رغم أمّيَّتي السياسية والثقافية أقول إن ما تشهده الساحة الأفغانية من مستجدات، أعتبرها وفقا لبعض المعطيات تسير وفق خارطة طريق وضعتها مطابخ الناتو تقضي بنقل السلطة من أجندات الحزب الجمهوري إلى الديمقراطي المتوَّج بانسحاب الأمريكان ومنح إجازة مفتوحة للرئيس الفار أشرف غني ومن ثم تسليم مفاتيح السلطة للدواعش الطالبانية .
بلا شك تبرهن تلك المعطيات أن ذلك سار ويسير وفقا لتلك الخارطة التي أتقنت هندستها إدارة البيت الأبيض على ضوء الأدوار التي تتداولها واشنطن بين الجمهوري والديمقراطي أي بعد كل دورة انتخابية .
البعض يعتبر أن سيطرة طالبان على السلطة بعد انسحاب القوات الأمريكية ناتجة عن شعور البيت الأبيض بهزيمة في هذا البلد ولكن هذا ضمن الأسباب مع أن هناك أسباباً أخرى لم يشر إليها الكثيرون .
بكل تأكيد شعرت واشنطن أن قواتها العسكرية أصبحت مشتتة في أكثر من بلد والاستمرار في التشتت لا يخدم سياستها الخارجية والداخلية بل قد يجعلها تدفع فاتورة كبيرة حاضرا ومستقبلاً قد يترتب عليها نكسة كبرى للسياسة الأمريكية و تفضي لخروجها من المرتبة الأولى عالميا لأن ذلك يعني مزيدا من التصدع العسكري والسياسي والاقتصادي خصوصا مع تصاعد القوة الاقتصادية للصين وعودة الدب الروسي وتوسع نشاط محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط.
ثمة أسباب جعلت واشنطن تتخذ قرار الانسحاب منها:
أولاً: ارتفاع درجة الضغط على البيت الأبيض من قبل الشارع الأمريكي نتيجة استمرارية الخسارة البشرية في أفغانستان وغيرها ولهذا السبب ظلت هذه القضية توثر على شعبية الجمهوريين والديمقراطيين الذين أصبحوا يلمسون تذمر الشارع الأمريكي جراء ذلك، فأصبح الحزبان يطلقان وعودا ويرفعان شعارات بسحب القوات العسكرية من أفغانستان ويوسعان عملية الترويج لتلك الوعود خلال مواسم الانتخابات سواء الرئاسية أو غيرها كما حدث بنفس البروفة التي جرت في عهد أوباما وتكررت في عهدي ترامب وبايدن فتحولت تلك الوعود أشبه بمسكنات يتم ضخها للشارع الأمريكي المتذمر هدفها امتصاص أي غضب من جراء ذلك وكوسيلة لكسب تلك الشرائح المتذمرة في معارك الانتخابات خصوصا العائلات التي عمل ويعمل أبناؤها في المؤسسة العسكرية وقد برهنت الوقائع أن كل طرف انتخابي ضخ ولا يزال يضخ تلك الوعود ورفع شعارات خداعية كوسيلة لكسب المعركة الانتخابية وضمان حصد أصوات الفئات المتذمرة وتحديدا العائلات التي تم الزج بأبنائها في أفغانستان مع أن كثيراً من الأمريكان يعتبرون أن استمرار الخسائر البشرية يعكس ذاته سلبا على شعبية وتوجهات الحزبين فأصبح الحزب الذي يصل للبيت الأبيض يشعر أن هذا الخطر يتصاعد و له تأثير سلبي على مستقبله الأمر الذي جعل إدارة بايدن بعد مغادرة ترامب تتخذ قراراً بنقل قرار الانسحاب إلى التنفيذ خصوصا بعد تراجع شعبية الجمهوريين بحكم إدراكهم ما لهذه القضية من انعكاسات على مستقبل الحزبين على اعتبار تنفيذ القرار يعني امتصاص الغضب المستمر في الداخل الأمريكي هذا من جهة، أي ازدادت خسارة الأمريكان في حرب أفغانستان كلما زاد غضب الشارع الأمريكي وهذا يخدم القوى الدولية الصاعدة اقتصاديا على المستوى الدولي وبنفس الوقت يخدم تطلعات وتوجهات محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط .
ثانيا: بدأت إدارة البيت الأبيض تلمس ان هذا الخطر متسارع على كافة الأصعدة ومنها العسكرية والأمريكان يعتبرون أن بقاء قواتهم المتواجدة في أفغانستان والعراق وغيرهما تترتب عليه استمرارية الخطر على مصالحها بالمنطقة الشرق أوسطية في ظل التحديات التي تواجه الناتو بشكل عام وأمريكا تحديدا وفي ظل ارتفاع درجة التحديات بين طهران وواشنطن وبالذات حين كان الرد قاسيا من إيران- كرم الله وجهها- ضد واشنطن وإهانة البيت الأبيض عندما أقدمت بتوجيه ضربات موجعة للقواعد الأمريكية في العراق كرد فعل لتورط الأمريكان في اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس و صفعة أخرى وجهت لإسرائيل من خلال المقاومة الفلسطينية وفشل الأمريكان وبقية الناتو وتحالف العدوان على اليمن وكل ذلك جعل الأمريكان يعتبرون ان تنامي هذا الخطر يعد كابوسا مزعجا للوسط الأمريكي برمته وله تبعات على مستقبل المصالح الأمريكية في المنطقة وهنا بدأ شعور واشنطن بالهزيمة بل وصلت لقناعة ذاتية ان خططها باتت غير مجدية في ظل تنامي قوة الاقتصاد الصيني وعودة الدب الروسي وتوسع محور المقاومة .
ثالثا: هذا الشعور الأمريكي هو بحد ذاته يمثل هزيمة نفسية وعسكرية بغض النظر عن عدم الاعتراف بالهزيمة أو الفشل وليس أمام صناع قرار واشنطن سوى الاحتفاظ بماء الوجه والعودة لترتيب أوراقهم بعد أن أدركوا أن خوضهم معركة عسكرية مع إيران في ظل تشتت قواتهم في أكثر من دولة يعني مزيدا من الخسارة والتصدع العسكري والاقتصادي وغيره بل سيكون بمثابة انتحار لقواتها العسكرية الأمريكية وسقوطا مدويا لسمعة الشركات المصنعة للسلاح مع أن تلك الشركات هي من تصنع القرارات الأمريكية وكل ذلك يترتب عليه تدمير مستمر لمصالحها الاقتصادية في المنطقة وسيجعل الهيبة الأمريكية تداس بالحذاء أكثر من أي وقت مضى، فلم تجد واشنطن وسيلة لتجاوز هذا التحدي سوى تغيير مسار اللعبة بما يكفل امتصاص الغضب في الداخل الأمريكي وبحيث يكفل الحفاظ على مصالحها في المربع الشرق أوسطي مع وضع خطة جديدة لإدارة اللعبة .
رابعا: ترى إدارة البيت الأبيض أن الضغط الداخلي والخارجي المرتبط ببقاء قواتها في الخارج سوف تترتب عليه نكسة للسياسة الأمريكية وليس أمامها سوى بناء اجندات مؤمركة في العديد من البلدان المستهدفة ومنها افغانستان وهذا ما تم وقد خضع برنامج بناء تلك الاجندات لطابعين مؤمركين الأول يتعلق بالأجندات التابعة للجمهوري والثاني يتعلق بالأجندات التابعة للديمقراطي لتصبح مجرى السياسة الأمريكية عقب كل دورة انتخابية يترتب عليه تدوير نشاط تلك الأجندات في البلدان المستهدفة على ضوء نتائج الانتخابات مع الاحتفاظ بالثوابت التي يسير عليها الحزبان، أي عندما يكسب الجمهوريون المعركة الانتخابية يترتب على ذلك انتقال المهام الأمريكية لأجندات الجمهوري كما تم في عهد ترامب وعندما يكسب المعركة الديمقراطي تتولى الأجندات المنضوية تحت إبط هذا الحزب في البلدان المستهدفة استلام تنفيذ المهام الأمريكية من نافذة الديمقراطي كما يحدث راهنا في عهد بايدن .
هنا يقاس الوضع بأفغانستان أن من منح إجازة مفتوحة للرئيس غني ومن معه من أجندات الجمهوري وتسليم السلطة لأجندات الديمقراطي ممثلة بطالبان هي واشنطن التي بدورها سلمت ترسانة الأسلحة الأمريكية لوهابية طالبان والغريب أنها تروج لمكافحة الإرهاب وهي من صنعت الإرهاب وتديره بالريموت كنترول وهذا تناقض يتجلى من خلاله التضليل والخداع الأمريكي عبر النوافذ الأمريكية .
وبالتالي فإن انسحاب القوات الأمريكية لا يعني انسحاب الدور الأمريكي برمته بل يظل حاضرا ومستمرا من خلال هذه الأجندات سواء كان بطابع الجمهوري أو الديمقراطي وهذا كما أسلفت لا يعني توقف الدور الأمريكي في أفغانستان بل سيظل قائما بغض النظر عما يروجه الإعلام الامبريالي من تضليل ليس له علاقة بطبيعة مشروع التغريب الذي يسير في المنطقة ومن تحت الطاولة .
وعلى هذا الأساس لا يعني استلام طالبان للسلطة تخليهم عن الأمريكان وإعلان توبتهم عن النشاط الإرهابي، بل سيظل قائما وجزءاً من استمرارية التدمير لهذا البلد بأدوات افغانية مؤمركة وتحويله إلى مستودع مركزي لنشاط كافة تيارات التكفير المتوحشة على مستوى العالم لتنفيذ جزء من المشاريع الاستهدافية في الساحة الافغانية وضد البلدان المرتبطة حدودها مع افغانستان خصوصا البلدان ذات التوجه المضاد للإمبريالية وفقا للبرنامج السري والسحري الذي تعده واشنطن بما يخدم سياستها التغريبية بطابعها الصهيوني . .
الأسئلة التي تطرح ذاتها هي: هل سيطرة طالبان راهنا تعني توقف مشاريع الأطماع والتدمير الأمريكي في المنطقة ؟ أم أنها سوف تستمر بغطاء وديكور آخر؟
هل سوف يعلن طالبان أفغانستان توبتهم عن الإرهاب ونشر الجهل والجريمة والتخلي عن الصهاينة ؟ أم أن ذلك سيكون العكس ؟
هل سيكون هناك تأثير سلبي أو ايجابي بعد سيطرة طالبان على توجهات محور المقاومة ومنها اليمن ؟
هل سيطرة طالبان على ترسانة الأسلحة الأمريكية سيسخر لخدمة الأهداف الأمريكية ؟ أم العكس ؟
إذاً.. ما هي مشاريع السلام التي تروِّجها المنظومة الغربية في افغانستان واليمن وتقف قطر كلاعب إقليمي في ساحة الأفغان وبعض دول المنطقة في ظل مجريات ومتغيرات الأحداث عالميا وإقليميا وبتعاون اللوبيات المؤمركة في المنطقة ؟
* نائب وزير الإعلام.