موقف الدين من المُنْبَطِحين المُطَبِّعين (4-6)

العلامة /عدنان الجنيد
كنا في الحلقة الماضية قد أثبتنا بأدلة دامغة عدم صحة روايتهم التي تقول :
“إن رسول الله توفي ودرعه مرهونة عند يهودي”، وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان قد أجلى يهود المدينة ( بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة )، فلم تأتِ نهاية السنة الخامسة من الهجرة إلا وقد تم إجلاءهم جميعاً، ولم يبقَ يهوديُ واحدُ في المدينة، وهذا يدلك على كذب الرواية..
وسوف نكمل -الآن- بقية تفنيدنا لروايتهم :
ثانياً : نسأل السديس وأمثاله: ما اسم اليهودي الذي رهن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – درعه عنده ؟
فلا بد أن نعرف اسمه واسم أبيه، ونعرف خبره طالما أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رهن درعه عنده، لأننا لو سلّمنا -جدلاً- بصحة الرواية فلا بد أن يكون لهذا اليهودي شهرته، إذ لا يمكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم -إن صحت الرواية- أن يرهن درعه عند شخص غير معروف وليس له اسم!!.. وإليكم الروايات التي اعتمدوا عليها وهي (بنظرهم أصح الروايات) :
• الرواية الأولى تقول ” توفي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ” (1).
• بينما الرواية الثانية تقول ” لقد رهن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – درعاً بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيراً لأهله، ولقد سمعته يقول ” ما أمسى عند آل محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – صاع بُرِّ ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة ” (2).
• الرواية الثالثة تقول ” توفي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ودرعه مرهونة بعشرين صاعاً من طعام أخذه لأهله ” (3).
• الرواية الرابعة تقول ” إن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – توفي يوم توفي ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود بوسق من شعير ” (4).
* قلت : هذه الروايات التي اعتمدوا عليها تفيد أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – احتاج طعاماً، فأرسل إلى ذلك اليهودي فرفض إلا برهن، فأعطاه درعه على سبيل الرهن، ثم تجد أن بعض الروايات اكتفت بذكر أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رهن درعه عند اليهودي، وبعضها زاد أنه توفي ودرعه مرهون عند اليهودي!!
ولو تمعنا في الروايات سنجدها قد تناقضت واختلفت في مقدار الطعام الذي رهن درعه من أجله، فبعضها تقول (ثلاثين صاعاً)، وبعضها (عشرين صاعاً)، وأخرى (بوسق من شعير)، ومعلوم أن الوسق يساوي مقدار (ستون صاعا)..
ولا يختلف عاقلان على أن التناقض والاضطراب بين الروايات يدل على ضعف الرواية وعدم صحتها، فضلاً عن أنها جميعاً -أي الروايات- لم تذكر اسم الرجل اليهودي!!..
وكون واضعي تلك الروايات لم يجدوا اسماً لذلك اليهودي، وكي يوهموا القارئ بصحتها عمدوا إلى وضع كنية لذاك اليهودي وقالوا إن كنيته ” أبو الشحم “، ثم نسبوا هذا القول إلى أحد أئمة آل البيت – عليهم السلام – كي يتم تصديق الرواية !!
• فقد قالوا “إن اليهودي أبو الشحم قد بينه الشافعي ثم البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه ” أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رهن درعاً له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير ” (5).
* قلت : وما ذكروه ليس صحيحاً؛ لأن هذه الرواية منقطعة، فالرواي لم يشهد الواقعة، والحديث المنقطع ضعيف ومردود بحسب قواعد علم الحديث التي يعتمدون عليها، وبهذا اتضح أن اسم اليهودي مجهول، وما ذكروه فهو من رواية ضعيفة لا تصح حتى عند جميع الحفاظ!!..
وبهذا تبين لنا عدم صحة الرواية
ثالثاً : قولهم: “إن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – توفي ودرعه مرهونة عند يهودي..” هذا الحديث الذي يعتمدون عليه نجده يُعارض حديثاً آخر، فقد ثبت في صحيح البخاري (6) : “أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان يدَّخر لأهله من الطعام كفاية سنة….”.
وإذا كان كذلك، فكيف يحتاج النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى أن يرهن درعه عند يهودي مقابل طعام لأهله ؟!
رابعاً : إن هذه الرواية (أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رهن درعه عند يهودي مقابل طعام لأهله)، التي يعتمدون عليها -في تمهيدهم لجواز التطبيع- نجدها تدل على أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- كان بحاجة ماسة إلى الطعام ليسد جوعه وجوع أهله حتى اضطره ذلك إلى اللجوء لذلك اليهودي ليرهن درعه كي يأخذ الطعام إلى أجل،-فعن زيد بن أسلم “أن رجلاً كان يطلب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بحق فأغلظ له، فأرسل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى يهودي للتسليف منه، فأبى أن يُسلفه إلا برهن، فبعث إليه – صلى الله عليه وآله وسلم – درعه وقال – صلى الله عليه وآله وسلم -: ” والله إنِّي لأمين في الأرض وأمين في السماء ” (7)
-وفي رواية ” فأرسل – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى رجل من اليهود، يقول لك محمد : أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، قال : لا إلا برهن، فأتيت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فأخبرته فقال : أما والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض، ولو أسلفني أو باعني لأدَّيتُ إليه…. إلخ ” (8)
* قلت : بربك – أيها القارئ – هل تقبل مثل هذه الروايات التي تتنافى مع عزة رسول الله وكرامته؟!..
فلا يمكن لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أن يذل نفسه ليهودي، وتجعله بهذا الشكل، بحيث يرفض اليهودي أن يعطيه إلا برهن، ثم يضطر أن يعطيه الرهن وكأنه هو وأهل بيته وصحابته فقراء ولا يملكون شيئاً!!..
ألم يقل الله تعالى : ( وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ )[ الضحى :8]، فقد أغناه الله تعالى الغناء المادي والمعنوي، فلم يجعله في حاجة إلى أحد،كيف لا وهو الذي كان يجهز الجيوش بكل ما تحتاجه من زاد وعتاد وعدة، وكان يطعم الوفود، بل كانت بيوته ومسجده لا تتوقف يوماً عن إطعام الطعام للفقراء والمساكين والوافدين!!
ألم يقل الله تعالى :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ‌ نَاظِرِ‌ينَ إِنَاهُ وَلَـٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُ‌وا…][الأحزاب :53].
(فَمَالِ هَـٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)
خامساً : رواية “أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رهن درعه عند يهودي… إلخ”
لسنا نحن أول المنكرين لها، بل هناك جمعُ من السابقين قد طعنوا في هذه الرواية المكذوبة، فقد نقل كلامهم ابن قتيبة، وإليك نص كلامهم :
•” قالوا : رويتم أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من شعير، فيا سبحان الله أما كان في المسلمين مواسٍ ولا مؤثر ولا مقرض، وقد أكثر الله عز وجل الخير، وفتح عليهم البلاد، وجبوا مابين أقصى اليمن إلى أقصى البحرين، وأقصى عمان، ثم بياض نجد والحجاز، وهذا مع أموال الصحابة كعثمان وعبدالرحمن وفلان وفلان فأين كانوا ؟!
قالوا : وهذا كذب وقائله أراد مدحة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بالزهد وبالفقر، وليس هكذا تمدح الرسل ” (9) اه.* قلت : وكذلك أنكرها الكثير من المعاصرين.
سادساً : نقول للسديس وأمثاله : لو سلَّمنا – جدلاً – بأن قصة رهن الدرع عند اليهودي كان مقابل الطعام، فهي ليست دليلاً لما ذهبتم إليه من تمهيد التطبيع مع العدو الصهيوني..
فلا يصح أن تسقطوها على صهاينة اليوم كي تفتحوا علاقات معهم ؛ كونهم محاربين للمسلمين، وما يفعلونه في فلسطين وأبنائها ومدنها لهو خير دليلٍ وشاهد..
بينما اليهودي الذي رهن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- درعه عنده كان مسالماً (على افتراض أنه لم يكن عدواً لرسول الله)، والتعامل مع المسالم جائز بينما التعامل مع العدو الحربي لا يجوز، ولعلّ آيتي سورة الممتحنة (8، 9) قد بينتا ذلك..
هذا مع أن إنكارنا لقصة رهن الدرع هو تنزيهُ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن الشواهد التاريخية، والأدلة النقلية والعقلية تؤيد ما ذهبنا إليه، ناهيك عن تعارض قصة رهن الدرع مع كتاب الله تعالى.
….الهامش…..
(1) أخرجه البخاري، ح ( 2759 ) – كتاب الجهاد والسير – باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والقميص في الحرب.. وذكره في مواضع أخرى من كتابه.
(2) أخرجه البخاري، ح ( 2069 )
– كتاب البيوع – باب شراء النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بالنسيئة، وذكره في مواضع أخرى من كتابه.
(3) أخرجه الترمذي، ح ( 1214 )
– كتاب البيوع – باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل.
(4) أخرجه أحمد، ح ( 27565 )، وابن ماجه، ح ( 2438 ) وغيرهما.
(5) أخرجه الشافعي في ” الأم ” [ 142/3 ]، والبيهقي في ” السنن الكبرى ” [ 6 / 37 ]، والرواية ضعيفة عند أهل السنة لانقطاعها.
(6) انظر ” صحيح البخاري ” [ 9 / 412 ] ح ( 3537 ) – كتاب النفقات – باب حبس الرجل قوت سنة على أهله..
(7) ” مصنف عبدالرزاق ” [ 8 / 10 ] ح ( 14091 ) – كتاب البيوع – باب الرهن.
(8) أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده، كما في ” إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة ” [ 3 / 346 ] ح ( 2882 )، والطبراني في المعجم الكبير [ 1 / 331 ] ح ( 989 ).
(9) ” تأويل مختلف الحديث ” [ 1 / 142 ].

قد يعجبك ايضا