه مبلغاً كبيراً؛ إذا باع زهبه، وزهب أهل القرية التي يسكنها ما يفي به.. يا عزيزي، أنت تعرف البنك الدولي وأهدافه.. التسليف كان يمشي بنفس الأهداف كأنه امتداد طبيعي له.. دمر الزراعة.
لا ننكر أن بعض الناس استفادوا، لكنهم قليل يعدُّون بالأصابع، وهم أولئك الذين كانت قروضهم حراثات في بداية مشاريع الإقراض، والأمور “عادها لما دخلت ملاوي العشى والرشى، أما الذين اشتروا ماعز وضآن، فقد ماتت، لأن في قيمتها ربا، والربا حرب، والحرب مع الله خسارة أكيدة.
منظمات أجنبية
وماذا عن المنظمات؟ عملت أنا شخصياً مع منظمة “ترنجل” التي مارست نشاطها في عام 2011م، وكانت البداية مع بذور محسنة من الكدن، وأنا كنت أمين مخزن للمنظمة في قريتي، كنت أوزع على المزارعين (حكم) بذور محسنة، على أساس أن المزارعين يزرعون البذور، ولما تنتج في مزارعهم يرجعون لي (الحكم) من أجل أعيد توزيعها في العام القادم على غيرهم، وهم ينتخبون لهم بذور محسنة من التي زرعوها ويستمرون.. لكن العملية لم تنجح.. لماذا؟ لأن البذور التي انتخبوها لأنفسهم لم تبذر، ونحن وزعنا ما رد إلينا على مزارعين آخرين لم تنجب شيئاً.. يعني، لم يحصد المزارعون شيئا، وسار تعبهم سنة “بلاش”، ولم تعد معهم بذور لموسم العام القادم.
ما الإجراء الذي اتخذتموه حيال الكارثة؟ عن نفسي آمنت حينها أن سلالة البذور اليمنية غنية وفريدة، والجريمة أننا تركناها، وجرينا وراء تلك التي غرتنا بها المنظمات لسنوات معدودة وهي تنجب أضعاف ما كانت تنجبه بذورنا، فركنَّا إليها وتركنا بذورنا.. لم نكن نعلم أن ما يجري خداع مبرمج ومخطط له بمجرد أن يفقد المتعاملون معها أصول بذورهم، تتحول تلك البذور إلى عجور، وليس كل العجور تأكله الماعز.. يعني بعضهم بذر الهواء وجنى الريح.. الآن، المزارعون الذين لم يُدخلوا هذه البذور مزارعهم، واحتفظوا بموروث آبائهم وأجدادهم، هم من ينقذون الزراعة في تهامة من التدهور الكلي.
الحمد لله، تنبه المزارعون لخطر المنظمات بفضل ما تلقوه من التوعية والإرشاد من قبل مجاميع فرسان التنمية التي قامت مؤسسة بنيان التنموية بتدريبهم وتأهيلهم على مهارات تحفيز الناس نحو العودة إلى تراث وأصالة آبائنا وأجدادنا في العمليات الزراعية وفي جميع مناحي ومجالات الحياة.
والشباب علَّموا الناس كيف يعتمدون على إمكاناتهم الموجودة وإن كانت بسيطة؟ وكيف ينسقون أدوارهم، وتتكاتف جهودهم من أجل تغيير الواقع المتردي بواقع يؤثر الاعتماد على النفس ورفض الاستكانة والذل.. ولكي نستفيد أكثر فإنني أنصح هؤلاء الفتية أن يعودوا إلى الآباء الكبار في السن فيأخذوا عنهم الخبرة ويعمموا الفائدة.
الأمل معقود على الثورة الزراعية
العاقل محمد درويش محمد صغير 70 عاما – المراوعة: آباؤنا وأجدادنا زرعوا وأكلوا وصدَّروا إلى السعودية أفريقيا، وما فض كان معهم مدافن في الأرض يدفن فيها فائض، كان المزارع الواحد يحصد من أرضه مئات الأقداح، كانت هناك بركة يهبها الله لعباده، والناس كانت راضية بما قسم لها من الرزق.
ما كان يحدث من زراعة وتخزين وتصدير يتم بتعاون الناس مع بعضهم، لم تك لدينا مسميات مؤسسية ولا جمعيات، ولا نعرف من معين سوى الله.. كان الناس وقت الموسم يعقلون مجموعة من الفاهمين على جمع خيرات المنطقة والقيام بتعبئتها في أكياس، وتحملها الجمال إلى الشاطئ وتشحن على السفن ويتم الإبحار بها إلى أفريقيا أو السعودية، وفي حال ما كان الخير “مقل”، يتم تصدير الفائض إلى السعودية على ظهور الجمال.
كانت تهامة تزرع ذرة بكميات هائلة، وما يأكل الناس سوى الذرة بصبغ من حليب وسمن وعسل من إنتاج تهامة.. الذي ما يزرع معه ثروة حيوانية وإلا مناحل عسل أو صياد في البحر، لم يكن هناك بطالة مثل اليوم.. في الأفراح كنا نعمل حلاوة المشبك والغبيراء، والجعالة أعواد شراب، وكله خامه متوفر ومحلي.. السعودية كانت في ذاك الحين تأكل من خيرات تهامة.
ما أسباب تراجع الزراعة؟ أسباب تراجع الزراعة في تهامة مرجعها واحد، وهو بدء الركون على الخارج، عندما جاء البر.. قال الناس يشتوا بر.. وتوقف من وقتها اهتمامهم بالزراعة.. وكلما زاد الركون على الخارجي قل الزرع.. الناس تركوا التوكل على الله وارتضوا بما يأتيهم من الخارج من مساعدات وهبات في البداية.. ثم الرخص والوفرة.. أهملت الزراعة، ورفع الله القطر والبركة، وألبسنا لباس الجوع والبطالة.
كيف كانت نظرة الناس لمن يملك أرضاً وما يزرعها، وينتظر من الناس العطاء؟ كانت فضيحة إذا الواحد ما زرع أرضه، والعيب الأسود يلحق به، كيف تملك أرضاً وما تأكل من خيرها.. بل ويسمى من لا يزرع أرضه بالبخيل (كسول)، لماذا لا يزرع ويأكل ويتصدق، ويصدِّر؟ ولم يكن الناس يعطونه شيئاً أبدا.. كان يسير يستقرض من عامل الإمام الذي كان يعطيه من الذرة المدفونة من سنتين كعقاب له.. يقرضه قدح “كُده” بضم الكاف، بشرط أن يزرع أرضه في الموسم التالي ويردها “جديد”.
هذه كانت حكمة فيها “قرصة أذن” تضطر المزارع إلى ترك إهمال الأرض، ورمي الكسل؛ البخل، ويشمر عن ساعديه يزرع ويأكل من خير أرضه، وما يمد يده للاقتراض.. اليوم للأسف، أصبح من الطبيعي أن تمد يد الشحاتة، وتلاحظ والعياذ بالله من يلاحق المنظمات من شعب إلى شعب يستجديها تعطيها كيس بر وعلبة زيت.
حكم الإمام كان يعلم الناس العفة، ويقوي في النفوس عزائم الرجولة، لم تكن الصدقة أيام أبي وجدي وإلى عهد قريب تجوز على غير الأرامل والعجائز من الرجال أو المعاقين حركيا أو بصريا، أو المختل عقليا.. ليست الصدقة وحسب، حتى القرض لم يكن متاحا سوى لمزارع ترك أرضه على مرض أو أمر قاهر ألم به، ويقف معه الناس قرض حسن.. يرده جهد أو بذور. اليوم، لا حول ولا قوة إلا بالله، الشيخ والمدير من أوائل الواقفين والمزاحمين على صدقات الأجنبي.
من حين فتح البحر ودخلت وارداته دخلت علينا عادات وسلوك لم تكن على عهد آبائنا ولا أجدادنا، دخلت الأمراض في البشر والشجر والتربة، أمراض وآفات لم تكن موجودة، وتم استيرادها من الخارج مع ذلك المستورد من الطعام والكساء والدواء.. نريد أيام زمان تعود كي يعود إلى أرضنا الخير، وإلى أبداننا العافية، وفي أرزاقنا وأولادنا ونسائنا البركة والصلاح.
وما الذي تدركه بعد ثورة 21 سبتمبر؟ نحمد الله هناك بوادر أمل بدأت تشرق مع أنوار قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي – حفظه الله.. الأنوار التي تتجلى في توجيهاته بالعودة إلى الزراعة.. إلى الأرض.. إلى العزة والكرامة.
وفي هذا الحراك الذي تقوده اللجنة الزراعية والسمكية العليا ومؤسسة بنيان التنموية وأكاديميتها ووزارة الزراعة والري بالشراكة مع هيئة تطوير تهامة والسلطات المحلية في المحافظة والمديريات والقطاع الخاص عبر شباب المنطقة من فرسان التنمية، وأعضاء اللجان الزراعية، والباحثين، والجمعيات التعاونية، هو المعول عليه في تغيير حال المنطقة، واستعادة أماجد تهامة في الزراعة.
سنوات خير وأمان
المزارع سالمين أحمد بخيت (75) عاماً، مديرية المرواعة: أيام الإمام كانت أماناً، كان الناس مكتفين على “شون العجور” و”قصعة الطعام”.. نأكل الطعام، والدواب تأكل العجور والأمور “سبور”، لا يوجد دقيق ولا حلويات.. قحز ولبن وسمن وعسل ولحم ضآن وماعز ودجاج بلدي.. كنا مرتاحين في غاية الراحة، ومتقاربين من بعض؛ متعاونين ومتسامحين، كان الغرس على ربي؛ الوادي يجري، والضاحي والهيجة والدنيا نعمة.. ومن حين غزانا البحر، لم يعد المرء يكتفي بشيء، كثرت الأشياء التي صار الإنسان يحتاج إليها، وكلما زادت الحاجة من الخارج قلَّت الثمرة في الداخل.
جاء عهد الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي صحح المسار حين قال هيا نزرع! زرعنا، وعاد الخير، وعمت الفرحة، وعادت إلى الناس روح التعاون والتآخي وعاش الناس 3 سنوات خيرة، ثم عاد الدبور يخيّم على تهامة من جديد، دخلت البنوك الربوية تقرض المزارعين قروضاً بربا مركَّب، وفي ذلك حرب لله ولرسوله، وماذا يجني من يحارب الله؟ لا بد خسران.. أفلس بنك التسليف الزراعي، وذهبت “زهب” المزارعين، وهلك معهما الحرث والنسل، واستمر الحال في التدهور.
فأتاك الكريمي، وما أدراك ما الكريمي؟ غزا البلاد! أتلفنا مثل التسليف.. جاءنا وقال منظومات طاقة.. وداعا معاناة الديزل والمحروقات.. صدقناه واشتريناها بربح وربا معلوم، صحيح، لكن ما فيها خراج.. شربناها مقلب، لأنها ما تهب للمزارع سوى ساعة ساعتين بالكثير في اليوم، والآن نبحث لها عن مشتر حتى بربع القيمة، ونبيع من الأرض بما تبقى علينا من أجل نسدد ديوننا لهذا الكريمي، ومن قبله باع الناس أراضيهم لسداد بنك التسليف.. لم يكن هناك مجال لنعترض، لأن أقرب جهة مختصة ستقول لك: المسألة تمت بيعاً وشراء وكنت بخيارك.. يعني، ليس أمامنا غير الوفاء أو حبس وإهانة.. لذا قررنا نبيع ونسدد ونتخارج.
بركات الزرع
الحاج محمد محمد السالمي بني قيس، العمر 70 عاماً، تحدث عن الزراعة في أيام أبائه وأجداده إبان حكم الإمام يحيى حميد الدين.. رحمه الله – قائلا: كانت الدنيا نعمة في تلك الأيام، الأمطار تكاد تكون طوال العام، والخير عينك ما تشوف إلا النعم الجزيلة من بركة الزرع والضرع، أتذكر أيامها كنت يافعا في الخامسة عشرة من عمري، كان الوالد يملك من المعادات الزراعية على قدر الحال إلى أن أنعم الله عليه وعطاؤه لا يقاس بكم مع الإنسان وإنما بما يقدمه المرء من إيمان حقيقي به سبحانه وتعالى وبأنه هو الزارع والمكثر في الثمار.
كان الوالد – رحمه الله تعالى – يحصد في الموسم ما بين 15 – 20 كيس أبو عرقة، ما يساوي كيسين من القمح بالعبوة الحالية، أي ما يقرب من 1.5 – 2 طن من الذرة، ونصفها من الدخن، والثلث من ذلك دجرة وكشد، فضلا عن الحب العزيز والبسباس والخضروات والفواكه.. هذا بعد إخراج الزكاة والصدقة وأجرة من يعمل معه، بالإضافة إلى ما كنا نمتلك من الأثوار والبقر والماعز والضأن والنحل والدجاج.. هذا، وأبي كان مجرد مزارع بسيط.
الحمد لله، كنا حينها في نعيم، وكانت هناك سنوات قحط تحصل بين الفينة والأخرى، إلا أننا كنا نعرف أن ذلك القحط ما يأتي إلا بسبب معاص.. عندها كان يحضر إلينا مندوب من الإمام يحذر الناس في خطبة جمعة من معصية الله في أنفسهم، ويدعوهم إلى أن يحرصوا على القيام بما أمر الله، والانتهاء عنما نهى، وكان الناس يخرجون عقب الخطبة من المساجد منطلقين إلى مواشيهم فيحضرون ما سمن منها ويسيرون في الطرقات يستقون ويطلبون من الله الغفران والرحمة، وتحصل التوبة ويأتي عطاء ربك، وما رحمة ربك ببعيد عن المتقين.
حلق الدبور حين ترك الناس الحال والمال وانطلقوا يجرون بعد الجديد، اشتروا السيارات ودخلوا عالم التجارة المستوردة، جلبوا القمح والدقيق والسمن والزيت وكل هذه البضائع التي لا حصر لها من منتجات الأجنبي، وأصبح السوق في “اللوحة” يكاد يكون خالياً من أي منتج عدى تلك الخضروات التي بذور لا تزال مستوردة، وإلا شوية السمسم الذي في المعصرة في طرف السوق، يا ابني حتى النحل الذي كان يأكل من زهور الأشجار قد تحوّل إلى عالة بطالة على السكر والتمور.
والزراعة من بعد الحمدي – رحمه الله – بدأت تتدهور، أما من بعد دخول القمح والدقيق الاسترالي فحدث ولا تخزى.. البعض ترك أرضه بوراً وسافر يغترب السعودية ودول الخليج، وفي الحديدة وصنعاء وعدن، والبعض درس وتوظف وتأفف من العمل في الزراعة أو الرعي أو النحالة ودخلت أخلاقيات الحسد والكراهية والبغضاء والشحناء، وعمل الخير…إلخ.
هذه الأيام بحمد الله ومن فضله ثم جهود أنصار الله مع ثورة السيد، حفظه الله، الأمور بدأت تعود إلى ما كانت عليه في تلك الأيام من الزخم التعاوني.. الناس اليوم، كما ترى، في جايش الحراثة بالأثوار، وفي غرم شق الطريق.. وفي بناء الوحدة الصحية، وبالأمس كانوا في جايش كبير في بناء الحاجز المائي في قاع البوني.. وقبله في جايش القناة الترابية… وهكذا دواليك.
الحمد الله، فرسان التنمية يعملون ليلا ونهارا على تحفيز الناس في العودة إلى العادات والتقاليد حق الآباء والأجداد.. العادات الحسنة التي صنعت للناس اكتفاء ذاتياً كاملاً.. يا ابني لم نكن نطلب من أحد شيئا، ولم نكن نعرف أن فيه دولة إلا عندما تأتي تأخذ من الأغنياء الزكاة وتعيدها على الفقراء، وإلا إذا حدثت مشكلة بين اثنين، وعجز أهل القرية من أمين وأعيان على حالها يرفع بها إلى العامل في المديرية.

قد يعجبك ايضا