سقوط كريتر في يد الجبهة القومية في20يونيو1967م دفع◌ِ بريطانيا لتقديم وقت الجلاء

, صراع الجبهة القومية مع جبهة التحرير غذته بريطانيا لمصلحتها

,بسالة المناضلين اليمنيين عجلت بيوم الاستقلال لكن المفاوضين خذلوهم بالشروط المجحفة

,أثبت المناضلون اليمنيون لبريطانيا انهم شعب لا يقبل الخنوع

,المراهقة السياسية كانت السبب فيما بعد في الاقتتال الذي طالِ رفقاء السلاح والنضال

إعداد/ فايز محيي الدين البخاري

لكل حدث عظيم لابد من مقدمات والثلاثون من نوفمبر عام 1967م ليس يوماٍ عادياٍ في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر وما جرى فيه لم يكن حدثاٍ عادياٍ كغيره من الأحداث التي شهدتها اليمن على مر العصور لأن الثلاثين من نوفمبر 1967م كان فاصلة حقيقة في تاريخ اليمن المعاصر حيث تمكن اليمنيون في ذلك اليوم من رفع رؤوسهم عالية لتناطحِ السْحúبِ في فخرُ وإباء ونواصيهم تفوق الجبال عليِةٍ ورفعة.. لماذا¿ لأنهم في ذلك اليوم المجيد قد حققوا الاستقلال الذاتي والكامل واستطاعوا بفضل الجهود المتواصلة والتضحيات الكبيرة التي بذلوها طيلة سني الثورة منذ اندلاعها في الرابع عشر من أكتوبر 1963م من أعلى جبال ردفان الشماء وحتى الثلاثين من نوفمبر 1967م أن يطردوا الاستعمار البريطاني من بلدهم ويثبتوا للعالم بأسره أنهم وحدهم من قهر الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وأنهم وليس أحداٍ سواهم من أجبرِ تلك الامبراطورية العظمى التي امتدت من الشرق إلى الغرب على الرحيل من اليمن والجلاء عنه دون قيدُ أو شرط.
ومن البديهي القول: إنِ حدثاٍ عظيماٍ مثل يوم الجلاء لم يكن إلا خاتمة مطاف لأحداث كثيرة ومتوالية سبقته وهي الأحداث التي تشكل بمجملها دائماٍ وأبداٍ الحدث العظيم الذي يتخلد في جبين الزمن ويسطره التاريخ بحروف من نور.

صنوف العذاب
* والمتأمل في أحداث الثورة الأكتوبرية التي صنعت يوم الاستقلال المجيد يجد أن الانبثاقة الأولى التي انطلقت من جبال ردفان بقيادة المناضل الشهيد راجح بن غالب لبوزة كانت هي اللبنة الأساس التي أسس عليها المناضلون والثوار الأحرار مشوارهم الذي سلكوه في الطريق الوعر الذي امتلأ بكافة المنغصات والمعوقات والتي أثبتوا في النهاية أنهم أقوى منها وأن اليمنيين بما ورثوه من إباء وغيرة وكرامة يأبون أن يبقوا تحت نير المستعمر الأجنبي ويرفضون بشده أن ترى أعينهم آثار أقدام “المحتل” يعيث في أرضهم الفساد ويْصلي إخوانهم صنوف العذاب.
ولذا فقد توالت الأحداث عقب اندلاع الشرارة الأولى من أعلى جبال ردفان كما أسلفنا حيث أعلن العديد من رموز النضال الوطني في جبهة التحرير والجبهة القومية تبني الكفاح المسلح الذي رأوا أنه السبيل الوحيد لطرد المستعمر وإجلائه عن الوطن من أجل التحرر من التبعية للأجنبي ونيل الاستقلال الشامل والكامل.
وهذا مالم يكن ليتأتى لولا تلك البطولات والتضحيات التي أبداها كافة المناضلين اليمنيين والتي أثارت دهشة الاستعمار البريطاني وأجبرته في النهاية على الرحيل صاغراٍ ذليلاٍ حيث وجد طباعاٍ قوية وشكيمة لا تفل وعزيمة لا تتراخى وتضحية من الصعب أنú يجد لها مثيلا وهذه كلها هي الصفات التي سادت المناضلين اليمنيين وتميز بها كافة الثوار والأحرار الذين قدموا أرواحهم ودمائهم رخيصة من أجل عزة ومجد هذا الوطن الحبيب الأمر الذي تيقنت معه بريطانيا أنه ليس بمقدورها البقاء في عدن وبقية المناطق اليمنية أكثر مما قد قضته فيها وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان لهذا جنحت للمفاوضات مع الأحرار اليمنيين وبدأت تخضع لمطالبهم وشروطهم حين تأكد لها أن بقاءها صار بحكم المستحيل.
انتفاضات متعددة
* ولعل الفترة من 1964-1965م قد تميزت بالتطور السريع للأحداث الثورية واتساعها وعمقها ففي مدينة عدن نفسها حدثت عدة انفجارات ومظاهرات وإضرابات وغير ذلك من الانتفاضات واتسعت أيضاٍ الحركة التحررية في المناطق الريفية حيث نشطت مجموعات من رجال العصابات واجتذبت أكثر واكثر أوسع فئات السكان ولعب الدور الهام في هذه الحركة العمال والمثقفون وكان لقيام جيش التحرير الذي انخرط في صفوفه الوحدات العسكرية العاملة تحت قيادة الجبهة القومية دور كبير في رص صفوف القوى الثورية.
وإزاء الانتفاضات الشعبية للمناضلين اليمنيين نفذ الانجليز عدداٍ من الحملات التأديبية خاصة في الفترة من يناير إلى أغسطس 1964م وقد اشترك في بعض هذه الحملات ما يقارب الثلاثة آلاف جندي كما استْخدم في تلك الحملات سلاح الطيران ليس على المباني السكنية بل وعلى المساحات الزراعية وكان من نتيجة ذلك اضطرار عشرات الآلاف من الفلاحين إلى الهروب إلى اليمن الشمالي وإبان تلك الحملات كانت قوات الانجليز تفوق قوات الثوار عدة مرات ورغم ذلك لم تتراخ عزيمة المناضلين اليمنيين ولا توانوا عن مواصلة النضال والتضحية والاستبسال في وجه المحتل حتى تحقيق المصير.
خلافات داخلية
* وفي هذه الفترة حصل انفجار كبير في مطار عدن نشر الرعب والهلع في أوساط الجنود البريطانيين واهتزتú له القوات البريطانية كافة الأمر الذي شجع الأحرار اليمنيين على مواصلة العمليات المسلحة ضد المستعمر وخاصة بعد زيارة وزير المستعمرات البريطانية لمدينة عدن في السادس من نوفمبر 1964م حيث انتقلت الثورة اليمنية منذ ذلك الوقت إلى مرحلة الهجوم الكاسح ضد الاستعمار وأعوانهº وبرزت أمام الجبهة الوطنية(كل الفصائل الثورية) مسألة وضع استراتيجية للنضال الثوري عملت من خلالها على رسم سياسة محددة تمكنها من الوصول إلى تحقيق المراد وتقرير المصير ودحر الاستعمار وأعوانه وبرزت أمام الجبهة القومية وجبهة التحرير بعض الخلافات التي حاولت بريطانيا أن تؤججها لتزيد من هوة الخلاف بينهما حتى تظل أكبر مدة من الزمن تجثم على ثرى اليمن الطهور ولكن تلك الخلافات الأهلية لم تكن لتقف عائقاٍ أمام الإرادة الوطنية لكافة الجماهير اليمنية التي آلت على نفسها أن لا تترك الكفاح المسلح إلا وقد خرجت كافة القوات البريطانية من اليمن وتحقق لها الاستقلال الكامل والشامل.
قنابل يدوية
* وكان النشاط الفدائي ضد قوات الاحتلال البريطاني قد مر بأربعة مراحل أو أطوار-حسب ما تحدثِ إليِ المناضل صالح حسين زيزاء في لقاء صحفي سابق- حيث استمر الطور الأول حتى أواخر 1966م عندما كان الوطنيون يقومون أساساٍ بشن هجمات على الدوريات البريطانية مستخدمين القنابل اليدوية وعمليات المباغتة ضد الأفراد فيما بدأ الطور الثاني مع بداية يناير 1967م وحتى شهر أبريل من العام نفسه وفي هذا الطور تزايدت الهجمات على قوى الأمن وغدت أشد فعالية وكثافة وأصبحت تْستخدم فيها أسلحة أكثر عصرية وتعتبر أكبر عملية قام بها الوطنيون في هذه الفترة محاولاتهم التي بدأت في 5-6 أبريل بالاستيلاء كلياٍ على الشيخ عثمان ولو نجحت لشكلت انتصاراٍ معنوياٍ كبيراٍ و لقطعت على الانجليز والجيش النظامي الاتحادي الطريق الرئيسية التي تربط عدن بالمحميات.
وفي الطور الثالث (مايو- أغسطس 1967م) جرت معارك كثيفة من أجل السيطرة على الشيخ عثمان وكر يتر ويتميز الطور الرابع الذي يمتد من سبتمبر إلى أكتوبر 1967م بالاصطدامات بين الجبهة القومية وجبهة التحرير. وأخيراٍ كان الطور الخامس منذ بداية شهر نوفمبر حيث بدأت قوات الاحتلال البريطانية تستعد وتتهيأ للجلاء عن الجنوب اليمني المحتل.
هزيمة عسكرية
* وكان الهم الأكبر بالنسبة لبريطانيا هو أنú لا تضطر إلى سحب قواتها بشكل مهين يمثل هزيمة عسكرية لها أمام الثوار ولذلك فقد تقرر أنú يتم سحب القوات البريطانية مع مراعاة أنú يكون جلاؤها في سلام أي بأقل الخسائر دون ضجيج وأن يتم نقل المعدات والأسلحة التي تحتويها مخازن قيادة الشرق الأوسط وهي معدات كبيرة وأن لا تترك بريطانيا عند جلائها حكومة مستقلة يمكنها حفظ الأمن والنظام في المنطقة ما أمكن ذلك والإمكانية تعود هنا إلى شكل الحكومة والصفات اللازم توافرها وإذا تعذر فستترك بريطانيا أي حكومة متاحة. ومن أجل تحقيق الجلاء وفق هذه الأسس قامت بريطانيا بنشاط دبلوماسي كثيف ففي 17 مارس 1967م وصل إلى عدن نائب الوزير البريطاني للشؤون الخارجية طومسون ونقل إلى الحكومة الاتحادية مقترحات حكومته ومشروع الاتفاق الذي نص على منح الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967م وتخلي بريطانيا عن تعهداتها بالدفاع عن جنوب اليمن الذي كان ينبغي التعويض عنه بمساعدة مالية قدرها 60 مليون جنيه استرليني تدفع على أقساط خلال ثلاثة أعوام بعد إعلان الاستقلال.
ولكي يكون بإمكان جيش الجنوب العربي الاضطلاع بالدفاع عن البلاد تعهدت الحكومة البريطانية بتزويده بأحدث الأسلحة غير أن الحكام الاتحاديين لم يوافقوا على هذه الخطة وطالبوا الانجليز بالبقاء على تعهداتهم بصدد الدفاع عن الدولة القادمة فلم يكن باستطاعة الوزراء الاتحاديين أن يعتمدوا ويتكلوا على أحد في بلادهم وكانوا يرون في بقاء القوات البريطانية الفرصة الوحيدة في بقاء الحكم وبعد مناقشات طويلة أعطى البريطانيون وعداٍ للحكومة بإبقاء سفن الأسطول الحربي البريطاني لمدة ستة اشهر تتجول عبر الشواطئ لكي تحمي الحكام الاتحاديين من هجوم محتمل ولكن الوزراء الاتحاديين رفضوا القبول بهذا الاقتراح وطلبوا تأجيل منح الاستقلال حتى ربيع 1968م على أقل تقدير وإبقاء القوات البرية البريطانية في عدن لفترة غير محدودة من أجل مساندة الحكومة بعد أن يعقدوا معها بصورة مسبقة معاهدة دفاع. وأيد مطلب الوزراء الاتحاديين الجناح اليميني في حزب المحافظين الذي كان على اتصال دائم معهم وقبيل سفره أعلن طومسون للوزراء الاتحاديين أنهم برفضهم المقترحات البريطانية يقضون على انفسهم بأنفسهم.
شروط الانسحاب
* ويمكن أن نقول: إنِ بريطانيا أدركت بعد طول انتظار أنِ البقاء في اليمن لم يعد ممكناٍ وأنِ عليها تنظيم شروط رحيلها بالحد الأدنى من الخسائر. ومع نهاية سبتمبر 1967م كانت غالبية مناطق البلاد المحتلة قد خضعت لسيطرة الجبهة القومية ولم تكتف الفرق المسلحة للجبهة القومية بتحرير مناطق الجنوب اليمني من الانجليز, بل إنِها قامت في الوقت ذاته بإقصاء السلاطين المحليين, ليمتزج في نهاية المطاف النضال من أجل التحرر الوطني مع النضال من أجل التحرر الاجتماعي .
وكان على الجبهة القومية التي دخلت في صراع مع جبهة التحرير من أجل تسلم الحكم أنú تبرهن لبريطانيا أنها القوة الحاسمة إلى جانب الميل الذي تميله بريطانيا نحوها بسبب أن قيادة الجبهة القومية كلهم من الشباب قليلي الخبرة في المفاوضات والسياسات الدولية وكراهية عبدالناصر ما يعني أنها ستتفاوض معهم بشروطهاºخاصة في ظل رغبتهم العارمة في تولي السلطة وإقصاء جبهة التحرير وهذا ما تبدى واضحاٍ عقب الاستقلال حين عاد رفاق الجبهة القومية نفسها إلى الاقتتال فيما بينهم وكان أول ضحية لهذا الاقتتال المقيت مؤسس الجبهة القومية الشهيد فيصل عبداللطيف نفسه الذي كان أبرز شباب الجبهة القومية والقائد الفعلي وتم سجنه وقتله وهو في منصب رئيس وزراء كما تم سجن رفيق دربه الرئيس الشهيد قحطان محمد الشعبي في نفس الوقت.. وهي الفترة التي يسميها الدكتور علوي عبدالله طاهر في مقابلة أجريتها معه سابقاٍ فترة المراهقين السياسيين حيث كان كل واحد منهم يظن أنه أفضل المجموع وما إنú يقرأ كتاباٍ حتى يصبح وقد اتهمِ بقية رفاقه بالجهل وأنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة المطلقة ويحتكرها.. وهذا أساس كل تلك المآسي الدموية التي شهدها جنوب الوطن حسب الدكتور علوي منذ الاستقلال وحتى قيام الوحدة المباركة
وعلى ذلك ووفقاٍ لإدراك بريطانيا بطبيعة وجوهر قيادة الجبهة القومية فقد أقدمتú على تسليم السلطة لها ودخلت معها في مفاوضات صبتú بمجملها في صالح بريطانيا التي رحلتú دون أدنى تعويض يْذكِر.
التسريع بالجلاء
* وفي المقابل قامتú الجبهة القومية بمباغتة القوات البريطانية واحتلال مدينة كريتر في 20 يونيو 1967م لمدة 16 يوماٍ لتبث لبريطانيا عندها أنها قادرة على تحقيق السيطرة التامة على عدن ودحر قواتها بقوة السلاح وبخسائر فادحة.. وهذه الخطوة أربكِتú بريطانيا واضطرتها إلى تعبئة قواتها الخاصة لاستعادة كريتر, غير أنِ الجبهة القومية غدت القوة السياسية الحاسمة منذ الثاني من أكتوبر 1967م وأصبحت المسيطرة الفعلية على كل المناطق, مما أجبر بريطانيا على الاعتراف بأن الجبهة القومية هي القوة الفاعلة في الأحداث السياسية العسكرية في المنطقة – حسب مؤرخي وقياديي الجبهة القومية- خاصة بعد فشل بعثة الأْمم المتحدة التي كانت تنوي أن تعلن جبهة التحرير الوريث الشرعي للبلاد.
وتحت هذه الظروف اضطرت بريطانيا إلى الإعلان عن تقديم موعد الاستقلال لجنوب اليمن الذي كان قد تقرر سابقاٍ تحديده في التاسع من يناير 1968م وبدأت بالمحادثات مع الجبهة القومية التي كانت قد أحكمت سيطرتها في الواقع العملي على الوضع في البلاد ففي الرابع عشر من نوفمبر 1967م أعلن وزير الخارجية البريطاني جورج بروان بأن انجلترا على استعداد لمنح الاستقلال لجنوب اليمن في الثلاثين من نوفمبر 1967م وفي 21 نوفمبر التقى ممثلو الجبهة القومية في جنيف مع الوفد الانجليزي لإجراء المحادثات حول تسليم السلطة للحكومة الوطنية التي سيتوجب عليها قيادة البلاد بعد خروج الانجليز منها وفي 26 نوفمبر بدأ انسحاب القوات البريطانية من عدن وفي الوقت نفسه غادر البلاد مع هذه القوات الحاكم البريطاني لعدن هامفري تريفلين وفي 29 نوفمبر1967م غادر آخر جندي بريطاني عدن وفي اليوم التالي 30نوفمبر 1967م تم الإعلان عن استقلال اليمن الجنوبي نهائياٍ عن بريطانيا وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية.
المراجع:
– تكوين اليمن الجنوبي سياسياٍ واقتصادياٍ واجتماعياٍ منذ عام1937م وحتى قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية د.محمد عمر الحبشي دار الطليعة بيروت دون تاريخ
– تاريخ اليمن المعاصر تأليف مجموعة من العلماء السوفيت ترجمة محمدعلي البحر
– مقابلة صحفية مع المناضل صالح حسين زيزاء
– حوار صحفي مع الدكتور علوي عبدالله طاهر
– اليمن الجنوبي..الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة علي الصرِاف دار رياض الريس لندن-قبرص 1992م
– جهاد شعب عبدالقادر محمد الصبان نوفمبر 1981م
– عدن.. كفاح شعب وهزيمة إمبراطورية محمد سعيد عبدالله(محسن) دار ابن خلدون ط2 بيروت1989م

قد يعجبك ايضا