الجهل القاتل

عقيد/ عبدالغني علي الوجيه –
وأنا طالب في الثانوية العامة كنت أرى طلبة الكلية أيام الإجازة الأسبوعية وهم يرتدون بذلات الاجازة بما عليها من الأزرار المذهبة وشارات الكلية الجميلة وأقول في نفسي لأبد أن حياتهم بداخل الكلية رفيعة راقية , قررت بعد تخرجي من الثانوية العامة أن أكون طالبا في كلية الشرطة فكثر الحديث حولي عن الأهوال التي سألقاها في فترة الاستجداد , فمن قال : يحعلونك تزرع شوك القطب المدور حتى إذا ما أصبح شوكا يكون ظهرك العاري له مأوى !وقائل لن يكون لك من وقت النوم سوى ساعتين أو أقل في كل ليلة طوال فترة الاستجداد !! وسيمنعوك من الأكل غير ما يقدم لك منهم فقط !!! ولن تأكل جالسا قط !!!! ومصيرك الجري السريع بعد كل وجبة تأكلها فإن أكلت وشربت أتعبت معدتك وإن أقللت من الأكل والشرب ماتت خلايا جسمك لحاجتها لطاقة تحرقها !!!!! كما قيل لي أن هدفهم سيكون خلال فترة الاستجداد أن تتبلد حتى تنسى اسمك !!!!!!وكنت اظن كل ذلك مجرد كلام يقوله من لا يستطيع قطف العنب , حتى دخلت الكلية فوجدت كل ما قيل حقيقة , بل ان كثيرا مما رأيت لم يكن قد قاله أحد !!
زميلي العقيد / احمد الحضوري ( رحمه الله ) كان ضحية لغوغاء أعراف فترات الاستجداد المتوارثة , وجده بعض الطلبة الأقدم وفي يده علبة حليب يماني فألزموه أن يغترف حفنة من التراب بيده فيبتلعها مع ذلك الحليب وكانت سببا في وفاته رحمه الله .
مات وهو طالب مستجد وما الرتبة التي نعته بها إلا ما كان يجب أن يكون عليه لو أنه على قيد الحياة لأنها رتبة دفعته اليوم , حزني عليه يرافقني لسبعة وعشرين سنة وزادني وجعا وألما أن سمعت بوفاة طالب في الكلية العسكرية هذا العام ممن هم الآن في فترة الاستجداد.
فترات الاستجداد هي مدة محدودة من الزمن ( 45 يوما ) الغرض منها نقل الشخص المتقدم للكلية من حياة المدنية الى حياة النظام والانضباط , لكن ما نراه لا يمت الى ذلك بصلة , فكل شواهد فترة الاستجداد منذ زمن بعيد وحتى اليوم أنها إنهاك لقوة المتقدمين البدنية وصنع تراكمات من الحقد على ذلك الاستهتار في نفوسهم وإدخالهم نفق التبلد المظلم فيكون كل منهم كسابقه حتى نصل الى الاصل الذي قال فيه الشهيد محمد محمود الزبيري :
العسكري بليد للأذى فطن * كأن إبليس للطغيان رباه .
تغير العالم وتغير كل شيء حولنا ولم يغير بعضنا من نفسه السقيمة.
كتب الله لي أن أعود للعمل مدرسا في كلية الشرطة بعد تخرجي منها وكان مما يؤرقني أنني وبعض زملائي الضباط مجبرون على إنفاذ تركة الأسى التي ورثتها الدفع في الكلية واحدة عن الأخرى وحين جاءت فرصة التغيير عضضت عليها بالنواجز .
كان آخر عمل في كلية الشرطة أن عينت قائدا لفترة المستجدين الدفعة ( 33 ), ورأيت تغيير نهج التدريب بحيث نعتمد التدرج في رفع مستوى اللياقة البدنية وبدلا من السعي لتبلد الطالب سعينا الى الحفاظ على كل حواسه ومداركه لثقتي أننا بحاجة اليها لتغييره الى الحياة النظامية ولغرس مفاهيم البذل والعطاء والتضحية التي يحتاجها منه الوطن ويحتاجها منه المواطن والمقيم والزائر في المجتمع الذي سيخرج لخدمته , وكانت النتائج كما اردنا والحمدلله , فخلال ( 45 ) يوم استطعنا انجاز التدريب الذي يأخذه طالب الكلية في السنة الاولى , أقمنا في نهاية فترة الاستجداد حفلا أدى فيه الطلبة الاستعراض النظامي على أنغام الموسيقى العسكرية بدون قائد , التدريب الصامت , قفز العربة , استعراض ( 11 ) كاتا كاراتيه تلقوها على يد مدرب دولي هو الآن رئيس اتحاد الكراتيه وأدهشوا من حضر ذلك الحفل بالمجموعة منهم الذين قاموا بفك وتركيب السلاح وهم معصوبوا الأعين , كان ذلك اليوم آخر يوم عمل لي في كلية الشرطة وكنت أتمنى أن تكون تلك هي البداية لتحديث نظم التدريب فيها.
لا أدري هل حان الوقت بعد هذه السنين العجاف لأن نغير نحو الأفضل¿ و لأن يكون اختيارنا لمدربي تلك الفترات مدروسا ¿ ولان نتحمل المسؤولية عن كل حالة وفاة أو إصابة لكون الاستهتار سببها ¿
هل نستشعر الآلام التي تعاني منها أسرة طالب بذل كل ما بوسعه لدخول الكلية ثم يخرج جثة في فترة إعداد وتأهيل ¿¿

همسة أمنية :

تعاون المجتمع مع الشرطة ضرورة لتحسين الأداء الشرطي الذي تنعكس آثاره على أمن وسلامة المجتمع .
سارعوا بالابلاغ عن أي حادثة أو جريمة أو حالة اشتباه الى الرقم المجان (199).
دام اليمن و دمتم بإذن الله سالمين ,

قد يعجبك ايضا