رئيس هيئة الكتاب لـ “الثورة “: التعدد والتنوع الثقافي ظاهرة عصرية لا يمكن القفز على حقائقها الموضوعية

 

للأدباء والمبدعين والمفكرين رؤاهم وتصوراتهم المتعددة الهادفة إلى حل قضايا واقعهم ومجتمعهم والدفع بهما إلى مرحلة مشرقة ومتطورة ومزدهرة تواكب العصر وترافق المنجز الحضاري المتطور والذي يعيشه عالم اليوم.
وحول الثقافة والمثقف ودور ذلك في تقدم المجتمع وتطوره، وحول قضايا المشهد الثقافي اليمني، كان لنا اللقاء التالي مع الأديب والمفكر عبدالرحمن مراد بصفته أحد المثقفين المهمومين بالمشهد الثقافي، وأحد الفاعلين الحقيقيين في تطور المشهد الثقافي ورفده بالعديد من العطاءات الثقافية سواء من خلال إصداراته الثقافية والفكرية والإبداعية المتعددة أو خلال أنشطته الثقافية، إلى جانب كونه رئيس الهيئة العامة للكتاب في بلادنا.. وفي السطور التالية حصيلة اللقاء:

لقاء/
محمد أبو هيثم

اللغة تواجه خطرا محدقا وكذلك المجتمع
في البدء كقارئ للمشهد الثقافي.. كيف ترى واقعنا الثقافي اليوم ؟
– الحقيقة أن واقعنا الثقافي متعثر بسبب الاضطرابات، فالمصطلح الثقافي والأدبي فقد طاقته الدلالية اليوم , وهناك شعور طاغ لدى الكثيرين – وأنا واحد منهم – أن اللغة فقدت طاقتها وقد أخفقت في استيعاب التطورات التي تحدث قدرا من الانفعال والحركة في الواقع .
اليوم كأي زمن مشابه له من حيث عدم الاستقرار يقوم الأدب الشعبي بالترويج لمعجم لغوي بديل , هو في حقيقته يقتصر على التعبير عن آراء بسيطة وشائعة ومتداولة بين الناس .
فالاضطراب العام وعدم استقرار الحياة أفقد اللغة مصادرها في التعبير فأضحت عاجزة عن فهم طبيعة الحقيقة الخارجية، فالأديب ينظر إلى ما وراء الطبيعة لإيجاد منابع للاستقرار والإيمان، ولذلك أرى أن اللغة أخفقت في استيعاب التطورات المتحققة في حقول المعرفة فكل الذي يحدث اليوم طحالب ولك أن تطوف في شبكة التواصل الاجتماعي لتكتشف مشاهيرهم وتنظر في المحتوى الذي يقدم .
وأنا أرى أننا لن نصل إلى الاستقرار ولا إلى النظام ولا إلى الثبات إذا فشل الفنان والأديب في التجرد من محاكاة الاشياء الحية غير المستقرة .
حين يبدو كل شيء حولك في الطبيعة كعنصر مهدد لك, وفوضي , تشعر بحاجتك إلى إقصاء سمات الزوال والتنافر بين الكائنات, فأنت هنا خارج معادلة الفوضى ولا تشعر بالمعنى الحقيقي لوجودك في طبيعة سماتها الفوضى والفناء .
ظاهرة اجتماعية
هل أصبحت اللغة عاجزة اليوم عن خلق منابع للاستقرار ؟
– لا اعتقد ذلك.. اللغة ظاهرة اجتماعية تتطور مع تطور المجتمع بدليل أن الرمزية ارتبطت بالجانب الصناعي , والواقعية ارتبطت بسباق التسلح بين الشرق والغرب وكل مرحلة كانت تبرر ضرورتها الفنية المواكبة لها .
لكن ما يحدث اليوم هو حركة تعطيل وثبات وموت وهي مرحلة تتبلد فيها اللغة لكنها ستعود , حدث مثل ذلك قبل عصر النهضة وهو يحدث اليوم , ولا يقظة إلا بتفعيل دور اللغة .
تطوير الإمكانات اللغوية
هناك من يرى أن اللغة أضحت محاكاة للأشياء وفقدت خاصية التفاعل مع الأشياء؟
– اللغة لا تجرَّد من معانيها في الغالب لكنها تندمج في علاقات تحددها ثيمات العمل وبنيته وبمثل ذلك التفاعل تصوغ شيئا جديدا قد يكون محسوسا ولكنه بالضرورة غير مألوف .
تكوين الصورة في النصوص الابداعية ضرورة لا يمكن تجاوزها وفي المساحة الفاصلة بين الصورة وما حولها يجد الكاتب الحداثي آفاقا جديدة يعمل من خلالها على تطوير الامكانات اللغوية أو بمعنى تفجير الطاقات القصوى للغة .
الفرنسيون مثلا في عصر الصناعة اكتشفوا الامكانات الرمزية للأشياء وقالوا إن الاشياء يمكن أن تكون أكثر بلاغة من الأفكار ورأى بعضهم أن وسائل الدخول إلى الممالك الروحية هي الصورة ولذلك ذهب البعض إلى القول إن الصورة الشعرية ليست مجرد زخرف بل جوهر اللغة الحدسية ذاته وخالف البعض هذا القول وقالوا ليست الصورة جوهر الحدس ولكنها تقترب منه وهي تحفظ بداهة التجربة الحدسية وعلى العموم فالتصوير الفني هو صهر للعناصر بحيث يمنحنا إحساسا بالتحرر المفاجئ والانعتاق من حدود الزمن وحدود الفضاء وحدود المكان وهذا الإحساس يخفق الواقع في تحقيقه لكنه وطن متخيل بديل حتى نصل إلى حالة التوازن ونستطيع الاستقرار والثبات والانتظام .
اضطراب المفاهيم والمصطلحات
نلاحظ اليوم اضطرابا في المفاهيم والمصطلحات وخاصة منها ذات الدلالة السياسية .. كيف نفهم ما يحدث ؟
– كما أشرت سابقا فالاضطراب العام وعدم الاستقرار سبب في ذلك، فحين يبدو كل شيء حولك في الطبيعة كعنصر مهدد لك, وفوضوي تشعر بحاجتك إلى إقصاء سمات الزوال والتنافر بين الكائنات, فأنت هنا خارج معادلة الفوضى ولا تشعر بالمعنى الحقيقي لوجودك في طبيعة سماتها الفوضى والفناء .
التباس المفاهيم اليوم هو حركة مقاومة للفناء بتأكيد الوجود .
هل تعتقد أن سؤال المستقبل أصبح حاضراً اليوم؟
– نعم .. وحضوره من محاسن العدوان على اليمن، هذا العدوان وطول أمده كل هذا الوقت في مقابل الصمود الأسطوري لليمن أثار سؤال المستقبل، وسؤال تجديد الأهداف، وعمل على تفكيك المنظومة العلائقية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ووضعنا في صورة مباشرة أمام سؤالنا الحضاري الجديد.
كل أخطاء الماضي يفترض أن تكون مرقاة للنجاحات في المستقبل، فالكوارث والثورات حالات تُعلِّم الإنسان سبل النجاح وتجاوز الإخفاقات أو التقليل منها.
تطوير الأبعاد الحضارية
هل تتوقع أن يتغير مسار التاريخ؟
– للتاريخ قانونه .. , وإحداث الانحراف في مساره يتعذر على البشر ما لم يحدث انحراف في البناءات الثقافية والاجتماعية والسياسية، والخروج من دائرة الصراع أمر مستحيل، لكن يمكن الحد منه بتطوير الأبعاد الحضارية وابتكار الحلول والعمل على التحديث المستمر للأهداف الوطنية.
-كل القوى أصبحت تتحدث باسم الشراكة .. فهل ستشكل نافذة للخروج من تلك العقدة التاريخية؟
– لا .. لأن مفهوم الشراكة مفهوم عائم تلوكه أسنان الأقلام وألسنة الساسة في اليمن وهو غير واضح .
لذلك لا بد من تحديد مفهوم الشراكة الفلسفي في أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهذا الدور لا يتقنه إلا المثقف والمفكر إذا حدث تصحيح للعلاقة الجدلية بين المثقف والسياسي في اليمن .
فعالية المثقف
هل تتوقع عودة فاعلية المثقف في الحياة العامة؟
– ولم لا .. ففعالية المثقف لا تتطلب إلا حلاً وجودياً يلامس أزمته الوجودية التي يعاني منها ، فالحالة الإبداعية والفكرية بدون شعور بالاستقرار النفسي والاجتماعي تيه لا طائل منه.
المثقف في اليمن مستهدف , وتلك قضية يفترض الوقوف أمامها بجدية وبمسؤولية أخلاقية وإنسانية .. لا يمكن لليمن النهوض بدون نهضة فكرية وثقافية وإبداعية .. وكل نهضة أو حالة تحولية في التاريخ سبقتها نهضة فكرية وثقافية .
خيارات السلام
هل تعتقد أن خيارات السلام واردة في الأمد القريب ؟
– كما أن السلام يأتي من الحرب.. فالحرب تأتي من السلام، ذلك لأن أهم الأمور تأتي من عكسها، بيد أن صورة السلام تختلف من حين إلى آخر، فالسلام الذي كان يسود بلادنا قبل عام 2011م كان فترة كبت تتهيأ للانفجار لا فترة سلام، لأن السلام الحقيقي هو الرضى النفسي بما هو قائم أو الأمل بتحسينه بفعل العامل الزمني، لكن ذلك السلام كان بمثابة التجمع للانقضاض، فهو حرب في النفس لا تنتظر إلا الميدان المدجج بالسلاح، وقد كان ذلك الميدان ومايزال مستمراً إلى زمن العدوان السعودي الذي أهلك الحرث والنسل ودمر كل شيء في اليمن، إذ أنه لم يبقِ ولم يذر، وفي تقديري ستكون للعدوان وظيفتان مزدوجتان ومتضادتان هما السلام والحرب، فالسلام هو مرفأ الأمان والاستقرار الذي سترسو سفينة اليمن عنده بعد كل هذا الإبحار في ظل العواصف والأنواء والأمواج المضطربة التي تقاذفت اليمن منذ 2011م وحتى اليوم وهي قد أخذت حظها من حركة التدافع والثورة والتطهير في البناءات المختلفة الاجتماعية والثقافية والسياسية.. والحرب هي البحر اللجي المتلاطم الذي ينتظر النظام السعودي الذي أخذ حظه من الاستقرار والهدوء والسكينة والثبات وقانون التدافع سيأخذه إلى مربعات الحركة بعد أن فسدت العلاقة بين المجتمع والسلطة وساهم العدوان في تعرية النظام وعمل على تفكيك بناءاته وأحدث خللاً واضحاً وشرخاً بيّناً في جدار النظام العام والقانون الطبيعي وتكشفت حقيقة النظام السعودي وأدواته أمام العالم بعد أن عملت الامبراطورية الإعلامية التي يديرها على تغطية الكثير من الحقائق وحاولت أن تبرز الوجه المشرق لآل سعود، لكن عدالة السماء ستكون حاضرة في المستقبل القريب .
إشكاليات ثقافية
هل يمكنك تشخيص الإشكالية الثقافية والسياسية في اليمن بعد كل هذا الاضطراب ؟
– مشكلة الإنسان في اليمن تكمن في الفراغ الحضاري والثقافي الذي يعيشه وهو فراغ يشتهي الامتلاء، وقد سبق للأدباء والكتّاب التعبير عنه والتحذير منه ولم يعرهم الساسة آذاناً صاغية، ولذلك نرى من يستغل ذلك الفراغ ليملأه بمشاريع مغتربة عن السياق الحضاري والنسق الثقافي وهي الآن في حالة صدام مع واقعها – أي تلك المشاريع المغتربة عن الواقع اليمني- فالهيمنة للقوى الكبرى كانت دوافعها في الماضي اقتصادية وأدواتها عسكرية، وفي الألفية الجديدة لايزال الدافع هو نفسه وتغيرت الأدوات من عسكرية إلى اشتغال استخباراتي أمني، فالهيمنة في الألفية الجديدة تقوم على البناءات الثقافية بحيث تضيق دائرة النزاعات لتكون مقتصرة على الأمة الواحدة بدلاً من الأمم المختلفة وربما اقتصرت على الجماعات المتمايزة ثقافياً، فالتعددية الثقافية التي أتاحت للثقافات داخل المجتمعات حرية التعبير العلني عن هوياتها الثقافية وعن استحقاقاتها السياسية والدستورية والاجتماعية، الأمر الذي أظهر جماعات علنية تجاهر بطقوس وبثقافات على تضاد مع بعض التصورات الذهنية لجماعات أخرى ما جعل دائرة الاختلاف والخلاف تظهر كتمايز نوعي واضح، وحالات الصراع التي تحدث في بعض المجتمعات تفضي في النهاية إلى مفردات السلام، والتعايش، واحترام الاختلاف، فالتعدد والتنوع الثقافي أصبح ظاهرة عصرية لا يمكن القفز على حقائقها الموضوعية بل يفترض التفاعل مع تلك الحقائق الجديدة في ظلال من المفهوم الشامل للمواطنة وبحيث يمكن من خلال ذلك المفهوم الاشتغال على قيم الانتقال باعتباره يقدم إطاراً قانونياً وثقافياً واجتماعياً للتعايش الايجابي بين مواطنين يتنوعون ثقافياً، فالمجتمع أصبح في حالة متغايرة عمّا كان عليه، فالتنوع الثقافي فرض واقعاً اجتماعياً جديداً، وبناء المجتمعات وفق معطيات الانتقال والتنوع الجديدة يتطلب وعياً وإدراكاً ودراسات علمية بحيث يكون الاشتغال عليها مرتبطاً بالحالات الانتقالية وتدعيماً لضرورات التنوع والتعدد والتعايش والسلام من حيث الأخذ بمبدأ الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فبناء المجتمع وفق معطيات التعدد والتنوع الجديدة يتطلب جهداً مضاعفاً من الجهات والمؤسسات والأفراد من أجل الوصول إلى قيم مشتركة تكون واضحة العلائق تعزيزاً لقيم الانتماء إلى الوطن الواحد.
مشروع ثقافي
* أنت – كما أفهم – أكثر ميلاً إلى المشروع الثقافي الذي يؤسس للمشروع السياسي؟
– ما يجب أن ندركه أن الوظيفة الإبداعية والثقافية لم تعد كما كانت عليه من قبل مشاركة وجدانية وتصويراً لشوارد الافكار والوجدان ولكنها أصبحت عملية استشرافية وصناعية للمستقبل ،وهي جزء لا يتجرأ من عملية تطوير الروح في خلق فضاءات أكثر جمالاً تراعي التوازن الروحي والنفسي لخلق معادلة الحياة المتسقة والقادرة على التفاعل مع الزمان والمكان بما يعكس قيمتها الحضارية الدالة عليها والمحققة لهويتها الزمانية دون اجترار، فالفن حياة مركزة يحمل في نسيجه العامر حالة تطور ونماء وتحديث ويؤكد على القيمة الجمالية للحياة.
قارن بين تركيا قبل عقد من الزمن وبين اليوم واقرأ مفردات التطور بموضوعية – بغض النظر عن اتفاقك معها أو اختلافك – تجد أن البعد الثقافي كان المهاد وما يزال، كل نهضة ترتبط ارتباطا عضويا بالثقافة في كل مراحل التاريخ وحقبه .
تصوير/حمد فؤد

قد يعجبك ايضا