حاجتنا إلى العقل وثقافة الحوار
عبدالرحمن مراد
كعادتنا مع كل مناسبة وطنية، يأتي خطابنا الإعلامي وخطابنا السياسي مندداً بالماضي وبأوجاع الماضي ويتناسى ذلك الخطاب سواءً منه الإعلامي أو السياسي أن ذلك الماضي ما يزال يعيش لحظتنا الحضارية ولم نتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، وكأن ذلك الماضي مبرراً لكل أوجاع الحاضر ومآسيه وقد أضحى شماعة نعلق عليها كل الأخطاء ونعلق عجزنا عن تجاوزه باستحضاره في كل شيء.
لم يعد الماضي مسؤولاً عمَّا تقترفه أيادينا في حق هذا الوطن أو في حق مستقبله، ذلك لأن الحاضر من صنع أيادينا وليس من صنع أحد سوانا وقد ذهب الماضي بكل مساوئه ومحاسنه وليس من الحكمة في شيء أن نقف عند أطلاله ودمنه ونبكي حظنا المتعثر فيه، ولكن علينا أن نبكي حظنا المتعثر في حاضرنا وعلينا أن نقف لحظة تأمَّل حتى نعي هذا الحاضر ونتجاوزه إلى المستقبل.
لقد ذهب الزمن الثوري بكل براكينه ودمويته وقمعيته وعقليته البوليسية، وجاء زمن آخر الانتصار فيه لقيم الخير والحق والعدل والسلام، فنحن مطالبون في لحظتنا الحضارية الراهنة أن نعي هذه القيم وأن نجسدها في واقعنا وخطابنا وأخلاقنا وأن نفلسفها في تطلعاتنا لا أن نجتر الماضي ونحاكم ظلاله فينا.
إن القيمة المثلى للثورة في تجاوز مبررات قيامها لا في التشدق بها واستمرارها في جلّ الممارسات التي تحدث في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ذلك لأنّ الطغيان والتسلط، يعنيان الاستمرار وانتفاء القيمة الحقيقية للثورة.
لقد أصبح من الضرورة بمكان أن نعي اللحظة ومستجداتها ونتجاوز لغة الماضي وخطاب الماضي وظلال الماضي ومثل ذلك ليس جديداً في فكرنا ومعتقدنا، يقول ربنا جلَّ وعلا “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (سورة البقرة آية رقم 134).
إذن قضيتنا قضية حال وحاضر ومستقبل وسؤالنا عن هذا الحاضر، فقد ذهب الماضي وذهب الفاعلون فيه ولنا اللحظة التي نحن فيها والتي يجب أن نحاكمها وفق معطياتها وتجلياتها بالمنطق والحوار والنضال السلمي الذي ينشد الغد الرغيد من بين أوجاع اللحظة.
إن ما يحدث في واقعنا وفي جلّ خطاباتنا ليس أكثر من هروب من إشكالات اللحظة التي نضعها نحن، تضليلاً لجوهر الحقائق وهروباً من المواجهة الصادقة والموضوعية والمنطقية لها، ذلك لأنَّ لعن الماضي لا يبرر مطلقاً أخطاء الحاضر، وليس من المنطق في شيء أن يظل مسؤولاً ومحاسباً على قضايا لم يكن فاعلاً فيها ولكنها وجدت هوىً في أنفسنا فكان استمرارها رغبة فيها لا كراهية لها.
إن لغة التسامح التي نقول بها ويقول بها قرآننا، تفرض علينا أن نقف عند حاضرنا نشداناً لمستقبلنا فكل أخطاء الماضي يجب أن تكون موضوعة تحت الأقدام كما قال بذلك النبي الأعظم في خطبة الوداع الذي كان يشرع لزمنه وللأزمنة القادمة بكل أطيافها وتجلياتها .
وبقليل من التأمّل – للعبرة والتجاوز – نجد أنَّ سياسة التوازنات التي انتهجتها سلطة 17 يوليو 78م هي وراء كل أزمات الوطن وقلاقله وحروبه الداخلية، وتردي أوضاعه الاقتصادية وتنافر نسيجه الاجتماعي، وتشوش منهجه الثقافي وغياب الشعور بالهوية والانتماء , كما شكلت تلك السياسة مناخاً ملائماً لشيوع الفساد وتعدده في مناحي الحياة , حتى وصلنا إلى درجة الانهيار في منظومة القيم الأخلاقية والتي كانت شيئاً مقدساً في أعرافنا , ولنأخذ مثلا على ذلك حوادث الاختطافات التي شوهت المجتمع والدولة أمام الرأي العام الدولي مطلع الألفية، وقد ساهم ذلك في انقسام الشخصية والتباس المفهوم وانهيار القيم، وقد أضحت ثقافة التبرير هي السائدة فتعاظم الخطر وغاب النقد الموضوعي فأصبحت الحياة صراعاً غير محمود العواقب نجني اليوم ثماره في واقعنا المعيش .
نحن لا نقول بشكل مطلق بسوداوية تلك السلطة، فلها من المحامد ما يجب الاستفادة منه وعليها من المآخذ ما يجب الالتفات إليه وفهمه حتى نتمكن من تجاوزه وتقويم إعوجاجه، وقد قيل إنَّ النار من مستصغر الشرر.
علينا أن ندرك أنَّ كل شيء في هذا الوجود يمر بمراحل إلى أنْ يصل إلى فقدان القدرة على التعامل مع مستجدات الزمن ومعطياته، وعلينا أن ندرك مثل هذه الحقيقة التي ربما تكون صادمة لكنها جوهرية وحقيقية.
وعلى ضوء ذلك يمكنني القول إنَّ إشكالات الوطن وأزماته الخانقة وصراعاته وحروبه تكمن في ذات السلطة، وليس في الماضي كما يذهب إلى ذلك خطابنا السياسي والإعلامي، ونحن في مرحلة وزمن حاجتنا فيه إلى العقل أكثر من أي شيء سواه وإلى ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر أكثر من ثقافة التبرير والانتقاص والأنا المضللة.
إن من طبيعة السلطة أن تفسد كل شيء والسلطة المطلقة أقرب إلى الانحلال والفساد، لأنها تنغلق عن الرأي العام وتعمى عن حركة الواقع من حولها، فتفعل ما تريد لا ما يجب أن تفعل، لأنها تنفذ كل شيء باسم التسلط لا بضرورة التنفيذ ودواعي الضرورة الوطنية”.
وقد يؤدي اليأس إلى القنوع حتى من المحاولة فيوهم الشعب نفسه أنه مقتنع بما يجد.. لكن هذا الإيهام يُعبر عن الرفض بطريقة عكسية” والطريقة العكسية رأينا تموجها في عام 2011م وتجدد نشاطها عام 2014م ولذلك فدراسة حركة الواقع من الضرورة بالمكان الذي يجعلنا نتعظ ثم لا نكرر أخطاء الماضي وهي أخطاء رفضناها في قرارة أنفسنا في سالف الأيام وهي محل رفض اليوم وغدا.