اليمن الذي يقاوم رياح الفناء
عبد الرحمن مراد
تابعت عن طريق الصدفة خطابا إعلاميا وتحريضيا تستند إليه بعض القوى في قنواتها الإعلامية والفضائية التي تبث من خارج اليمن، وقد لاحظت البون الشاسع بين خطابها بالأمس وخطابها اليوم، وكأنها تعيد إنتاج نفسها بنفس الآلية والسلوك ولا تستفيد من عوامل التاريخ ولا من التجليات الحضارية الجديدة، وهي في ذاتها تعيش غبشاً رؤيوياً ربما أعمى بصيرتها عن إدراك حقائق التاريخ .
ولعلي لا أقول جزافاً حين أدعى أن علي سالم البيض كان البطل الأسطوري الذي حمل فراشات أحلامنا في كونه وطار بنا في أجواء الحقيقة، وأخذ بنواصي وجداننا، حين أراد أن يكون لليمن الجديد المولود – صبيحة 22 مايو 90م – مشروع حضاري يجتاز به ومن خلاله عتبات القرن الواحد والعشرين كما رسمته وثيقة العهد والاتفاق التي تم التوقيع عليها في الأردن .. لكن نكوصه ونكسة إرادته وقلة حيلته كانت سبباً مباشرا فيما آلت إليه اليمن في واقعها الحالي من غياب المشروع، وتردي الأوضاع المعيشية، وغياب الهوية وتشظيها وانكسار الحلم على صخرة الماضي الذي أعاد إنتاج نفسه بعد 7 /7 /94م.
إذن.. علي سالم البيض يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية التاريخية التي عقد لواءها في ناصيته جموع غفيرة من أبناء وجماهير هذا الشعب من أقصاه إلى أقصاه، فالثابت أن الجماهير الغفيرة في عموم الوطن شماله أو جنوبه قد أحاطته بحنانها وتأييدها ولم يخذلها منه إلا إعلانه قرار الانفصال الذي كان سبباً مباشراً في خيبة أملها فيه .
والغريب أن الرجل حين بدأت الجماهير ترى فيه المخلٍّص من وجع اللحظة الحضارية ومآسيها – حين نشوء ما يسمى بالقضية الجنوبية مطلع الألفية – أعاد ذات الكرَّة لكن هذه المرة بما هو أدهى وأمر بجرأته على إلغاء يمنية اليمن والقفز على كل حقائق التاريخ بتهويم الهوية الوطنية والتاريخية والثقافية والعمل على التجزئة والتشظي، وهو بذلك يؤكد أنه ليس رجل المرحلة، فقد تجاوزته المراحل، لكنه بمثل ذلك أعاق القضية اليمنية على وجه العموم والجنوبية على وجه الخصوص، فهو لم يعد يملك مشروعاً حضاريا متجرداً من كل انفعالات الذات وتداخلاتها مع القضية .
لا أدري لماذا أصرَّ علي سالم البيض على تحطيم صورة البطل الأسطوري في أذهاننا؟ فإن كنا قد غفرنا له إعلانه الانفصال وتخليه عن مشروع دولة الوحدة الذي كنا نحلم به فلن نبرر له دعوته إلى سلخ اليمن من يمنيته، وإعادة إنتاج مشروع رابطة أبناء الجنوب بكل تفاصيله وتجلياته التي كان عليها في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وهو يدرك أن حظ هذا المشروع اليوم ليس بأوفر من حظه بالأمس، إلا إذا كان يريد الانتقام من اليمن عن طريق التغريب والتيه، وهو حال وصل إليه جنوب اليمن اليوم ويترك تبعاته على شماله فقد مهَّد للقوى المستعمرة الوصول إلى ثروات اليمن ومنافذه ففرضت سيطرتها على كل شيء.
لا أظن أن عاقلاً يقبل الطعن في هويته الحضارية والتاريخية، وعلى أولئك القائلين به مراجعة أنفسهم فاليمن يكبر بانتمائنا إليه، وليس لنا إلا الهوان والصَّغار والذلة إذا انسلخنا عنه لأنه متجذر في العمق الحضاري والتاريخي للأمة، وهو يتداخل في المكون العام لنا.
لا نختلف مع أحد حول وجود اختلالات في النسق العام ووجود فساد وتسلط وطغيان ومصادرة حقوق .. وليس من العدل أن نقول إن هذه المظاهر كانت موجودة في أبين والضالع دون حجة وصعدة أو عدن ولحج دون الحديدة وتعز.. الكل كان بين أنياب التمساح الذي كان يلتهم كل شيء في هذا الوطن وما يزال ويحولها إلى نفايات، ومن اطلع على تقرير لجنة العقوبات في مجلس الأمن يدرك ذلك .
إذن القضية أو الإشكالية التي يعاني منها الوطن وتركتها ظلال الأفعال والانفعالات، هي قضية تشظي وانسلاخ والتباس في الانتماء والهوية , وقضية ظلم واستبداد ونهب ثروات الوطن وتبديد مقدراته وفراغ فكري واجتماعي وسياسي وروحي، وفساد وضياع حقوق، واختلال قيم وغياب للمشروع الوحدوي الناهض وغياب الحامل السياسي لدولة الوحدة .
فمشكلة الإنسان هي في مظاهر الظلم والفساد ونهب الثروات وتبديد المال العام وإهدار مقدرات الوطن – وهي إشكالية كبيرة ربما أسفر تقرير لجنة العقوبات في مجلس الأمن عن بعض مظاهرها في واقع حال حكومة المرتزقة وهي تمتد من الماضي إلى اليوم – وغياب جوهر الإنسان من جل الإجراءات والسياسات والغايات الإجرائية والأخلاقية .. مشكلة الإنسان اليمني في الفراغ الروحي والفكري وغياب المشروع الحضاري الوحدوي الذي ينتصر لقيم النماء والخير والعدل، ولا نظن أن الهوية الوطنية – قضية قابلة للجدل أو الحوار لأنها من القضايا الفطرية وهي في عمق النسيج الثقافي للإنسان اليمني والعربي على وجه العموم.
نخلص إلى القول إن أي مشروع لا يهدف إلى النماء ولا يهدف إلى الخلاص ولا يراعي اليمن مكاناً جغرافياً وإنساناً وحضارة وتاريخاً وثقافة فهو مردود على أهله، وقد دلت التجارب على فشله.. وتبقى اليمن ذلك الشموخ الذي يرفرف في سماء الروح.