يحمل شهرُ رمضانَ للمسلمين نسائم الفجر والحق ، وعبقَ التاريخِ عندما بدأت أبوابُ السمواتِ تتفتحُ لترسلَ عطاءَ الحق لعبادِه ، حيث بدأت أولى قطراتِ الوحي المبارك تتنزلُ على قلبِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتعلنَ للناس كافة أن عهدَ
الرسالاتِ السماوية قد آذن بالتوقفِ عند خاتمة الرسالات وأعظمها قدرًا عند الله تعالى، إنها رسالةُ الإسلامِ التي جمعت الكمالاتِ من أطرافها: كمال في المعجزة، وكمال في الرسول ، وكمال في الشريعة والمنهاج.
ففي ليلة القدر من هذا الشهر الفضيل جاء أمين الوحي جبريل (عليه السلام) يحمل إلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) البشارة العظمى بأن الله تعالى قد اختاره ليكون خاتم أنبيائه ورسله، وأن شريعته هي خاتمة الشرائع، وأن معجزته هي المعجزة الوحيدة الخالدة، والتي سوف تبقى حية نابضة من بين المعجزات جميعًا وأن معجزات الأنبياء سوف تنتهي بانتهاء أزمنتها، وأن المعجزة الوحيدة التي جمعت الأزمنة، والأمكنة، والأعيان هي معجزة القرآن التي جمعت بين المعجزة الدالة على صدق الرسول المبلغ عن الله تعالى، والشرعة والمنهاج، وهكذا حفظت المعجزة بالحق سبحانه، وحفظت الشريعة والمنهاج بالمعجزة، بل وحفظت اللغة العربية بالمعجزة، لأنها وعاء القرآن الذي لا تناله الأيدي بالتغيير والتحريف (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
ولقد نزل به جبريل- عليه السلام- في ليلة عظيمة القدر عند الله تعالى، وعلا بها شأن رمضان من بين باقي شهور السنة، قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وما أدراك ما ليلة القدر(2) ليلة القدر خير من ألف شهر(3)».
وهي ليلة مباركة، وكثيرة العطاء، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فيها يفرق كل أمر حكيم ).
وهكذا نزلت أول آية ( اقرأ باسم ربك الذي حلق ..) من هذا الكتاب العظيم على النبي الكريم في هذا الشهر العظيم، وهكذا شهد شهر رمضان المبارك اتصال السماء بالأرض، وتنزل أمين الوحي بالنور والكتاب المبين، ليبزغ فجر الإسلام والإيمان بالله رب العالمين.
يقول الله سبحانه وتعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ).
ومن تلك اللحظة ارتبط القرآن الكريم ارتباطًا وثيقًا بشهر رمضان ليصبح شهر القرآن، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.
كما شهد شهر رمضان نزول الكتب السماوية الأخرى، فقد روي عن رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» – قال) أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لثلاث وعشرين خلت من رمضان. وقيل لسبع وعشرين خلت منه )).
ومن هذا الحديث، نستنتج أن نزول الرّسالات على هؤلاء الأنبياء في هذا الشَّهر الفضيل، بما جعله مميَّزاً ومشرَّفاً على جميع الشّهور عند الله تعالى، وقد أراد لعباده أن يكرّموه بالانفتاح على أجوائه، والإفادة من ساعاته ونهاراته ولياليه في طاعة الله تعالى، واستيعاب ما جاء في تعاليمه على لسان رسله الّذين بلغوا رسالات ربّهم، وجاهدوا في تبليغ الدّعوة وإعلاء كلمة الله وجعل كلمة الكفر هي السّفلى.
فعندما نعرف ما يعنيه نزول الوحي في هذا الشّهر وأهميّة رسالة السّماء لأهل الأرض، نتعرّف أكثر إلى الخصوصيّة الفريدة لزمن الصّوم الّذي هو مساحة رحبة للانعتاق من أغلال النّفس، إلى حيث أبواب السَّماء مفتوحه على قبول الدّعاء، والابتهال إلى الله بأن يرفعنا إليه بكلّ ما يقرّبنا منه.
هذا هو شهر رمضان المبارك بما يحفه من بركات، وما يحققه للصائمين من طهر وعفاف، فلنبادر إلى عمل الطاعات، ، ونعيش أعمارًا على أعمارنا ،.. إنه دورة مكثفة نستعين بها على ما سوف نواجه من صعوبات الحياة الدنيا لنكون على استعداد دائم ليوم الرحيل، والاستعداد للقاء رب العالمين .