في كتابه “مدينة على جبل” .. الأكاديمي طارق متري:الكشف عن استخدام الدين في السياسة الأمريكية وشن الحروب على الآخرين
خليل المعلمي
يعالج الأكاديمي اللبنائي طارق متري الوزير والمحاضر في جامعة هارفرد، مسألة قلما تطرق إليها الباحثون العرب، وهي مظاهر التدين في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في كتابه “مدينة على جبل.. الدين محركاً للسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية”، واستخدام الدين في شن الحروب على الآخرين.
استعرض المؤلف في الفصل الأول المشهد الديني الأمريكي إذ ينقض فيه الصورة المألوفة، بل الشائعة التي كان أغلب العرب قد نسجوها في مخيلتهم عن المجتمع الأمريكي، باعتباره مفرطا في ماديته، وموغلا في إنكاره الدين بحياة أفراده.
والواقع أن التدين، بحسب المؤلف، كان ولايزال يشكل السمة الغالبة لمجتمع الولايات المتحدة منذ نشوئها، لأكثر من قرنين، على ما كان لاحظه «ألكسي دو توكفيل»، عالم الاجتماع السياسي لدى زيارته الولايات المتحدة، مطلع القرن التاسع عشر، ففي مقابل الفصل بين الدين والدولة، الذي ترسخت مفاعيله في المجتمعات الأوروبية، بعيد الثورة الفرنسية، كان المجتمع الأمريكي قائما على البعدين الديني والمدني، الماثلين في الإنسان الأمريكي نفسه.
ويبرز الكاتب، تأييدا لفكرة التدين هذه بعضا من نتائج استطلاع جرى ما بين العامين 1998 و٢٠٠٢م، إذ قال إن ثلاثة من أصل خمسة أمريكيين اعتبروا أن الدين «مهم جدا» في حياتهم، ولئن تفاوتت هذه النسبة، لدى الجماعات المتدينة من الأمريكيين المسيحيين واليهود فإن القاسم المشترك بينها جميعا، كان إقرارها بأن التدين يشكل ركنا أساسيا في تكوين الشخصية الأمريكية، وفاعلا لا يستهان به في حياة المواطن الأمريكي الفردية.
وإن صح أن الولايات المتحدة عرفت فصلا بين الدين والدولة، منذ نشوئها –على حد وصف المؤلف- فإن ذلك الفصل لم يلغ «وجود بعد ديني للسياسة»، أطلق عليه “روبير بيلا” تسمية «الدين المدني»، وتجلى هذا الأخير في مناسبات سياسية كبرى كاحتفال تنصيب الرئيس جون كنيدي 1961م، على سبيل المثال.
نظرة بانورامية
وفي نظرة بانورامية شاملة للحركات والتجمعات الدينية والروحانية التي يحفل بها المجتمع في الولايات المتحدة، ينقل المؤلف عن روبير بيلا ملاحظته «تراجع الدين المدني التدريجي لمصلحة الدين الفرداني» منذ أواسط السبعينيات، من القرن المنصرم. وهذا ما يفسر إقبال المواطن الأمريكي على الأديان، بحيث تجد 1586 جماعة دينية، ۷۰۰ منها غير تقليدية، أي لا تتبع الأديان التوحيدية المعروفة، وتتراوح دعواتها بين الحكمة والتصوف والتأمل واعتماد الطقوس الغريبة -الذاهبة أحيانا إلى حد الانتحار الجماعي، لدى بعض الفرق- وغيرها الكثير.
معايير بروتستانتية
في الإطار ذاته، يعاود المؤلف رسم صورة أدق عن توزع الديانات والطوائف الرئيسية في الولايات المتحدة، ساعيا إلى رصد علاقات القوة والتأثير، فالبروتستانتية التي كان لايزال يراها بعض الدارسين مفتاحا أول ووحيداً لفهم الحياة الاجتماعية والاقتصادية، منذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أصبحت غير ذلك منذ الستينيات من القرن العشرين، بعد انخراط أعداد كبيرة من المهاجرين الكاثوليك واليهود، في الحياة العامة الأمريكية، وخضوعهم طوعا لبعض المعايير البروتستانتية العامة في التنظيم والممارسة. ومع ذلك، صار لهؤلاء المهاجرين دور فاعل في السياسة الأمريكية، وإن لم يبلغ موقع القرار الحاسم فيها.
وقبل التصدي للمسألتين الأساسيتين في الكتاب، الأولى تأييد الولايات المتحدة المطلق لدولة إسرائيل، وما تترتب عنها من تداعيات، والثانية أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وانعكاساتها الأمريكية الداخلية، كان لابد من توصيف عام للمجموعات الدينية في الولايات المتحدة، إذ يشكل البروتستانت، بحسب المؤلف، وفق بعض الدراسات، حوالي60 % من مجموع السكان، على أن فئة كبيرة من هؤلاء، التي أطلق عليها تسمية الخط الرئيسي تنقسم بدورها إلى سبعة مذاهب كبرى، ذات خصائص مشتركة.
ومن الملاحظ، بحسب المؤلف، أن أبناء هذه المذاهب البروتستانتية ذوو نفوذ اقتصادي وسياسي وثقافي لافت، ماداموا ينتمون إلى الطبقات الوسطى والعليا، بيد أن نفوذهم السياسي المتنامي لم يخولهم الإمساك بزمام القرار في الدولة.
أما الاتجاه البروتستانتي الرئيسي، إلى جانب الجماعة الكاثوليكية، فكانت له بالمقابل مواقف داعمة لحق الشعوب المهمشة في العالم الثالث، ولاسيما تأييده قضية الشعب الفلسطيني، وجهوده المستمرة في سبيل الحوار المعمق مع العالمين الإسلامي والعربي.
وعليه، فإن الكاثوليك، وبروتستانتيي الخط الرئيسي، شكلوا النهج الليبرالي الذي بات يتصدى لاندفاعة التسلط في السياسة الأمريكية الخارجية، في حين أن اليهود، الذين توطنوا في الولايات المتحدة، أواسط القرن التاسع عشر، آتين من أوروبا وروسيا، والذين لا يتجاوز تعدادهم ثلاثة ملايين نسمة فقد اندمج معظمهم في الحياة الأمريكية، وتبنوا العديد من المظاهر الأمريكية في صلب طقوسهم، كما تيسر لجماعات منهم، ولا سيما تلك القادمة من ألمانيا، أن تستقطب، بأفكارها الإصلاحية، العديد منهم إلى صفوفها.
وفي الزاوية الأخيرة من اللوحة البانورامية هذه، يصف المؤلف د طارق- متري، المسيحيين الشرقيين، من الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية ممن وفدوا إلى الولايات المتحدة، من سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن، منذ نهاية القرن التاسع عشر، فاعتبر أن خصوصياتهم، اللغوية والطقوسية والاجتماعية، كانت ولا تزال حائلاً دون مشاركتهم الواسعة في الحياة السياسية، وهذا مما يفسر ضآلة تأثيرهم في صناعة القرار بدوائره المختصة.
القومية الأمريكية والخصوصية المسيحية
خصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لدراسة العلاقة بين القومية الأمريكية والخصوصية المسيحية، ويقدم لهذا الفصل باعتباره الشخصية الإنجيلية المحافظة، التي سبق وصفها، الحاضنة الرئيسية للشعور القومي الأمريكي، لينتقل بعدها إلى الحديث عن موقف هذه الفئة، التي كان أفرادها تولوا صياغة القرارات السياسية بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وقد شكلت هذه الأحداث بهولها، الصدمة الكبرى للأمريكيين عموماً، وتفاوتت ردودهم حيالها تبعا لمنطلقاتهم الدينية والسياسية، التي كانوا عليها، ولئن استشعر الإنجيليون المحافظون، مدفوعين بحسّهم الديني، قدرا من تأنيب الضمير، فرأوا في الأحداث إشعارا بانحراف الولايات المتحدة عن سبيل الأخلاق والقيم المسيحية، فإنهم سرعان ما استعادوا صورة الضحية البريئة فاصبحوا يرون لزاماً اتباع كل السبل الممكنة دفاعا عن النفس، وإعزازا للأمة.
الحملة على الإسلام
وبعد أن يعرض الكاتب لصور الإسلام التي صاغها هؤلاء المحافظون – والتي أقل ما يقال فيها إنها مشينة – وللنسب المتصاعدة في العداء للمسلمين، وذلك على الرغم من الجهود التي بذلها مجلس الكنائس الوطني في تصديه للحملة على الإسلام والمسلمين.
وفي هذا الشأن، يصف المؤلف السبيل الذي سلكه المحافظون من البروتستانت، وعلى رأسهم جورج دبليو بوش في تسويغ الحرب على العراق، في ما سميت بالحرب العادلة، والواقع أن نظرية الحرب العادلة كان قد أطلقها الرئيس بوش الأب عام ١٩٩١م بعد أن كان استعارها من المعجم الديني القديم، منذ القديس أغوسطينوس الذي وضع شروطا لازمة لهذه الحرب وهي أن تكون القضية محقة والسلطة صاحبة القرار شرعية، والنية من ورائها إقامة العدل والسلام، وأن يتم اللجوء إلى القوة بعد استنفاد كل الوسائل الأخرى الممكنة، وعليه فقد خاض الرئيس بوش في شأن تسويغ الحرب، صراعا فكريا مع أكثر المراجع المسيحية حضورا (بروتستانت الخط الرئيسي، الكاثوليك…) التي ظلت ترفض أن توسم تلك الحرب بسمات مسيحية، مادامت تخالف العقيدة السلامية والإنسانية المثالية التي تحكم علاقة المسيحيين بغيرهم من البشر، بالرغم من أن موجباتها (الحرب) السياسية، كانت مقنعة كل الإقناع (احتلال الجيش العراقي الكويت).
أما وأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام ۲۰۰۱م، فرضت نفسها، فقد تجند تيار الإنجيليين المحافظ لاطلاق حملة تسويغ لحرب استباقية على العراق، لم تنفع معها اعتراضات المسيحيين الليبراليين (الكاثوليك، والبروتستانت) المتوالية على الحرب، الذين ظلوا يصفونها بغير الأخلاقية وغير الشرعية وغير الحكيمة، على غرار ما صرح به الاتجاه السائد في المسيحية خارج الولايات المتحدة، وما عبرت عنه الكنيسة الكاثوليكية بصوت البابا، والكنائس الأخرى المنفردة، ومجلس الكنائس العالمي.
الكشف عن حقائق وثوابت
يعتبر الكتاب حدثاً ثقافياً لأنه يكشف لنا، نحن القراء العرب عن ثوابت بل حقائق كانت ولاتزال خافية عنا، من مثل صعود المحافظين البروتستانت في المجتمع الأمريكي وتهديدهم الطابع العلماني للدولة، وتقاطع المصالح بين البروتستانت المحافظين هؤلاء وبين اليهود، ذوي النفوذ والحظوة الكبيرين في المجتمع وبين المحافظين الجدد الذين ينتمي إليهم جورج دبليو بوش.
وبالمقابل، سعى الباحث إلى استنطاق الوقائع الاجتماعية والدينية والسياسية، التي تزامنت مع الأحداث الكبرى، منذ الحادي عشر من سبتمبر ۲۰۰۱م، وما تلتها من أحداث، والتي كان شاهدا حيا عليها ومساهما نشطا في بعضها (كون المؤلف مسؤولا عن قسم الحوار الديني والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين، في مجلس الكنائس العالمي).
وحسب الكتاب أنه يشكل مدخلاً إلى إدراك إمكانات التغير الكثيرة في الرأي العام الأمريكي، من دون الإغراق في المواقف الإيديولوجية المسبقة.