عواصم / وكالات
بعد أيام قليلة من الإفراج عن التقرير السريّ للاستخبارات الأمريكية بشأن اغتيال الصحافيّ السعوديّ المعروف، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بإسطنبول عام 2018، وقيام واشنطن الجمعة الماضي، بنشر تقرير خلص إلى أنّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أجاز عملية اغتيال خاشقجي، حثت الخارجية الأمريكية الأربعاء الماضي، مملكة آل سعود على اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تضمن عدم المساس بالشخصيات المعارضة وتفكيك قوات التدخل السريع التابعة لولي العهد شخصيّاً.
طلب أمريكيّ خجول
جاء المطلب الأمريكيّ بتفكيك قوات التدخل السريع، عقب فشل ابن سلمان في التنصل من جريمة تقطيع الصحافيّ السعوديّ وإثبات علاقته بجريمة القتل الشنيعة، خجولاً للغاية بالنسبة لجريمة تحولت إلى قضية رأي عام عالميّ، عدا عن كونها قضية شغلت كل دول العالم تقريباً، وأماطت اللثام عن حقيقة النظام الحاكم في بلاد الحرمين، بعد أن أثبت التقرير الأمريكيّ أنّ ابن سلمان أي الحاكم الفعليّ في السعودية، أجاز العملية في تركيا، لاعتقال أو قتل المعارض السعوديّ الشهير.
ورغم تحميل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المسؤولية عن مقتل جمال خاشقجي، لم تقم الإدارة الأمريكيّة بفرض أيّ عقوبات عليه، مثل ما تم فرضه على السعوديين الآخرين المتورطين في تلك الجريمة، لكن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، طالب السعودية بتفكيك المجموعة وتبني إصلاحات مؤسسيّة ونظاميّة ووضع ضوابط تضمن توقفاً كاملاً للأنشطة والعمليات ضد المعارضين.
وبعد فشل ابن سلمان في التنصل من تلك الجريمة وإثبات علاقته بذلك، اعتبرت واشنطن أنّ قتل جمال خاشقجي بطريقة وحشيّة منذ 28 شهراً يظل في نظرها سلوكاً غير مقبول، في تصريح مثير للسخريّة لا يوازي حجم الجريمة التي ارتكبها ابن الملك السعوديّ وولي عهده، في ظل الانتقادات اللاذعة التي تواجهها إدارة بايدن بسبب عدم فرضها عقوبات مباشرة على المسؤول الأول والأبرز عن تلك الجريمة.
وفي هذا الصدد، أوضح برايس أنّ فرض عقوبات مباشرة على ابن سلمان قد يقوض النفوذ الذي تتمتع به الولايات المتحدة على حليفتها المهمة في منطقة الشرق الأوسط، ما ينفي الادعاءات الكاذبة التي يقولها المسؤولون الأمريكيون بشكل عام، وبالذات التي صدرت عن الرئيس الأمريكيّ جو بايدن خلال فترة الانتخابات.
دليل آخر على نفاق واشنطن واتجاهها نحو الحلقة الأضعف لتبرير خطاياها الكارثيّة بحق الإنسانيّة وهو ما قاله المتحدث باسم الخارجية الأمريكيّة، حول أنّ هناك عقوبات مباشرة فرضتها واشنطن على معاوني ولي العهد السعودي ووحدة الأمن الخاضعة له، وأشار إلى أنّه لن يستعرض أسماء من يتم منعهم من دخول البلاد في المستقبل، قائلاً: “لا أعلم بوجود خطط لقدوم محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة في القريب العاجل”.
ومن الجدير بالذكر، أنّ الرئيس الأمريكيّ، جو بايدن، ادعى في وقت سابق، أنّ إدارته تسعى إلى مراجعة موقفها بشأن التحالف مع السعودية المستمر منذ عقود طويلة، زاعماً أنّ الولايات المتحدة سوف توقف دعم عملياتها العدائيّة في إطار الحرب السعودية التي تشنها على اليمن.
سياسة خبيثة
بيّن تقرير الاستخبارات الأمريكية حول اغتيال الصحافيّ السعوديّ المعروف، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاه بإسطنبول عام 2018، والذي أمر بايدن بالكشف عنه الجمعة المنصرم، بعد تصنيفه “تقريراً سريّاً” أثناء فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي منع نشره لسنوات، أن ولي العهد السعوديّ، محمد بن سلمان وافق على قتل خاشقجي، الصحافيّ الذي كان يعمل مع صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكيّة، عقب استدراجه إلى القنصلية السعودية في إسطنبول في تركيا حيث خُنق وقطعت جثته ولم يتم العثور عليها حتى اللحظة.
وفي هذا الشأن، فضح التقرير أنّ 7 من إجمالي 15 شخصاً هم أعضاء فريق الاغتيال الذي نفذ عملية تقطيع خاشقجي، ينتمون إلى وحدة “التدخل السريع” المخابراتيّة التي تعمل بأوامر مباشرة من ولي العهد، فيما فرضت واشنطن منذ أيام قليلة عقوبات على تلك القوات، تضمنت منع 76 سعودياً من دخول أراضي الولايات المتحدة وتجريم أيّ تعاملات أمريكيّة معهم، وذلك في إطار سياسة أمريكية تستهدف المسؤولين غير المباشرين الذين يضيقون الخناق على المعارضة وفق ما تدعي، في الوقت الذي لم تشمل فيه العقوبات المسؤول الأول عن قتل خاشقجي (محمد بن سلمان)، وفق التسريبات الأمريكيّة.
والمثير في الأمر، أنّ الولايات المتحدة التي أثقبت مسامعنا بالحريات وحقوق الإنسان، فضحت سياساتها الخبيثة والقذرة من خلال تصريحات مسؤوليها، ولدى سؤال مدير المكتب الإعلاميّ في البيت الأبيض، جينيفر بساكي، عن سبب عدم فرض الإدارة الأمريكية عقوبات مباشرة على بن سلمان، زعمت أنّ واشنطن لا تفرض عقوبات على زعماء أجانب، رغم أنّ هذه الدولة من أكثر الدول التي اتخذت إجراءات وعقوبات ضد كبار المسؤولين في دول تعتبرها معادية، وفي أكثر من مناسبة.
والمضحك في السياسة الأمريكيّة، أنّها أصبحت تتبع الأساليب البالية لبعض الدول العربيّة في الكذب على شعوبها، حيث نوهت واشنطن بأن ولي العهد السعوديّ أو ما يعرف عربيّاً وعالميّاً بـ “قاتل خاشقجي”، قد لا يفلت من العقاب إلى الأبد، وكأنّها تقول: “سوف نُطبق عدالة القانون عندما تحترق ورقة ابن سلمان وتنتهي مصالحنا معه”، والدليل الأكبر ما أضافته بساكي حول أنّ الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بالحق في اتخاذ أيّ إجراء في أيّ وقت وبأيّ طريقة تختارها، تاركة باب التهديد مشرعاً لاستنزاف السعودية إلى الحد الأقصى، وتمرير سياساتها مع ضمان كامل لموافقة مسبقة من الرياض.
نفي متوقع
أصدرت السعودية بياناً حول تقرير المخابرات الأمريكيّة في مقتل خاشقجي، نافية كل المعلومات التي وردت فيه، حيث لم يأت بيان الرياض بجديد، فأيّ قاتل ذاك الذي يعترف بجريمته وهو خارج القضبان ويتصرف بأهم بلد إسلاميّ على هواه ويقتل ويشرد ويدعم الإرهاب دون أي رادع أخلاقيّ أو إنسانيّ أو قانونيّ، حيث قالت حكومة ابن سلمان إنّها ترفض رفضاً قاطعاً تقييم تقرير المخابرات الأمريكية، لأنّه وكما يبدو ليس لديهم بالفعل أيّ شيء ليقولوه.
وكما هو متوقع من الجميع، قالت وزارة الخارجية السعوديّة، إن حكومة المملكة ترفض ما ورد في التقرير الأمريكيّ من استنتاجات مسيئة وغير صحيحة عن قيادة السعودية ولا يمكن قبولها بأيّ حال من الأحوال، وزعمت أنّ الجريمة ارتكبتها مجموعة تجاوزت كل الأنظمة وخالفت صلاحيات الأجهزة التي كانوا يعملون فيها، وقد تم اتخاذ جميع الإجراءات القضائيّة اللازمة للتحقيق معهم وتقديمهم للعدالة، حيث صدرت بحقهم أحكامُ قضائية نهائية رحبت بها أسرة خاشقجي، وفق وكالة الأنباء السعودية.
وحينها، وصفت خطيبة خاشقجي، المواطنة التركيّة خديجة جنكيز، الأحكام النهائيّة التي صدرت عن القضاء السعوديّ بالـ “مهزلة”، متهمة سلطات البلاد بإغلاق الملف دون الكشف عن هويّة المخططين الفعليين للجريمة، مؤكّدة أنّ المجتمع الدوليّ لن يرضى بتلك الأحكام التي تهدف إلى إغلاق ملف الاغتيال دون أن يعرف العالم من هو المسؤول الحقيقيّ عن تلك الجريمة “ليُعاقب في الحال”.
وفي ذلك الوقت، أشارت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة الأمم المتحدة، إلى أنّ المحاكمة التي أجرتها الرياض في تلك القضية، افتقرت للشرعيّة والمحاسبة، موضحة أنّ القضية شابها خلل في تحديد المسؤولين الحقيقيين عن الجريمة، واعتبرت مقررة الأمم المتحدة المعنيّة بحالات الإعدام خارج القضاء، أغنيس كالامار، أنّ الأحكام الصادرة عن السلطات السعودية، بلا شرعية قانونيّة أو أخلاقيّة، لأنّها جرت بعد عمليّة قضائيّة ليس فيها أيّ نزاهة أو عدالة أو شفافيّة.
كذلك، بيّنت كالامار أنّه تم الحكم بالسجن على 5 مغتالين مرتزقة مدة 20 عاماً، إلا أنّ المسؤولين رفيعي المستوى، الذين يقفون وراء إعدام خاشقجي لا يزالون أحراراً، منوهة بأنّه لم يتم التطرق إلى اسم ولي العهد السعوديّ، الأمير محمد بن سلمان، وكانت المفوضية قد أعدت تقريراً خاصاً بطلب من الأمين العام للأمّم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قبل عام تقريباً، حول قضية اغتيال خاشقجي، و توصلت إلى استنتاج يقول إنّ هناك أدلة كافيّة على ارتباط وليّ العهد السعوديّ بتلك الجريمة البشعة.
إضافة إلى ذلك، أدانت منظمة “أطباء بلا حدود” الأحكام السعوديّة، ووفق وكالة الصحافة الفرنسيّة، أشار الأمين العام للمنظمة، كريستوف دولوار، أنّ تلك المحاكمة التي غاب عنها الجمهور والصحفيون لم تسمح لأحد بمعرفة الحقيقة، ولا بكشف ما حصل في مسرح الجريمة أيّ القنصليّة السعوديّة باسطنبول، ومن أصدر الأمر بارتكاب جريمة الدولة تلك.
وتشير الوقائع، إلى أنّ الأحكام النهائية للسلطات السعوديّة جاءت بعدما أعلن أبناء القتيل خاشقجي عن عفوهم عن قتلة والدهم في مايو/ آيار المنصرم، بعد ضغوط أو إغراءات من قبل محمد بن سلمان، ووفق مواقع إخباريّة.
وتقود أنقرة تحركات دوليّة مختلفة للحيلولة دون إغلاق القضية قبل تحقيق العدالة ومحاكمة المسؤولين عن تلك الجريمة التي نُفذت على أراضيها، ومطلع يوليو/تموز الماضي، بدأت محكمة تركيّة في إسطنبول محاكمة غيابيّة لعشرين سعودياً متهماً باغتيال خاشقجي، بينهم النائب السابق لرئيس الاستخبارات، أحمد عسيري، والمستشار السابق في الديوان الملكيّ، سعود القحطاني، المقربان من ولي العهد، وقررت المحكمة عقد الجلسة الثانيّة في 24 نوفمبر/ تشرين الثانيّ الجاري، بعد الموافقة على لائحة اتهام قدمتها خطيبة خاشقجي، تطال 20 سعودياً، بتهم التعذيب الوحشيّ والقتل والتحريض.
شرعية مفقودة
تشير خطيبة جمال خاشقجي، خديجة جنكيز، إلى إنّ ولي العهد السعوديّ فقد شرعيته عقب نشر هذا التقرير المخابراتيّ الأمريكي، وفي تغريدة لها على تويتر، شددت على ضرورة أن يعاقب ولي العهد، الذي أمر بقتل هذا الشخص البريء بسرعة، مؤكّدة أنّ “الهدف من عقابه ليس تحقيق العدالة التي نسعى إلى إنجازها لخاشقجي، بل لتفادي وقوع جرائم مماثلة في المستقبل”.
وفي هذا الخصوص، لقيت تغريدة خطيبة جمال خاشقجي صدى لدى المقررة الخاصة للأمم المتحدة لشؤون الإعدام خارج نطاق القانون، والإعدام دون محاكمة، والإعدام التعسفيّ، أغنيس كالامارد، التي أوضحت أنّ الأمر بالغ التعقيد، والإقرار بذنب شخص ما ثم إخباره بأنه لن يتخذ ضده أي إجراء، داعية الحكومة الأمريكية إلى اتخاذ إجراءات بناء على ما توصلت إليه من نتائج معلنة لفرض عقوبات ضد ولي العهد السعوديّ لمحاسبته على جريمته.
خلاصة القول، لم تؤتِ شعارات بايدن المناهضة للسعودية خلال الانتخابات أوكلها، حيث إنّ التوقعات العالميّة لتغيير السياسة الأمريكية تجاه السعودية كانت كبيرة جداً، لكن الجميع ومن بينهم الأمريكيين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة، بعد أن قامت الإدارة الأمريكيّة بحصر هذه القضيّة الهامة في الإفراج عن عدة سجناء ودعم حقوقهم بالإضافة إلى فرض عقوبات لا تسمن ولا تغني من جوع، في حين أنّ هذا الملف السعوديّ المُشين، أكثر دمويّة بعشرات المرات من هذه الحالات، الشيء الذي أماط اللثام عن نفاق وكذب الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة، صاحبة الهم الوحيد وهو كم سنجني من السعوديّة، الشريك الأمنيّ والمشتري البارز للأسلحة الغربيّة؟