كم تركوا من جنات وعيون؟

محمد أحمد المؤيد

يعد الظلم من أخبث وأعتى الذنوب التي تفتك بالإنسان في دنياه قبل موته، كون الظلم بمعناه اللفظي ينحو منحى الظلام عندما يقاس بالتفعيلة، فظلم ظلاّم فهو ظالم، ولكن معناه المعنوي أو الاصطلاحي هو تحييد واستمالة الحقوق والواجبات عن غير مصبها الحقيقي، ولذا فالظلام هو مخيف دوماً وغير مرغوب فيه لانعدام الرؤية فيه، والذي يفقد الحواس التنبه للأماكن التي ينبغي وضع الأشياء في موضعها الحقيقي والمناسب والعادل وغير المجحف، وكذا استمالة الحقوق والواجبات غير مرغوب فيه أيضاً لانعدام العدالة، وبذا فالمعنيان يكملان بعضيهما بحيث نصل إلى معنى للظلم في أنه مصادرة الحقوق لغير أهلها، فعندما قال تعالى: ” وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” وقوله سبحانه: ” فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ” صدق الله العظيم، فهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على أن الله عدل حكيم لا يظلم أحدا بقدر ما أن الإنسان هو من يصادر الحقوق لغير أهلها فيصادر الله أحقيتهم بأشياء أخرى فيكون الجزاء من جنس العمل..
فالظلم قد يكون إما في ظلم” الإنسان” غيره أو قد يكون ظلم” الإنسان” لنفسه، ولذا فكلتا الحالتين تعد إجحافا ومصادرة للحقوق سواءً الشخصية أو التي هي للغير، فعندما نجد رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله يؤكد بكلمات تهتد لها الجبال في ما معنى الحديث “ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور” صدق رسول الله، فهو يؤكد عظم خساسة ووزر شاهد الزور أو من يدلي بشهادة زور، كونها تصادر الحقوق والواجبات لغير أهلها، وهذا من عظيم الظلم الذي حرّمه الله على نفسه، وهذا يدل ومن خلال الحديث الشريف على أن الظلم هو أخطر داء وبلاء يفتك بالناس ويهدد صفاء عيشهم على مر العصور، ويتسبب في تعاسة أمم وأقوام لأزمان عديدة ومديدة، فبسبب الظلم هلكت أمم واستحقت العذاب والعقاب فاندثرت وصارت كأن لم تكن..
ولذا فعندما نريد أن نتفكر في حقيقة ما يعمله الظلم بالظالمين ومدى الخسارة التي حلت بهم، فهناك آيات في القرآن الكريم هي من أدق الآيات تفصل ذلك، وذلك كقوله سبحانه ” كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ” صدق الله العظيم، فالآية دلت على الكمية، أي أن هناك نعما لا تعد ولا تحصى تركها الناس على وجه العموم وعلى مر العصور وانتهت حياتهم بدونها، فالآيات بالمنظور العام أو باعتبارها قاعدة سارت عليها وتسير عليها الأمم، فهي تشرح موقف بني البشر عموماً في نهاية المطاف مع هذه الدنيا سواءً كان مؤمنا أو مشركا أو كافرا، فالإنسان بطبيعته مفارق لجميع ما أنعم الله عليه، ورغم نزولها شرحت أساساً لموقف فرعون وقومه وكم هي النعم التي كانوا فيها يعيشون في رغد من العيش الكريم والمقام العظيم الذي لا تزال آثاره البينة لغزا حيّر الإنسانية منذ عقود من الزمن وحتى اليوم، كونها شاهدة على حضارة إنسانية بلغت مبلغا ليس له نظير، ورغم اندثار غالب مقتنيات وأشياء تلك الحضارة إلا ما كان ضد التعرية ومع ذلك ما زال علماء الآثار في حيرة إلى اليوم، ولكن قوم فرعون تركوها وفارقوا كل ذلك النعيم، بسبب ماذا؟ الظلم، فظلموا أنفسهم بأن صادروا حقوق الألوهية التي هي حق لله عز وجل وجعلوها في شخص فرعون” رمسيس الثاني” الذي ادعى الألوهية، فحق عليهم العذاب، وانتهت حياتهم بمأساة وجحيم ولعنة إلى يوم الدين، ولذا فإننا نجد كم تحتمل الآيات من معنى عظم التحسر والاستغراب، وتأتي بمعنى التهويل من عظم الفاجعة وكيف تركوا ورحلوا عن ذلك النعيم المقيم الذي حباهم الله به فلم يرعوها حق رعايتها ولم يمتثلوا لله الذي يخرج الحبء في السماوات والأرض، ولذا فمع ذلك النعيم لم يكن لينقصهم إلا التوحيد والإيمان بالإله العدل المبين، فكان يمكن أن يكون النعيم نعيمين في الدنيا والآخرة، غير أن الظلم يحيق بصاحبه في الدنيا قبل الأخرى، وشتان بين من فاز بالدارين ومن خسر الدارين..
ذات يوم ذهبت مع أحدهم في رحلة بسيطة وخاطفة مع زميل ووصلنا إلى قريته – منطقة شرق صنعاء – فكنت أتأمل برهبة في أزلية المكان وكأني في مكان عتيق وأزلي، هكذا بدت ملامح المكان منذ دخولي المنطقة، لا شعورياً أخذتني الرهبة والخوف وشدة التركيز في غرابة المكان وإذا به يشرح لي هذه الأرض لنا وهذه القطعة لنا وهذه لعمي وهذه لخالي، وبينما هو منهمك في السرد انهمكت في الربط بين كلامه وأزلية المكان فحدثت نفسي ” هو يفتخر بأن لديه وأهله هذه الأرض والقطع الزراعية، والله أعلم كم من الأمم والناس الذين توارثوها على مدى الأزمان والدول حتى وصلت إليهم اليوم والتي بدت جلية في أزلية المكان”، فصحيح أن طبيعة قريته الأزلية قد ذكرتني بهذا وجعلتني أحدِّث نفسي به، ولكن الأرض جميعها يعلم الله كم هي النفوس البشرية التي كانت قد تملكت وسكنت حيث نكون أنا وأنت وهي وهو وأولئك وهم ونحن، وأرض الله واسعة، قال تعالى:” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ”، وقال رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم :” كل الناس يدخلون الجنة إلا من أبى”، قالوا ومن يأبى يا رسول الله، قال ” من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى” صدق رسول الله، ولذا فمن عمل المعاصي ولم يطع الله ورسوله فقد ظلم نفسه، وظلم النفس هو أن تصادر حقوق نفسك في حين أن بيدك أن تملك زمام أمورك فلا تحيد عن مقصدها الحقيقي الذي لا يحيد عن أوامر من خلقك وبيده رزقك وحياتك وموتك وآخرتك، قال تعالى ” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عنها” صدق الله العظيم، هذا والله أعلم وهو أعلى وأجل وهو المستعان.. ولله عاقبة الأمور.

قد يعجبك ايضا