ولايةُ أمر المسلمين.. بين النص الإلهي وفلتة السقيفة
محمد بن دريب الشريف
كثيرة هي النصوص المقدسة التي وردت بخصوص ولاية أمر المسلمين وفي المقابل أيضاً وصلنا الكثير من أقوال ومأثورات تنم عن الندم والحسرة التي ترتبت على مخالفة النصوص الصريحة فيما يتعلق بولاية أمر المسلمين وتجاوز الحدود فيما يخص وصية رسول الله المشهودة في يوم غدير خم .
وبغية الاختصار نتناول واقعتين تاريخيتين كلاهما تتعلقان بولاية الأمر وتولي شؤون الأمة ولا شك أن هاتين الواقعتين أصبحتا المرجع الأساس لفريقين يدعي كل طرف منهما أحقية طريقته في الحكم والزعامة والولاية على المسلمين .
والى يومنا هذا نجد أنه لا أحد يدعي مشروعية للحكم وتولي أمور المسلمين بمعزل عن هاتين الواقعتين وما ترتبط بهما من دلائل وأقوال وأفعال وتقارير من عاصروهما وعاشوا أحداثهما ورسموا فصولهما.
ومن الواضح جداً والمسلم به عند عموم طوائف المسلمين صحة واقعة غدير خم وكذلك صحة واقعة سقيفة بني ساعدة ولكل من هاتين الواقعتين أحداثها التي شكلت مفترق طرق بالنسبة لمسيرة المسلمين وترتبت عليها الآثار الهامة والجسيمة فيما يتعلق بصناعة التاريخ الإسلامي ماضياً وحاضراً وإلى ما شاء الله وعلى إثرها قامت دول وسقطت أخرى وصراع مستدام تجد الأمة فيه اليوم حيرتها ووقوفها حقيقة على شفا حفر المهالك والإحتراب والمخاصمات بعد أن اختار كل فريق مذهبه وطريقته في التعبد والتدين والالتزام بالتعاليم الإسلامية.
وفي البداية نقف مع حادثة غدير خم التي أشهر فيها رسول الله وأعلن لإمته تعاليمه بالنسبة لولاية الأمر وزعامة المسلمين وحكومتهم، إذ تناول علماء المسلمين حديث غدير خم ووصية رسول الله في ذاك اليوم التاريخي سنداً ودلالة وبحثاً وتحقيقاً واستفاضت كتب المسلمين ومصنفاتهم بالدراسات والتأملات.
وفيما يتعلق بصحة حديث الغدير وطرقه وأسانيده فإنه لا يوجد لحديث أو مأثور من مأثورات الإسلام من الطرق والأسانيد كما هو لحديث الغدير وهذا ما صرح به أكابر محدثي الأمة ومفسروها ومتكلموها ولكثرة الطرق التي روي بها فقد أفرد بعض المحدثين كتباً مستقلة وأوردوا وصنفوا في ذلك المصنفات وممن صنف في ذلك الحافظ محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ والتفسير ‘ من أعلام القرن الثالث ‘وله كتاب الولاية جمع فيه طرق الحديث في مجلدين ضخمين رد فيه على بعض معاصريه الذين أنكروا وجحدوا صحة الحديث، كذلك الحافظ أبو العباس ابن عقدة ‘من أعلام القرن الثالث’ أفرد كتاباً من مجلدين تناول فيه طرق الحديث وأسانيده، إلى الحافظ الذهبي ‘من أعلام القرن السابع’ الذي أدهشته طرق الحديث فجمع طرقه في كتاب منفرد، وكذلك مسعود بن ناصر السجستاني ‘ من أعلام القرن الخامس ‘ خصص لحديث الغدير كتاب “الدراية في حديث الولاية”، أيضاً أبو بكر الجعابي ‘من أعلام القرن الثالث’ له كتاب “من روى حديث غدير خم”وخير ما كتب عن حديث الغدير وأوسع وأشمل هو ما كتبه العلامة الشيخ عبدالحسين النجفي الأميني رحمه الله بعنوان ” الغدير في الكتاب والسنة والأدب ” جمع فيه أسانيده ورواته من الصحابة والتابعين وقدم في هذا الكتاب بحثاً جامعاً وكاملاً، وأثبت أنّه أكثر الاحاديث تواتراً واعتباراً، ولا يمكن لأحد إنكاره، وقد امتدح هذا الكتاب كثير من المحققين والعلماء والباحثين وأثنوا عليه وعلى مؤلفه بما هو أهله حتى قال عنه، الدكتور عبدالرحمن الكيالي الحلبي (( الغدير كتاب لابد أن يكون عند كل مسلم )).
هذا من ناحية السند والصحة والاعتبار، أما فيما يتعلق بالدلالة فلا يشك ذو مسكة في أن المراد والمقصود من حديث الغدير هو تخليد آلية لولاية أمر الأمة وزعامتها ووضع قاعدة كلية للحكومة الإسلامية وتحديد ولاة الأمر المختارين والمصطفين من قبل الله خصوصاً وأن الحديث النبوي الشريف اعتضد بالنصوص القرآنية والأصح أنه كان مترتباً عليها وجاء بلاغه امتثالا للأوامر الإلهية كما في قوله تعالى {{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}} وأمثالها من الآيات الكريمة التي بينت أهمية ولاية الأمر وجاءت صريحة في سلب اختيار المسلمين في من يمثلهم ويقوم على أمرهم وبينت أن الاختيار بيد الله يصطفي من يشاء سواء فيما يتعلق بنبوة ورساله أو إمامة وولاية أمر المسلمين بعد رسول الله .
وفي الواقع إن تبيان ولاية الأمر وتحديد الولي المختار لله ورسوله لم يقتصر على حادثة الغدير التي نصّب فيها رسول الله صلى الله عليه وآله الإمام علي -عليه السلام- ولياً للمسلمين وأميراً للمؤمنين وخليفة له ووصياً على أمته وإنما جاءت حادثة الغدير كمراسم تنصيب وإشهار نهائي وفعالية ختامية في جمع من المسلمين هو الأكبر والأعظم بالنسبة لعصر الرسالة لإكمال الحجة لعموم المسلمين وتنجيز الأمر الألهي عليهم بدليل أنه قد سبق وان أوضح رسول الله في أكثر من موضع وواقعة وحادثة وأشار لصحابته بصريح العبارات أن علياً هو الخليفة المختار وهو الوصي المصطفى والحاكم الشرعي ومن له وإليه ولاية الأمر من بعده وما حديث الدار الذي كان في بداية بعثة رسول الله إلّا خير شاهد على ذلك وكذلك حديث المنزلة وحديث الراية وغيرها من الأحاديث المتواترة الصحيحة أيضاً الآيات القرآنية الكريمة التي التي بينت منزلة الإمام علي ومكانته وحددت موقعه من ولاية الأمر وأشارت إلى إصطفائه واختياره لتلك المكانة العظيمة والمهمة الإلهية الجليلة وقد أجمع أكثر المفسرين وأغلب المحدثين صحة نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي وهي قوله تعالى {{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }} وغيرها من الآيات التي بينت مكانة الإمام علي وأحقيته في ولاية أمر الأمة الإسلامية وخلافة رسول الله.
فلتة السقيفة
هكذا سمّى الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب بيعة ابي بكر وما جرى في سقيفة بني ساعدة من أحداث مؤسفة تُعدّ في الجملة انقلابا صارخاً على الحكومة الإسلامية وولاية الأمر المختارة لله ومخالفة صريحة لوصية رسول الله ورد الآيات والروايات وتجاوز الحدود فيما يتعلق بالأوامر الإلهية وشق صف المسلمين والنيل من وحدتهم وقوتهم ذلك والرسول صلى الله عليه وآله ما يزال مسجى بين أيدي أهل بيته لم يدفن بعد، أذ أخرج البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل أسموه بحديث السقيفة ، قال فيه عمر ابن الخطاب ((نَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)).
أيضاً ذكر هذا الحديث السيوطي في تاريخ الخلفاء وابن كثير في البداية والنهاية وابن هشام في السيرة النبوية وابن الأثير في الكامل والطبري في الرياض النضرة والدهلوي في مختصر التحفة الاثني عشرية وغيرهم الكثير.
والحق إنها فلتة كما سمّاها عمر والحق أيضاً أن شرها كان عميماً على المسلمين وترتب عليها الصراع والنزاع والفرقة والاختلاف الذي لم يُحسم إلى يوم الناس هذا والتيه والضلال والحيرة والردة والنكوص وقد أعقبت حادثة السقيفة التي بويع فيها أبو بكر من الفتن والعداوة والمحن ما فيه العبرة والمزدجر وحري بعمر ابن الخطاب ان يقول عنها ” فلتة!” كيف لا وقد خرجت من الإسلام الجموع الغفيرة وقُتل من الصحابة من قُتل وشُرّد منهم من شُرّد ونُفي من نُفي وهُضم أصحاب الحق وسُلب مستحقهم وأُزيح عن المراتب أهلها وأوذيت الزهراء فلذة كبد المصطفى في زوجها وبنيها وورث أبيها، حتى قامت الحرب بين المسلمين وتسعرت لظاها وسفكت الدماء وأُزهقت أرواح الأبرياء وهُتكت الأعراض واستحلت الفروج والحرمات.
وليس هناك أبلغ في توصيف حال صاحبة رسول الله والمسلمين بعد فلتة السقيفة من قول عائشة بنت أبي بكر (( أرتدت العرب قاطبة وأشرأبَّت النِّفاق وَصَارَ أصحاب محمَّد صلَّى الله عليه سلم كأنَّهم معزى مطيَّرة في حش في ليلة مَطِيرةٍ بأرض مسبعة)).
مشروعية ولاية الغدير ومشروعية فلتة السقيفة
الجدير بالذكر هنا أن بيعة الغدير وولاية أمير المؤمنين علي -عليه السلام- لها مستندها الجلي من النص القرآني وكذلك الحديث النبوي الشريف والنصوص متضافرة ومستفيضة جاء بها القرآن وملأت الكتب الروائية وهناك بحوث وتحقيقات لا حصر لها على طول مراحل التاريخ الإسلامي حول ولاية أمير المؤمنين علي -عليه السلام- وحقه في الخلافة وفي الحد الأدنى أن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قوله وفعله وتقريره حجة بإجماع المسلمين هو من أوقف الجموع وقام في ذلك المحفل العظيم وهو من رفع يد الإمام علي وهو من أمر بولايته وبيّن حاكميته ونصبه خليفة له “من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه واخذل من خذله” و”اني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض “وليس هنالك قول أبلغ في البيان ولا أوضح من هذا بالنسبة لمن يحرص على تنصيب حاكم أو تعيين خليفة له على أمته.
وفي المقابل لا ننكر أن القائلين بمشروعية بيعة السقيفة لهم مستندهم من القرآن والسنة ولكن مستندهم لمشروعية تلك البيعة متقوم بقوله تعالى {{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }} أو بالأصح هو أهم الأدلة لديهم وأوضحها وحجتهم الحجيجة على مخالفيهم ولست هنا بصدد مناقشة هذا الدليل ومحاكمته والمعلوم أنه لا يستقيم ولا يدل على مشروعية الولاية والحاكمية على المسلمين وأيضاً لو تنازلنا جدلاً وقلنا بأن الشورى وتصويت أهل الحل والعقد هو مشروعية للحاكمية وولاية الأمر الإسلامية فان الذي حدث في سقيفة بني ساعده ليس شورى ولا يمت للأمر الشوروي بصلة لأنه لم يحضر السقيفة عامةُ المسلمين بل لم يحضرها كل أهل الحل والعقد من مختلف الأصقاع والقبائل المسلمة وإنما كانت حصراً بين جمع من المدينة وآخر من أهل مكة وهذا واضح كذلك بدليل تسمية عمر لها بالفلتة، والفلتة هي الفجأة والعمل الذي يحدث بلا تروٍ وتدبير، والأمر الذي يحصل دون تروٍ ولا تدبير لا شك ولا ريب أنه غير عقلاني ولا ينتج عن أهل الحل والعقد مطلقاً والأمر غير العقلاني لا يمضيه شرع ولا تدل عليه سنَّة، فإذا كان عمر ابن الخطاب بصريح العبارة ينفي أن تكون بيعة أبي بكر شورى بتوصيفه لتلك العملية الانقلابية بالفلتة برغم أنه مهندسها والداعي إليها وأول المبادرين لها نستطيع القول لكل من يدعي أن تلك البيعة كانت مشروعة بزعم أنها شورى “أنت مجانب للحق والصواب وتريد أن تكون ملكياً اكثر من الملك” لأن صاحب المشروع ومهندسه الأول والداعي إليه ينفي كونه شورى بل يُصدر فتوى صريحة بقتل كل من يعود لمثل تلك البيعة التي باع أصحابها جراءها دينهم وضمائرهم وخانوا عهودهم مع الله ورسوله وولي أمرهم الشرعي.
أيضاً توصيف عمر لبيعة ابي بكر بالفلتة يدل على عدم أفضليته وعلى عدم جدارته للحكم والولاية ويصدق القول إن كل ما قيل من فضائل لأبي بكر كانت مختلقة لا أكثر لتصويب ما حصل من تجاوز في سقيفة بني ساعدة ومحاولة شرعنة تلك الفلتة التي ما زالت الأمة تعاني الويلات والمهانات على إثرها وتعيش الفرقة والاختلاف والصراعات المذهبية والطائفية والقتل والخراب إلى يوم الناس هذا.
وختاماً : كل نفس ألهمها الله فجورها وتقواها وبيَّن لها طريق الخير وطريق الشر وأوضح سبل الوصول إليه ومعية أوليائه وكذلك سبل اتباع الشيطان وحزبه والكل مسؤول ومحاسب والموعد القيامة والحكم من لا يغادر صغيرة ولا كبيرة وليس هنالك ما هو أهم من الولاء لأولياء الله والبراء من أعدائه مما سيحاسب عليه المسلم ويجده حاضراً في صحيفة أعماله.
وأيضاً ليس هنالك ما هو أخطر من التفريط في مشروع الله والاستهانة بإرشاداته وتعاليمه والتسبب في إبعاد الناس عن منهج الحق والفرقة والصراع الذي نتج عنه قتل مئات الآلاف من الأنفس المحرمة .
والحاصل أن كل مسلم بعد فلتة السقيفة مُخيّر بين طريقين لا ثالث لهما وبين ولايتين إحداهما أكد عليها القرآن وأرشد إليها وبلغها نبي الأمة وهاديها وأخرى ليست أكثر من فلتة! على لسان صاحبها والداعي إليها وفي هذا عبرة لمن اعتبر، فاختر لنفسك ما شئت من السبيلين وكل نفس بما كسبت رهينة..