ظلت منذ القدم ملهمة الشعراء الأولى ومصدر إلهام للأدباء والمفكرين والساسة كما ظلت حاضرة في ضمير ووجدان الإنسان اليمني في مختلف العصور والمراحل.. إنها الوحدة اليمنية المتجذِّرة في التاريخ الوطني قديمه وحديثه والهدف والغاية الأسمى التي احتلت الحيز الأبرز في مسيرة النضال والحركة الوطنية التي واجهت وماتزال إلى هذه اللحظة الكثير من التحديات والمؤامرات التي تستهدف هذا الاستحقاق اليمني العظيم الذي يبقى الأساس- كما تؤكد الأحداث والوقائع عبر مراحل التاريخ المختلفة- وان الفرقة المتقطعة التي شابت بعض مراحله هي الاستثناء.
الثورة / حمدي دوبلة
هذه الحقيقة تؤكدها دراسات تاريخية و قراءات انثروبولوجية خلصت جميعها إلى أن اليمن أرضاً وشعباً موحد جغرافيا، وموحَّد ثقافيا بمفهوم الثقافة العام، وما ينسحب عنها إلى التنوع في كل مفردات المنظومة الثقافية انطلاقا من اللهجات والفلكلور أو حتى الملابس ومائدة الطعام، بل إن هذا التنوع -بحسب احد الباحثين- يثير هذا التوحد ويعززه.
أما التجزؤ الذي ساد بعض الحقب في تاريخ اليمن فلم يتجاوز إطار التجزئة السياسية التي فرضتها مطامع الحكم وأطماع القوى الخارجية التي كانت تحرص على وجود أكثر من مملكة أو دولة أو دويلة في الأرض التي اسماها الله عز وجل في القرآن الكريم” بلدة طيبة ورب غفور”.
في التاريخ الحديث لمسيرة الكفاح الوطني كانت الوحدة الهدف المشترك لكل القوى السياسية وأمل وغاية الجماهير على امتداد الخريطة اليمنية بل كانت هدفاً لكلا النظامين في الشمال والجنوب منذ ستينيات القرن العشرين وكلتا الجمهوريتين أنشأتا مؤسسات خاصة لشؤون الوحدة ولكن اختلاف النظام السياسي والاقتصادي والتدخلات الإقليمية والدولية وأطماع دول الشر والاستكبار كان من ابرز العوامل التي أخَّرت إعادة تحقيق الوحدة إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي قبل أن تعود تلك القوى والكيانات حاليا لتمثل اكبر تهديد لهذا الإنجاز والحقيقة اليمنية التي لا تقبل التشكيك أو المقايضة وعبثاً تحاول دول العدوان السعودي الأمريكي إعادة التاريخ إلى الوراء ووأد الحلم اليمني مرة أخرى من خلال إنشاء ودعم مليشيات الانفصال ونشر بذور التفرقة والصراع والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد .
الوحدة في فكر الأدباء والمفكرين
كانت الوحدة على الدوام حاضرة في فكر ومفاهيم الأدباء والساسة والمناضلين في كافة المراحل، ويقول المناضل الراحل محمد أحمد نعمان: ” الوحدة أمٌ لكل اليمنيين، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، كأم وليس كزوجة, فالأم في هذا السياق لا يمكن إلاّ أن نحبها مهما كانت، وبأي شكل بدت، أما الزوجة فنحن نختارها أو أقل شيء نقبل بها، لهذا لا مناص من أن الوحدة هي بالنسبة لليمنيين (الأم), قدرنا الذي لا يمكن أن نوجد بدونه”.
ويؤكد الباحث محمد بن ناصر حسن في كتابه “عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم و الحديث” أن تحقيق الوحدة اليمنية كان بمثابة الاشراقة الأولى لشمس اليمن على صفحات التاريخ، فبعد أن سكن الإنسان شبه جزيرة العرب منطلقاً من جنوبها الغربي إلى بقية مناطقها في سياق التوسع البشري الذي أفرز تنوعا قبليا تقاسم الأرض، فكانت العرب الأولى أو ما تعرف بالعرب البائدة التي قضى على معظمها العذاب الذي وقع على قوم عاد لتبدأ عندئذ حكاية العرب المستعربة… ويضيف “ومن نسل سيدنا هود -عليه السلام- جاء قحطان ومن نسل قحطان سخر الله (يعرب) ليكون أول رواد تاريخ التوحد في المنطقة فتمكن بسماته الرفيعة خُلقا وحكمة أن يؤلف بين القبائل ويوحدها تحت مظلة واحدة في جنوب جزيرة العرب فكانت أول مملكة في التاريخ(5000 ق. م).
وبحسب الباحث بن ناصر فإن المؤرخين لم يقفوا على أسماء آبائه وصولا إلى قحطان وهود وإنما عُرف بـ (يعرب بن قحطان) وهو أول الملوك في التاريخ اليمني العربي القحطاني القديم فبسط نفوذه على الجزيرة العربية وبه سميت.
ويذكر الكتاب -نقلا عن مصادر تاريخية- أن الملك يعرب تمكن من توحيد اليمن والقضاء على جميع الممالك و خضعت له جميع القبائل.
ويضيف أن(يعرب) لقب لا اسم، حيث كان اسمه (يمان) أو (يمن) أو (يامن) حسب لسان اليمن الهمداني وباسمه سميت اليمن ولأنه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه العربي فلقب بـ(يعرب) كما نقل المؤلف عن مصادر كابن خلدون والطبري والمسعودي وجورج زيدان وجواد علي وغيرهم من المؤرخين.
وعلى يد الملك يعرب قامت أقدم دولة في عصر ما قبل التاريخ حيث عمل على توحيد جميع القبائل القحطانية في جزيرة العرب تحت راية دولة واحدة وبالتالي كان من المعقول أن يتبع قيامها تسميتها باسم جامع لها فتمت تسميتها باسم الملك الذي وحدها وهو (يمان) بن قحطان، ولأن هذا الملك هو أول من أعرب في كلامه أو قام بعمل ما يتصل باللغة العربية وتثبيتها وتهذيبها في دورتها الثانية ( العرب المستعربة) وبما يوحِّد الكيان العربي، كان أول ملك عربي في التاريخ.
ويورد الباحث بن ناصر كثيراً من الدلائل والشواهد التي تؤكد العمق التاريخي لتسمية اليمن على اختلاف المصادر التي تعددت معها أسباب التسمية إلا أن الغالب أكد ما ذكر سابقا بينما لم تتفق المصادر على الفترة التاريخية لزمان يعرب بن قحطان إلا أن الراجح أن دولته استمرت في أبنائه حتى الألف الرابع قبل الميلاد.
ظل اليمن موحداً في علاقات شعبه وفي نضاله ضد الاستعمار البريطاني والحكم العثماني وغادر العثمانيون شمال اليمن في نهاية الحرب العالمية الأولى وكإحدى نتائجها، وظهرت على أنقاض منطقة النفوذ العثماني ما عرف بالمملكة اليمنية، واستمرت وحدة الكفاح اليمني ضد الاستعمار البريطاني ونظام الإمامة، ورافق هذا الكفاح حلم إعادة توحيد اليمن واقتربت لحظة تحويل الحلم إلى حقيقة عشية سقوط نظام الإمامة في (26) سبتمبر 1962م، وتقلصت مسافة الوصول إلى الوحدة اليمنية بقيام ثورة (14) أكتوبر 1963م في الجنوب وجلاء الاستعمار البريطاني في الـ(30) من نوفمبر 1967م، ولكن حالت دون الوصول إلى الحلم -عشية خروج آخر جندي بريطاني من عدن – ظروف الحرب الباردة، وبعض التحضيرات الداخلية، وكذا جملة من التدخلات الإقليمية.
وأصبحت في اليمن بدلاً من النفوذ العثماني والبريطاني دولة في الشمال وأخرى جنوبية، ولم يمت الحلم، بل ظل في عقول وقلوب أبناء الشعب اليمني وإن تباينت طرق الوصول إليه وفقاً لرؤية كل طرف، وشهدت اليمن أكثر من حرب أهلية بعضها بسبب مصالح سلطوية وحزبية داخلية، وبعضها بتغذية خارجية للحيلولة دون إعادة تحقيق الوحدة، ولكن تحت شعار تحقيق الوحدة اليمنية.
وتعثرت اليمن بدولتيها في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وتعليمية كاملة ومتكاملة، كما لم تشهد حياة آمنة ومطمئنة تحت ضغط الجماهير وكفاحهم من أجل الوحدة.
وفي ظل أفول الحروب الباردة، وانهيار المعسكر الاشتراكي التقط اليمنيون الفرصة لتحقيق حلم الآباء والأجداد في إعادة لحمة ووحدة اليمن أرضا وشعباً، فكانت اللحظة التاريخية التي التقط فيها اليمنيون زمام المبادرة للدعوة لتفعيل الاتفاقيات الوحدوية الموقعة بين الشطرين باعتبار الوحدة اليمنية صمام أمان لليمن في ظل المتغيرات الدولية، وكحل جذري لكل آلام وسلبيات التشطير، ووجدت هذه الدعوة قبولاً جماهيرياً واسعاً.
الحلم الذي تحقق
بإعادة تحقيق الوحدة بدأت اليمن مرحلة جديدة من تاريخها الحديث على المستوين الداخلي والخارجي وطوت آخر صفحة من صفحات التشطير الجغرافي والسياسي.
وفي هذا الإطار يقول الدكتور الراحل صالح باصرة : إن إعلان الوحدة اليمنية وتأسيس الجمهورية اليمنية لم يكن حدثاً صغيراً وليد لحظته بل حدثاً كبيراً في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر وسبقته ومهدت له الكثير من الأحداث المحلية والعربية والدولية، لم تكن هذه الوحدة حالة جديدة وطارئة في اليمن بل أعادت توحيد يمن انشطر وتشطر لفترة زمنية طويلة بعد توحده لفترات تاريخية أطول وأكبر من زمن التشطير.
وهي الحقيقة التي يؤكدها مفكرو اليمن ومثقفوه وفي مقدمتهم شاعر اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح بقوله:” إن اليمن كان عبر التاريخ واحدا، وحتى عندما انقسم قد كان يسمى باليمن الشمالي واليمن الجنوبي، ومعنى ذلك انه يمن واحد، وما حدث في 22 مايو 1990م هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه عبر التاريخ، عودة اليمن الواحد إلى نفسه، وإلى أهله، والذين يتصورون أن إعادة وحدة اليمن الواحد هي توحيد قطرين شقيقين على خطأ كبير، فالقطر الواحد الذي مزَّقته ظروف التخلف وأيادي الاستعمار قد نجح في 22 مايو 1990م، في العودة إلى ما كان عليه قطراً عربياً واحداً من أقطار وأقاليم الوطن العربي الكبير”.
الوحدة في الشعر الجاهلي والأدب الحديث
مثلت الوحدة اليمنية عنصرا رئيسيا في إبداعات الشعراء والأدباء عبر مختلف العصور وحتى منذ عصور الجاهلية إذ ورد في الشعر الجاهلي ما يؤكد على وحدة اليمن أرضا وإنسانا وهو ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ على لسان الشاعر اليمني النجراني عبد يغوث ابن وقاص الحارثي حين أسره بنو تيم يوم الكلاب وربطوا لسانه كي لا يهجوهم، فأنشد:
أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ ما بِيَا
فما لَكُما في اللَّوْم
خَيْرٌ ولا لِيَا
أَقُولُ وقد شَدُّوا لسانِي بِنِسْعَةٍ:
أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلِقُوا
عن لِسَانِيَا
وتَضْحَكُ مِنِّي شَـــيْخَةٌ عبْشَـــمِيَّةٌ
كأَنْ لَمْ تَرَى قبْلِي
أَسِيراً يمَانِيَا
كأَنِّيَ لم أَرْكَبْ جَوَاداً ولم أَقُلْ
لِخَيْلِيَ كُرِّي نَفِّسِي
عن رِجَالِيَا
فَيَا راكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ
نَدامَايَ مِن نَجْرَانَ
أَنْ لا تَـــلاَقِيَـــا
أَبَا كَرِبٍ والأْيْهَمَيْنِ كِلَيْهِمَا
وقَيْساً بِأَعْلَي
حَضْرَمَوْتَ اليمَانِيَا
وهو هنا يؤكد يمنية حضرموت كما يؤكد يمنية نجران التي ينتمي إليها، وهي ترزح اليوم تحت الاحتلال السعودي.
وقد أنشد أبياته تلك ليطلقوا لسانه فينوح على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومه هذا الشعر قال قيس: “لبيك وإن كنت أخرتني”.
وعن يمنية حضرموت وقبيلة كندة التي تسكنها ومنطقة دمون الشهيرة بوادي حضرموت يقول الشاعر الجاهلي الشهير امرؤ القيس بن حجر بن آكل المرار الكندي:
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإنّنا لأهلنا محبــــــــون
وقال البيهقي: “بلاد كندة من جبال اليمن تلي حضرموت والشحر، وكان لهم بها ملوك، وقاعدتهم دمون، وهي مذكورة في شعر امرئ القيس”. .
الأدب العربي يشهد بوحدة اليمن
الأدب العربي القديم تغنى وشهد بوحدة اليمن، وفي هذا الاطار نذكر على سبيل المثال لا الحصر قول الشاعر الجاهلي الشهير ميمون بن قيس وهو من شعراء المعلقات والمعروف بالأعشى قبل الإسلام في مقطوعة من شعره بعض مناطق اليمن وأقيالها حين قال:
ألم ترَ أني جلتُ ما بين مأربً
إلى عدنٍ فالشام والشامُ عائدُ
وذا فائشٍ قد زرتُ في متمنِّعٍ
من النيقِ فيهِ للوعودِ مواردُ
ببعدان أو ريمان أو رأس سلبةٍ
شفاءٌ لمن يشكو التمائمَ باردُ
وبالقصرِ من إرياب لو بتَّ ليلةً
لجاءكَ مثلوجٌ من الماءِ جامدُ
ونادمتُ فهداً بالمعافرِ حقبةً
وفهدٌ سماحٌ لم تسده المواعدُ
وقيساً بأعلى حضرموت انتجعته
فنعم أبو الأضيافِ والليل راكدُ
فهل كان الأعشى متعصباً لليمن حين ذكر أسماء أهم مناطق اليمن وأقيالها الذين زارهم حينها وهم شبه مستقلين بحكم مناطقهم في حضرموت والمعافر بتعز وإرياب في جبل سُمارة محافظة إب، أم أنه يعرف أنهم ينتمون لدوحةٍ واحدة وإنْ تفرقت بهم الأهواء السياسية، لهذا جمعهم في أبياته.
أما العالم العربي الشهير ابن خلدون فيقول في كتاب “المبتدأ والخبر”: «ليس بين الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم».
وقال ابن منظور مؤلف معجم لسان العرب الشهير: «أول من أنطق الله لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان وهو أبو اليمن كلهم وهم العرب العاربة»
لا يتسع المجال لذكر كل ما قيل في الأدب العربي عن الوحدة اليمنية كحقيقة تاريخية ولكن تكفي هذه المقتطفات البسيطة التي تؤكد المكانة العظيمة التي احتلتها اليمن ووحدتها في فكر ومفاهيم الأدباء القدماء والمعاصرين وهنا لا بد أن نذكر أديب الزمن المعاصر الشاعر والراحل الكبير حسين أبو بكر المحضار، الذي تغنى بهذه القصيدة عقب إعادة تحقيق الوحدة اليمنية قائلا:
سـمـعت عن صنعا، ولما رأيتْ
رأيـت أكـثـر مـن سمـاعـي
الـفـن لـه فـيها عماره وبيتْ
والـحـب خـَصْبَتْ له المراعي
من حضرموت الخير بالبشر جيتْ
نـاشـر عـلـى الوحدة شراعي
الـلـي بها فوق السماك اعتليتْ
وازداد فـي الـنـاس ارتـفاعي
وهذان البيتان للشاعر عمر بن أبي ربيعة خير رد على دعاة الانفصال ومروجي الأكاذيب بوجود دولة جنوب، وقد قالهما في إحدى زياراته لأخواله في اليمن:
تقول عيسي وقد وافيت مبتهلاً
لحجاً وبانتْ ذرى الأعلامِ من عدنِ
أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا؟
فقلت كلا ولكن منـتهــى الـيــمـــنِ
هذه الحقائق التاريخية التي سطرتها أنامل الشعراء والمبدعين على مر التلاريخ تظل اكبر عقبة أمام تحالف العدوان السعودي الإماراتي وأسيادهما في أمريكا وإسرائيل في تنفيذ محاولاتهم اليائسة لإعادة تمزيق اليمن إذ لا يمكن لهم مهما بلغت إمكانياتهم أن يغيروا حقائق التاريخ ويعبثوا بحقوق وأحلام الشعب اليمني العظيم .