*وجدي الأهدل
كثيراً ما نسمع ثناءً على الأدب بأنه قد تنبأ بهذا الأمر أو ذاك، وهناك من يبحث بجدية وراء مثل هذه التنبؤات، فيفتش بين السطور باحثاً عن تشابهات بين خيال الشاعر أو الكاتب وبين وقائع الحياة.. نعم إن هذا قد يحدث، ويحدث بكثرة لدى نفر محدودٍ من المبدعين، كالشاعر عبدالله البردوني، ولكن هذا ليس تنبؤاً، ولا علاقة له مطلقاً بالتنجيم، بل هو أمر آخر تميز به الأدب ورفعه إلى الذروة العليا من النشاط الذهني البشري.. وقد سُئل الشاعر البردوني، فقيل له “أتمارس التنجيم يا أستاذ؟”. فكان جوابه “لا.. ولكنني أربط الأحداث بعضها ببعض فأستنتج ما سيكون”.
إن الأدب ليس أداة تنبؤ، ولكنه أداة تأويل، وإذا فهمناه على هذا النحو، فإنه من المحتم أن يكون عامل إنقاذ لملايين الأرواح، بشرط أن نأخذ الأدب على محمل الجد، وأن نعده بمثابة صيحة تحذير، إنذار أخير، كلمة حق قيلت في توقيت صحيح، قبل فوات الأوان، وقبل حدوث الكارثة التي كان بالإمكان العمل على تفاديها، أو الحد من أضرارها إلى الحد الأدنى.
ماذا يعني أن الأدب أداة تأويل؟ لتقريب المسألة، سوف نستشهد بقصة تاريخية معروفة، وهي قصة النبي يوسف عليه السلام الذي أنقذ ملايين الأرواح في مصر وما حولها من الموت جوعاً بفضل قدرته الصحيحة على تأويل الأحلام، لم يكن النبي يوسف عليه السلام متنبئاً ولا منجماً، ولكنه امتلك منهجاً في ” التأويل” مكّنه من كشف المستقبل، وبالتالي إقناع الدولة بإعداد العدة لمواجهة ظاهرة جفاف نهر النيل بتخزين الحبوب، وتأمين مصادر أخرى للمياه العذبة.
النبي يوسف عليه السلام حاز موهبة متطورة في تأويل الأحلام، وعلى غراره ينبغي أن يمتلك الأدباء موهبة متطورة في تأويل “الواقع”.
الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية كلها أدوات لتأويل “الواقع”، لكن كما أن مفسري الأحلام لا يستوون، فكذلك الأدباء ليسوا جميعهم بارعين في تأويل “الواقع” واستقراء الآتي.
يقف الروائي الروسي (فيودور دوستويفسكي) في أعلى السلم بجدارة، فهو لم يتمكن فقط من تأويل الواقع – لأن الواقع متغير ومحدود- بل تجاوزه إلى تأويل الصيغة التاريخية للحياة البشرية على مر العصور.. ونجد ذلك جلياً في روايته “الشياطين” التي يظهر فيها شاب لديه كاريزما هائلة تجاه الناس القريبين منه، لدرجة أنه يستطيع إقناعهم بالالتفاف حوله بغض النظر عن الفكرة التي يؤمن بها.. إنه سحر الشخصية، وليس سحر الفكرة، وتأثير الفرد على الجماهير.. كتب (دوستويفسكي) رواية “الشياطين” عام 1872م واستنتج أن الثورة الاشتراكية قادمة، وهو ما حدث فعلاً في عام 1917م بقيام الثورة البلشفية.
الرواية الجيدة هي التي تقوم بربط الأحداث بعضها ببعض واستنتاج ما سيحدث في المستقبل. الرواية أيضاً هي شكل من أشكال الحلم، ونافذة يطل منها القراء على الحركة التاريخية التي هم سائرون باتجاهها.
تبرز عربياً رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي السوداني (الطيب صالح) بوصفها تأويلاً للأزمة العميقة بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية المسيحية، وهذا التأويل العبقري ما يزال ساري المفعول، ونموذج “مصطفى سعيد” هو رمز لهذه العلاقة الصعبة والمعقدة.
إذا لم تقم الرواية بتأويل “الواقع” فإنها مجرد ثرثرة مملة، ولا يمكن أبداً أن تحمل صفة “الأدبية”.