المحاسبة الحكومية.. بين الأساس النقدي وأساس الاستحقاق
أحمد ماجد الجمال
يدور النقاش أيهما أجدى بالاستخدام الأساس النقدي أم أساس الاستحقاق وكيف يتم تقييمهما ,في البداية تجدر الإشارة إلى أن الموازنة العامة للدولة هي حجر الأساس في النظام المحاسبي الحكومي المعمول به الذي يهدف في المقام الأول إلى تحقيق الرقابة المالية البحتة لتحصيل الإيرادات والإنفاق الحكومي لكنه لا يهدف إلى الربح أو المساءلة عن العمليات أو عن قياس كفاءة الأداء ذلك بحسب طبيعته، ومنذ بداية العمل بهذا النظام إلى وقتنا الحاضر لم يطرأ على هذا الهدف أو المهمة أي تغيير رغم المحاولات الجادة والكبيرة لتطويره في مجال قياس كفاءة الأداء وحجم التكاليف في تحصيل الموارد وعلى المستوى العالمي لم يتمكن من قياس كفاءة الأداء بنفس درجة الدقة التي تمكن بها نظام المحاسبة المالية قياسه عند استخدامه والعمل به في قطاع الأعمال التي تظهر الأداء المالي للمنشأة أو الشركة ووضعها الحالي، وهناك العديد من القواعد التي تستخدمها بطريقة صحيحة وهي طريقة النقدية والاستحقاق في قيد أي إجراء محاسبي ,وتعد التقارير الحمائية المالية وفقاً لحساب الخصوم والأصول وحقوق الملكية وبيانات المصروفات والإيرادات ومن تلخيصها في قوائم مثل الميزانية العمومية لأنها تهتم بالربح والخسارة والمتاجرة ،ومن المؤكد أن المحاسبة الحكومية ليست بمثل المحاسبة المالية والدول ليست كما الشركات التي لها هدف الربح , لأن المحاسبة المالية تتمتع بالشخصية المعنوية للمنشأة على عكس المحاسبة الحكومية التي تهتم بالرقابة المالية والقانونية للإيرادات والمصروفات ويرتكز كل مهامها وأعمالها على الاعتماد المالي أو المخصصات المالية.
الموازنة العامة تحتوي على المبالغ المقدرة لكل من الإيرادات والنفقات الحكومية المتوقعة في حالة المحاسبة الحكومية فان الدولة تقوم بتقدير نفقاتها ثم تقوم بتقدير الموارد اللازمة لتمويل تلك النفقات بمعنى أنها تحدد نفقاتها ثم بعد تحدد الموارد اللازمة لتغطية هذه النفقات والسبب يرجع إلى أن الدولة أكثر قدرة على التحكم في مواردها وذلك على عكس الوحدة الاقتصادية أو الشركة أو المنشأة التي تستخدم المحاسبة المالية من خلال تحديد الموارد اللازمة لتمويل نشاطها الاقتصادي (مصادر الأموال أولا ثم بعد ذلك تحدد أوجه النشاط الذي تقوم به) وكون الموازنة العامة أو الإطار العام للإنفاق تحتوي على المبالغ المقدرة لكل من الإيرادات والنفقات الحكومية المتوقعة والتي على أساسها تتم عملية الرقابة والمتابعة المالية وبالتالي فان تبويب الموازنة وتقدير بياناتها على أسس سليمة يساعد في تحقيق هذا الهدف الأساسي للمحاسبة الحكومية، إلا وهو تحقيق الرقابة المالية وليس الرقابة على كفاءة الأداء هذه الحقيقة أصبحت من بديهيات المحاسبة الحكومية لهذا نتساءل أولا عن ما إذا كان من الأهمية بمكان استخدام أساس الاستحقاق أم الأساس النقدي متعلق بدورهما في قياس كفاءة الأداء، فالدلائل تشير إلى أنه لا أساس للإستحقاق له أبعاد أفضل عن نظيرة الأساس النقدي كعلاقة بقياس كفاءة الأداء وعلى سبيل المثال تضخيم الإيرادات أو تخفيض حجم الإنفاق الفعلي …وهكذا.
من المعروف أن الأساس النقدي المطبق حاليا الذي يعكس الإيرادات والنفقات التي تتحقق عند تحصيلها وصرفها بغض النظر عن الفترة المحاسبية التي تخص كلا منهما سواء كان متعلقا بفترة سابقة أو لاحقة يعتمد على حركة النقد من تحصيل أو سداد فيتم قيد الإيرادات عن تحصيلها بغض النظر عن الفترة المتحققة عنها وعن مصدرها من تأدية خدمات أو ضرائب او رسوم أو إتاوات أو فوائض نشاط القطاع العام والمختلط أو بيع ممتلكات أو الغرامات…..إلخ وقيد النفقات عند دفعها وسدادها بغض النظر عن الفترة المستحقة عنها ويعتبر كل ما يتم دفعه نفقة سواء كرواتب وأجور ومصروفات تشغيلية مختلفة أو شراء أصول ثابتة من مبان وأراض ومعدات وأجهزة … ولكن تقيم نفسها مقارنة بسنوات سابقة أو مع جهات أخرى مشابهة وان جاء تطبيق الأساس النقدي لكونه يتميز بالسهولة والبساطة في الفهم والاستيعاب لكنه في نفس الوقت له عيوب منها لا يوفر صورة كافية للواقع الفعلي للعمليات المالية ولا يظهر قوائمها المالية (الحسابات الختامية) الأصول التي تملكها والالتزامات التي عليها عند إعدادها وإيراداتها ومصروفاتها الحقيقية عن الفترة المعدة عنها وبالتالي لا تعبر بعدل عن مركزها المالي ونتائج أعمالها ويسهم في إظهار نتائج مضللة عن إيرادات ونفقات الوحدات الحكومية كما انه لا يظهر كامل المعلومات عن الموارد المطلوبة لتمويل المشاريع والخدمات ولا يصور المركز المالي بشكل صحيح حيث يتجاهل رصد الإيرادات المستحقة والنفقات المصروفة مقدما وثبت قصوره في تكوين نظام رقابة داخلية على الأصول والخصوم غير النقدية مما يؤدي إلى صعوبة حصرها ومتابعتها لأن الجرد والتسويات الجردية معناها إداري تنظيمي ليس إلا للتحقق من سلامتها ووجودها وهنا تظهر ثغرات كبيرة وإهدار لتلك الأصول والمثال على ذلك انه إذا لو طلب من أي إدارة مالية حكومية تستخدم الأساس النقدي كأساس للمحاسبة أن تحصر كافة مديونياتها المستقبلية أو أصولها في أي لحظة لاقتضى الأمر وقتا طويلا وقد لا تستطيع إكمال العملية بمهنية طالما الأحداث المالية غير النقدية لا يتم قياسها حال حدوثها ولا يساعد على إظهار الممتلكات وتقييمها والرقابة عليها كما انه لا يظهر بشكل دقيق ما على الدولة من التزامات مستحقة ولكل وزارة ومصلحة على حدة ولا يمكن من معرفة حجم تكاليف الخدمات ,كما لا يمكن معرفة جدوى تشغيل مشاريع اقتصادية أو فائدة تخصيصها بسبب عدم استعمال قياس الأداء أو تغطية نفقاتها ,بينما مؤيدو تطبيق أساس الاستحقاق المحاسبي يؤكدون أنه يعتمد على فلسفة مطابقة ومقارنة الجهد المبذول بالمنافع المتحققة بمعزل تام عن زمان تدفقاتها النقدية.
يشيرون إلى أنه سيساعد على توفير معلومات متكاملة ومكتملة ودقيقة وملائمة التوقيت عن المركز المالي ونتائج الأنشطة والبرامج والمشاريع والتدفقات النقدية وتعزيز الرقابة على الإيرادات والنفقات وتوفير قاعدة بيانات شاملة للأصول والالتزامات, وسجلات محاسبية أدق وتقوم بتطوير الإدارات المالية في الجهات الحكومية ودعم اتخاذ القرار ,ففي ظل استخدام أساس الاستحقاق سيتم تحميل السنة المالية بكافة النفقات والإيرادات المحققة بغض النظر عن موعد تحصيلها أو صرفها الفعلي، أما المصروفات التي تستفيد منه أكثر من سنة فيتم قيده ضمن أصول الوحدة وتخفيض مبلغه بما يخص السنة موضوع التسجيل وتحميل مبلغ التخفيض على نفقات السنة وسيمكن هذا الأساس الدوائر الحكومية مقابلة الإيرادات مع النفقات وإجراء مختلف أنواع المقارنة والمطابقة المحاسبية بين السنوات المختلفة فهو يظهر نتائج الأعمال والمركز المالي بصورة واقعية وحقيقية ويساعد على تقييم الأداء المالي للدائرة الحكومية بدقة وشمولية عن طريق حساب تكلفة وحدة النشاط أو الخدمة المؤداة والذي سيساهم في ترشيد النفقات وتقليل التكلفة وتعظيم وحصر الإيرادات وضبط والنفقات وإثباتها بحسابات وسيطة تقفل فعلياً نهاية العام وتقوم بضبط نظام الرقابة والمراجعة الداخلي وخلق حسابات جديدة والمتابعة المستمرة على السيولة النقدية لتفادي حدوث أي خلل لوجود بيانات محاسبية مستقبلية قد لا يتم حدوثها إنفاقا أو تحصيلا بمعنى الدقة في عملية تحميل النفقات والإيرادات للسنة المالية والمراجعة الموضوعية لها لتفادي أي تضخيم في قيمة المصاريف المستحقة أو تخفيف من قيمة الإيرادات المستحقة وغير المحصلة والمنتقدون لنظام الاستحقاق يشيرون إلى أهم عيوبه أنه لا بد من إلحاق مدة إضافية بالسنة المالية مما يؤدي إلى بقاء الحسابات فترة تطول إلى أكثر من سنة مالية مما يؤدي إلي بقاء الحسابات مفتوحة مدة طويلة بعد نهاية السنة المالية مما قد يؤدي إلى وقوع ارتباكات ويجعل من الصعب الحصول على معلومات مالية دقيقة في الوقت المناسب لاتخاذ القرار المناسب وللمساعدة في إعداد الموازنة للسنة المقبلة كما يدخل فيه عنصر التقدير الشخصي كما في حالة جرد وتقويم المخازن وجرد الديون المستحقة وبذلك يكون أيضا عرضة لاحتمالات التضليل ويحتاج إلى عدد كبير من الموظفين ذوي خبرة ومهارة عالية وذلك لتقويم الأصول وإمساك الحسابات الإجمالية والتفصيلية للمدينين والدائنين وتصبح تكلفة تنفيذه أعلى ويتأخر نتيجة أعمال السنة المالية ومركزها حتى تسوى جميع العمليات .
صحيح أن استخدام أساس الاستحقاق قد يكون له بعض المزايا النسبية عن الأساس النقدي إلا أن الأولوية يجب أن تكون لمبدأ الحيطة والحذر والابتعاد عن المشاكل المالية المتوقعة والحيطة والحذر من ابسط مبادئ المحاسبة الذي يجب مراعاته في أي خيار محاسبي ولأسباب أخرى غير كفاءة الأداء وفي هذا الحال يمكن مراعاة الآتي :
1- الأساس النقدي في المحاسبة الحكومية لدينا مستخدم منذ فترة طويلة وفي كثير من دول العالم واثبت فاعليته إلى حد ما على مر السنين قبل التغيرات والتحولات والتبدلات الكبيرة التي طرأت في الموازنة العامة، فالأساس النقدي ومن دون ذكر محاسنه إذا ضبط بشكل دقيق وتمت المتابعة والرقابة عليه أولاً بأول في حال الاستمرار في استخدام موازنة البنود للمحافظة على المال العام من سوء الاستعمال أو الاختلاس أو الضياع هو الأكثر تحفظا خاصة فيما يتعلق بتسجيل وقيد الإيرادات التي لا يتم الاعتراف بها أو قيدها إلا بعد استلامها نقداً وهذا الإجراء قد يكون مطلوباً ومحبذاً لأن الإيرادات التي يتم قيدها ومن ثم لا يتم استلامها هي في الواقع والحقيقة إيرادات لم تتحقق بصورتها النقدية فهي حبر على ورق إذا لم يتم استلامها نقدا إضافة إلى ذلك فان الإيرادات النقدية تعتبر من المصادر الأساسية لتمويل النفقات الحكومية بشكل عام فإذا لم تتحقق هذه الإيرادات بحالتها النقدية نقداً تعجز المالية العامة عن الوفاء بتعهداتها .
2- صحيح هناك دول وبعض المؤسسات الدولية تستخدم أساس الاستحقاق في الاعتراف بإيراداتها إلا أنها وضعت شروطاً قاسية في استخدام هذا الأساس وإذا لم تتحقق هذه الشروط فان الممارسة الفعلية هي وفقاً للأساس النقدي ومن هذه الشروط :
الأول إمكانية تقدير حجم الإيرادات بدرجة عالية من الدقة ,الثاني إمكانية تحصيل تلك الإيرادات بدرجة عالية من التأكد وان لم يتحقق هذان الشرطان فان الأساس النقدي هو المستخدم ,فاذا نظرنا إلى طبيعة الإيرادات للوحدات الحكومية نجدها متنوعة ومختلفة الأحجام والمصادر وغير مستقرة وغير مؤكدة صعوداً أو هبوطاً .
أجرت بعض الدول خلال الثلاثين السنة الماضية تعديلا على الأساس النقدي ليصبح أساسا نقديا معدلا الذي يعني تجمع بين الطريقتين النقدي والاستحقاق، ففي جانب الإيرادات النقدية يتم قيدها فقط أما المصروفات فتشمل المصروفات النقدية وإهلاكا الأصول الثابتة المحسوبة على أساس الاستحقاق يستطيع إلى حد ما قياس الأحداث غير النقدية ورفع الثقة ببيانات المالية والمحاسبية الحكومية ومن هنا نستطيع القول إن العمل بأساس الاستحقاق في المحاسبة الحكومية، لابد أن يكون ضمن خطة لتطوير وتحديث النظام المحاسبي الحكومي والعمل بتطبيق موازنة البرامج والأداء بكامله وأدق تفاصيله وتطوير الإدارة المالية وتشريعاتها ولوائحها ورفع كفاءة العاملين والقائمين عليهما وبناء نظام آلي ( أتمتة ) لتحقيق الفعالية في إدارة الأموال العامة ولأن الدول تتميز عن بعضها البعض كل دولة لها طريقتها ونهجها الخاص بها والتي تنعكس على أنظمتها الاقتصادية والإدارية والمالية وان نغوص كثيرا ليس بالأمر اليسير في عمق وضعف واختلال العمل بالأساس النقدي في المحاسبة الحكومية بمهنية، فالفجوة الرئيسية بين الأساس النقدي وأساس الاستحقاق ليس في حدوث وإثبات الإيرادات والمصروفات فقط إنما من الممكن التمهيد من الآن للوثبة للأمام في ضبط الرقابة على الأصول والخصوم و الإتقان والجودة في قياس الأداء من خلال بناء نظام للمراجعة الداخلية ولا يمكن أن نتوقع أعمالاً من غير خطأ ولاقرارات صائبة دائماً لكن في كل مرة نرتكب خطأ نكون أمام فرصة لمعالجته والتعلم من الأخطاء التي وقعت حتى لا يتم تكرارها.
*باحث في وزارة المالية