تحتاج الدول من وقت إلى آخر إلى بعض الأموال والتي لا تكون متوفرة في خزينتها في وقت الحاجة إليها، وقد تكون تعانى من عجز نتيجة تدني أو تراجع وتناقص الموارد ما يدفعها إلى الاقتراض سواء داخلياً أو خارجياً ويرتبط مفهوم الدين العام بمفاهيم متعددة منها :
• الدولة مثلها مثل أي إنسان، بمعنى أن الدولة لديها نفقات حتمية ملتزمة بها ولديها موارد تعتمد عليها لتغطية تلك النفقات وكلما كانت أكبر من الموارد تضطر للاقتراض.
• قرض الدولة الداخلي عادة يكون بقيام الحكومات إصدار الأوراق المالية في سوق الأوراق المالية بغرض تحقيق التوازن المالي والنقدي أو تمويل مشاريع استثمارية ذات عوائد مالية للدولة تسمى (أذون خزانة -سندات حكومية )تعلن عنها الحكومة عبر طرحها بمزاد وتقوم بشرائها البنوك المحلية ومؤسسات التامين وصناديق التقاعد والقطاع العام والمختلط والخاص وجمهور المجتمع وباتت هذه الأدوات هامة جدا في الاقتصاد الحديث فبدونها لا يستطيع البنك المركزي في أي دولة ممارسة دوره التدخلي في الأسواق المالية كما باتت مؤشراً مهماً على مدى قوة الاقتصاد المحلي ويمكن توضيحها على النحو التالي:
• أذون الخزانة : هي أوراق مالية حكومية قصيرة الأجل يمكن أن يصل أجل استحقاقها من شهر أو شهرين ..وأكثر… حتى سنة كاملة ويتم إصدارها في السوق الأولية التي تعني سوقاً مالية يتم فيها تداول الأوراق المالية التي يتم إصدارها لأول مرة ,أما السوق الثانوية فهي السوق المالية التي يتم فيها تداول الأوراق المالية المصدرة مسبقاً , وأذون الخزانة لا تدفع الحكومة فائدة مقابلها بل تقوم ببيعها مخصوم عنها السعر الاسمى وعند الاستحقاق يحصل المستثمر على كامل قيمة الأذن وبالتالي المردود المالي يتمثل في الفرق بين القيمة عند الشراء والقيمة عند الاستحقاق أي أن الفائدة المستحقة كامل، في الأذن متضمنة سعر الإذن.، وتعتبر أذون الخزانة من أكثر الأوراق المالية الحكومية تداولاً وسيولة وطرق احتساب عوائدها تتم أولا: الانتظار حتى تاريخ استحقاقه, وبالتالي سوف يحصل المستثمر على الفرق بين المبلغ الذى دفعه للحكومة عند شرائه الأذن والقيمة الإسمية للاذن ,ثانياً: بيعه في السوق الثانوية قد يكون معدل خصم الأذن (الفرق بين القيمة الحقيقية والقيمة الاسمية للاذن ) أعلى من معدل الفائدة المتداول في السوق .
• السندات الحكومية : هي أوراق مالية حكومية متوسطة وطويلة الأجل تصدر بتاريخ استحقاق لا يقل عن سنة ولا يزيد عن ثلاثين سنة ,وتتميز السندات الحكومية بأنها اقل أنواع الأوراق المالية تعرضاً للمخاطر كونها مضمونة من قبل الدولة ولكن (يجب التحوط لمخاطر السندات المتمثل بمستويات سعر الفائدة والتضخم )كونها أداة مهمة بيد البنوك المركزية للقيام بالتدخل في السوق حتى يتحقق التوازن المستهدف في نسبة السيولة المتوفرة في السوق والتحكم بالتضخم المستهدف وسعر صرف العملة وحجم التداول النقدي داخل المجتمع.
كما تتميز السندات الحكومية عن أذون الخزانة بتعهد الحكومة عند إصدارها بدفع سلسلة من العوائد (الدفعات) النقدية للمستثمر خلال فترات زمنية محددة عادة (كل سنة) بالإضافة إلى رد المبلغ كاملاً إلى المستثمر عند نهاية فترة الاستحقاق, أما العوامل التي تؤثر على عوائد السندات في تتمثل في الآتي:
• الفترة الزمنية، فكلما كانت مدة الاستحقاق أطول كلما كان العائد أكبر, كون المخاطر أعلى كمخافة التآكل بسبب تتابع الصدمات الاقتصادية.
• طبيعة السند نفسه، فالسندات القابلة للاستدعاء يكون معدل العائد عليها أكبر من غيرها لأنها سندات تصدر بعلاوة تشجيعية للمستثمرين على شرائها .
والدَين الداخلي يتميز بأنه إذا استخدم بالشكل المناسب ،يحمل في طياته آثاراً إيجابية عبر تنشيط القطاعات الاقتصادية المختلفة والمساهمة خصوصاً في الاستثمارات الرأسمالية وتنمية رأس المال البشرى إضافة إلى أن عوائده التي تدفع على شكل فوائد يعود اثرها على المؤسسات المقرضة داخل الدولة فهو أيضاً لا يتسبب في استنزاف العملات الأجنبية ,كما أنه لا يقترن بإملاءات أو شروط الجهات المقرضة كما هو حال التمويل من خلال القروض الخارجية, ولا يعانى من مشكلة مخاطر أسعار الصرف وتقلباتها لأنه يسدد بالعملة المحلية ولكن ذلك كله لا ينبغي أن تحجب عنا مخاطر تفاقم المديونية الداخلية وأعبائها وتراكمها وترحيلها من عام إلى آخر دون تسديد الفوائد أو إعادة اصل القرض لظروف قاهرة كما هو حال الوضع القائم لدينا التي تترتب عليها آثار سلبية محتملة على مجمل الأداء الاقتصادي ,وكذا الآثار السلبية المحتملة على استثمارات القطاع الخاص فاقتراض الحكومة من البنوك خاصة عندما تتوسع بشكل غير مدروس يقلص مصادر التمويل المتاحة للقطاع الخاص من خلال التأثير على حجم السيولة, وهذا يعني حرمان الاقتصاد من مشاريع تولد فرص عمل إضافية وتساهم في رفع نسبة النمو لذلك فإن التعامل مع الدين الداخلي يفترض أن يتم في اطار واضح يخضع للمراجعات المستمرة التي تنفذ في مجال المالية العامة بما يضمن سلامة الإطار الكلى للاقتصاد لأن اقتصاد المستقبل ليس كما سبقه ، والالتفات إلى الآثار المتوقعة لأدوات الدين الداخلي على أسعار الفائدة وإمكانية تفضيل المؤسسات المالية والبنوك لإقراض الحكومة بدلا من القطاع الخاص باعتبار أن الدين الحكومي مضمون وليس له مخاطر مرتفعة مقارنة بالاستثمار الخاص, لذلك فإن التوازن بين مختلف أشكال الاقتراض لتحقيق الانسجام بين السياستين والإدارتين المالية والنقدية مطلوب لتحقيق التوازن بين القطاعين العام والخاص, وفي كل الأحوال لا بد من تفعيل أدوات الرقابة والمراجعة والتدقيق والمتابعة المستمرة للمديونية سواء كانت داخلية أو خارجية عندما تتجاوز نسبتها مؤشرات الحدود المسموح بها عالمياً مقارنة بمستويات معدل إجمالي الناتج المحلي وهذا يعني ضرورة إيقاف الاقتراض, وإذا عدنا إلى الإطار التشريعي فقد عرف القرار الجمهوري بالقانون رقم (19)لسنة1995م بشأن الدين العام الالتزامات الواجب على الحكومة الوفاء بها مقابل الأموال التي تقترضها من الأفراد والشخصيات الاعتبارية وقد شكل هذا القرار في حينه قاعدة لنقلة نوعية في إدارة الدين العام ,حيث تم توضيح الأغراض التي يقتصر عليها الاقتراض الحكومي بهدفين الأول تمويل المشاريع الاستثمارية ,الثاني سحب فائض السيولة النقدية وتوجيهها لأغراض المنفعة الاقتصادية العامة إضافة إلى تحديد آليات وإجراءات وصلاحيات الاقتراض, إلا انه لم يحصر الاقتراض الداخلي بالسندات الحكومية بما فيها أذون الخزانة, ولم يحظر الاقتراض الداخلي المباشر من البنوك التجارية والهيئات والصناديق وشركات القطاع العام والمختلط ,كما انه لم يشر إلى عدم جواز أن يزيد رصيد الرصيد القائم للدين العام الداخلي إلى نسبة من معدل إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية المقدرة عالمياً, ومنح القانون صلاحية كاملة للبنك المركزي نيابة عن الحكومة(وزارة المالية),(لعدم وجود سوق مالية )بمباشرة المسؤوليات المتعلقة بالدين العام بما في ذلك إصدار السندات ودفع عوائد الاستثمار السنوي المستحقة عليها والوفاء بقيمتها في مواعيد استحقاقها مقابل حصوله على رسوم إدارية.
لكن مشكلة الدين الداخلي بصفه خاصة والديون بصفة عامة تراكمها وقت الاستحقاق وترحيلها من سنة إلى أخرى سواء بأصل القرض أو فوائده والرسوم الأخرى تجعل الحكومة تخصص جزءاً كبيراً من أموالها لسداد الأقساط المترتبة عن القروض والأتعاب الإدارية من موازنتها السنوية ما يعني زيادة العبء على النفقات العامة.
إن الزيادة والارتفاع المستمرة لحجم ومؤشرات نسب الدين الداخلي والفوائد المترتبة عليها إذا تجاوزت الأرقام القياسية المقدرة عالميا مقارنة بإجمالي الناتج المحلي في كل المراحل والأوضاع تدفع أي دولة في اتجاه دفع البنك المركزي إما لطبع مزيد من النقود أو الاستمرار في الاقتراض ,وحتى لو كانت الفائدة صفرية كما هو الحال القائم لدينا ففي الحالة الأولى زيادة المعروض من النقود في السوق وفي الحالة الثانية تزاوج بين التضخم والانكماش وفي كل تلك الأوضاع يجعل الاقتصاد ضعيفاً وفي حالة من التذبذب وعدم الاستقرار.
لذا مطلوب العمل على تقليص الآثار السلبية التي قد تترتب على الارتفاع المفرط في المديونية الداخلية من خلال العمل على معالجة الأسباب المؤدية أصلا لهذا الارتفاع بما فيها نسب الفوائد وخصوصاً في أوضاع البلاد الحالية من الحرب والحصار وجائحة كورونا، والتي لا تخرج عادة عن نفقات والتزامات حتمية ومعالجة الضعف الشديد في أدوات وإجراءات تحصيل الإيرادات العامة وتسرب كثير من تلك الموارد خارج القنوات الرسمية لتكون قادرة على مواجهة حجم الإنفاق العام ورفع كفاءته, ومن الأهمية بمكان أن تتم إدارة الدين الداخلي في سياق متكامل بإدارة حصيفة وفق أهداف ورؤى واضحة وإعادة صياغة وحوكمة إدارتها تراعي وتعمل على إيجاد صيغة ومزيج ملائم للدين العام الداخلي ببناء بيئة تخادم ومصالح لتقليص أعباء المديونية مع المقرضين بمبدأ لا ضرر ولا ضرار ,وقد يكون من المفيد التذكير بضرورة الاستفادة من أدوات التمويل الأخرى بشكل أفضل ,كأداة تعزز سياسة وإدارة الدين العام ويمكن من خلالها توفير التمويل اللازم لمشاريع حيوية وإمكانيات استخدامها لإقامة مشاريع تنموية واستثمارية لها عوائد جيدة سواء في إطار الإنفاق العام أوفي إطار مشاريع الشراكة مع المقرضين.
* باحث في وزارة المالية