كل القراءات تشير إلى غلبة الاحتمال الأول ولا يمنع أن يكون قد تم تطعيمه بجزء يسير من الاحتمال الثاني ، بقصد أم بغير قصد ، فالأمر قد يخرج أحياناً عن السيطرة خاصة وأن الممسكين بخيوط اللعبة من الهشاشة بمكان لا يستطيعون فيه التحكم بمجريات الأمور ، ولا يملكون حتى رؤية لإدارة هذا الصراع البيني العبثي ، ويغلب عليه (أي الصراع) مجموعة من الأفعال وردود الأفعال الآنية وتصفية الحسابات السياسية في ما بينهما تحت مظلة (تحالف العدوان) .
القاسم المشترك لجميع هذه الاحتجاجات هو معاناة المواطنين التي بلغت من السوء درجة لا تطاق ، وكل طرف من طرفي الصراع في المحافظات الجنوبية (الشرعية والانتقالي) يجيّر هذه المعاناة لمصلحته ومحاولة النيل من الطرف الآخر لتحقيق مكاسب آنية ، ولا ضير من التخريب والفوضى لتحقيق ذلك . هذه الاحتجاجات التي وقودها الجماهير المطحونة في المحافظات الجنوبية هي إحدى أهم تجليات الصراع بين دولتي العدوان (السعودية والإمارات) على أرض الجنوب اليمني عبر أدواتهم ووكلائهم المعروفين لا أكثر ولا أقل .
تتركز المظاهرات في (جزر) منفصلة لا يربط بينها أي رابط أبرزها احتجاجات عدن والمكلا والى حد ما شبوة إلا أن شبوة حالتها واضحة جداً ومعلنة ولا تحتاج إلى تحليل .
وفي الوقت الذي يفرض فيه المجلس الانتقالي حالة الطوارئ في إشارة واضحة إلى عزمه على قمع تظاهرات عدن ، نجده يدعم مظاهرات شبوة التي تعمل على تسيرها قواعده ، ويحمل سلطة المحافظة (الإصلاحية) مسؤولية سلامة المواطنين ويطالب بحرية التعبير ! في شبوة أخرج الانتقالي جمهوره حاملين أعلامه الانفصالية ويرددون شعاراته ولا يوجد أدنى لبس .
احتجاجات عدن :
في عدن تقف حكومة (الفنادق) متسترة خلف الغضب الشعبي المشروع ولكن بكلمة حق أريد بها باطل ، وتحاول أن تستغل معاناة المواطنين من تردي الخدمات التي عجزت عن حلها مؤسساتها في عدن من قبل ، وتعجز فيها حالياً في مناطق الجنوب الأخرى ، ومن انهيار العملة الوطنية والتي تسببت فيها أيضاَ مؤسساتها المالية فهي من يطبع العملة ويغرق بها الأسواق تحقيقاً للأجندة السعودية في ضرب الاقتصاد الوطني وتجويع الشعب وتخريب اليمن وليس الانتقالي ، وان كان الانتقالي لا يتوانى عن ذلك ولكنه لا يملك.
ولا يعني ذلك أنه لا يوجد سخط شعبي كبير وتذمر على الانتقالي و(الشرعية) بين أوساط الجماهير ، والتي انفجر غضبها المتراكم عفوياً وما عدت قادرة على السكوت ، لذلك فهي (الشرعية) فقط أججت وركبت الموجة وتحاول بوقاحة أن توجه الاحتجاجات لصالحها . وفي عدن نقطة أخرى مهمة جداً يقفز عليها الكثير وتتمثل في الصراع المناطقي الخفي الذي يعرفه الجميع ، فالقطاعات الأوسع من سكان عدن من مواطني أبيّن وشبوة إلى حد ما ، تنفس ضمن هذه المظاهرات عن حقدها المحتقن ضد سلطة الانتقالي الذي يهيمن على مفاصل مؤسساته أبناء الضالع ويافع ، وتحاول استعادة امتيازاتها المفقودة وليس حباً في (الشرعية) ، والعكس صحيح وأبناء (المثلث) يدافعون عن مكتسباتهم الشخصية المحققة في عهد الانتقالي ويخافون من فقدها ويخشون عودة تسلط تلك الشريحة الفاسدة عليهم من جديد .
احتجاجات المكلا :
في ساحل حضرموت يتجلى العكس تماماً ، فالانتقالي عبر جمهوره هناك يعمل على زعزعة الوضع في المحافظة وإضعاف قبضة السلطة المحلية ممثلة بشخص المحافظ المحسوب على (الشرعية) ، والذي حاول الانتقالي محاولات كثيرة وباستخدام أحياناً وسائل ضغوط غير أخلاقية استقطابه إليه ولكنه لم ينجح ، ليس وعياً من المحافظ بدوره الوطني ولكن لأسباب أخرى ونتيجة لصراع قوى الاحتلال ، لذلك فالانتقالي يحاول حرقه وتحميله سبب كل الفشل المهول والتردي الفظيع في الخدمات واستشراء الفساد ..الخ ، وهو يتحمل ولا شك الجزء الأكبر من ذلك ولكنه في النهاية ليس سوى (دمية) لسلطة الاحتلال السعودي التي يتحاشون التعرض لها مباشرة (وهنا ترد الإمارات على السعودية ودورها المفترض أو على الأقل دور أدواتها في احتجاجات عدن) . وانخرط في احتجاجات المكلا قطاع كبير من الجماهير المطحونة نتيجة الأوضاع الرديئة السائدة بدون أي تدخل أو تسييس فهي ما فتئت تفتش عن أي مظهر تنفس فيه عن غضبها واحتقانها ، ما أقدام الجماهير الغاضبة على تمزيق وتحطيم شعارات ولافتات الدعاية السعودية بالمحافظة إلى وسيلة أخرى لتصفية الحسابات بين دولتي الصراع ، والا لماذا لم تتوجه الجماهير إلى مطار الريان حيث تواجد القاعدة الإماراتية وحيث تتمثل أحدى مشكلات حضرموت الكبرى ، وأعتقد حتى أن بعض الشعارات التي رددها بعض جمهور الاحتجاج ك [ (يا حوثي) سير سير .. كمّل مشوار التحرير ] فما هي سوى محاولة لاستفزاز السعودية لأنهم يدركون ما يمثله ذلك من خطر وجودي للاحتلال السعودي في حضرموت والجنوب عامة ، أما لاستعطاف السعودية واستدرار عطفها لتحسين الخدمات العامة ، أو مجرد رسالة خفية غير صادقة من الإمارات للسعودية .
الأهداف المقصودة وغير المقصودة للاحتجاجات
بالنسبة لأدوات العدوان : الجولة ليست أكثر من محاولة تصفية حسابات سياسية فقط لا غير.
بالنسبة لدولتي العدوان : فالسعودية هدفها الأبرز والذي تجسده الأحداث فعلياً على الواقع هو تخريب اليمن بحيث لا تقم له بعد ذلك قائمة ، وذلك بطرق وأساليب معروفة وليس هنا مجال لاستعراضها ، فكل تخريب أو تمزيق لليمن يصب في مصلحتها استراتيجياً ، وتكتيكياً فهذه مناسبة لإضعاف نفوذ شريكتها وإظهارها ضعيفة من دونها . أما الإمارات فهذه أيضاً فرصة أخرى لإغراق السعودية في المستنقع اليمني وتركها تتخبط وتغرق أكثر والأهم إبقاء عدن منطقة موبوءة بالصراعات وفي وضع مزر لا يسمح لها بممارسة أي نشاط تجاري على المدى القريب .
وطنياً :
تعكس هذه الاحتجاجات حجم الفشل الذريع لدول العدوان وإعادة إبراز جرائمه الكبرى العديدة والمختلفة ، المباشرة وغير المباشرة بحق الشعب اليمني .
إضعاف أدوات الاحتلال في الجنوب واليمن عموماً لبعضهما وتزايد الضغوط عليهما ، مما يزيد احتمالات انسلاخ أحدهما عن مشروع العدوان ولجوئه وتحالفه مع الطرف الوطني الأوحد والأقوى على الساحة والذي يلعب الدور الوطني الحقيقي والواعي والمتمثل بحركة أنصار الله .
قد ينتج عن تزايد الغضب الجماهيري وتفاقم الأوضاع أن يضيق بعض العقلاء ذرعاً من الوضع وييأسون تماماً من أي فرصة لإصلاح الوضع ويسعون لإبرام اتفاقات او تسويات معينة مع الأنصار كما بدأت بوادر ذلك تظهر في شبوة .
الأمل في أن تفرز هذه الاحتجاجات والصراعات العبثية في الجنوب قوى وطنية جديدة ذات رؤى وطنية خالصة من تحت أنقاض هذا التهافت السياسي للمكونات الحالية العميلة والدائرة في فلك العدوان ..
سيئون – حضرموت – 2021