عادة ضاربة في جذور التاريخ يمتد عمرها إلى أكثر من1200 عام
“المدرهة”.. موروث يمني قديم ارتبط بموسم الحج
الثورة / يحيى الضلعي
رغم العدوان السعودي الأمريكي الغاشم المستمر على بلادنا منذ نحو 6 سنوات، إلا أن الطقوس الشعبية الخاصة بالمناسبات الدينية لم تمنع اليمنيين من إحياءها، ولعل أبرز تلك الطقوس المدرهة أو «الأرجوحة» الصنعانية المرتبطة بموسم الحج، خصوصاً أن تلك العادة مرتبطة بذكريات الطفولة والفرح والأمنيات للحجاج بالعودة من الحج بالسلامة..
وسيلة احتفاء واحتفال
ويرى الكثير من المؤرخين أن المدرهة في اليمن تعود إلى أيام الحج على ظهور الجمال والبغال، حيث كانت فترة الحج تستمر من 3 إلى 4 أشهر، دون وجود وسائل اتصال بين الحاج وأهله، ما جعل المدرهة وسيلتهم الوحيدة لبث أشواقهم وأمانيهم له بالعودة سالماً، فضلاً عن أنها أرجوحة شوق الأهالي لحجيجهم والاحتفاء بهم باحتفالات خاصة تحمل الحب والشوق لهم، والدعوات والتمنيات الطيبة بعودتهم..
تأرجح وأهازيج
وتبدأ مراسم الاحتفال بالحجاج منذ سفرهم وحتى عودتهم وتستمر الأهازيج طوال اليوم وفي معظم ساعات الليل كما كان الرقص الشعبي (البرع) مرافقاً للمدرهة وأهازيجها، وهي أرجوحة تُنصبُ في إحدى الساحات أو في أفنية المنازل المزيّنة بالمصابيح وغيرها، ثم يتناوب على التأرجح عليها أقارب الحُجَّاج وسكان الحي رجالاً ونساء، أطفالاً وشيوخاً..
وتقام المدرهة بنصب عمودين خشبيين يصنعان من الأشجار القوية كأشجار الطلح أو أشجار الأثل، ويتم ربطهما بحبال قوية ومتينة تسمى حبال السَّلب، وهي شجيرات صبارية سيفية سميكة حادة الرؤوس، ثم توضع فوق العمودين خشبة ثالثة، يتدلى منها حبل توضع في وسطه خشبة صلبة، وقد صارت في ما بعد تصنع من الحديد..
ويظل الرجال والنساء والأطفال أيضاً، يتناوبون التأرجح عليها وهم ينشدون الأغاني الخاصة بالشوق إلى الحجاج متمنين لهم الحج المقبول والعودة الميمونة طوال النهار وردحاً من الليل..
وتصاحب “المدرهة” أهازيج وابتهالات دينية، ورقص شعبي وطبول، ويردّد الناس أهازيج مختلفة منها: “يا مدرهة يا مدرهة.. مال صوتش واهي (صوتك ضعيف).. قالت أنا واهية وما حد كساني.. كسوتي رطلين حديد والخشب رُمّاني”، وحال صعود المدرهة تُردَّد أهازيج؛ منها: “وقد طلعت المدرهة وفي حفظ رحماني.. وفي حفظ واحد كريم هو قط ما ينساني”..
ومن بين الأهازيج والقصائد الشهيرة في صنعاء القديمة، “لو تبصروا (تنظروا) يا حاضرين، حين قال مع السلامة، لا.. والمسبح (المؤذن) قام صاح، وشل بالجلالة (ردد اسم الله)، صرَّ المكان من وحشته، ودمَّعوا جهاله (بكى أطفاله)”. .
ويُستخدم مع “المدرهة” الأشجار، ومنها شجرة الرمّان، في الأعمدة بعد التأكّد من كونها ستتحمّل الفترة الزمنية والأشخاص الذين سيستخدمونها، ويُنذر انكسار تلك الأعمدة بالشؤم من أن الحاجّ قد يصيبه مكروه..
شهرة واسعة
وفي بداية ظهورها قبل المئات من السنين، حظيت المدرهة بشهرة واسعة في صنعاء القديمة، قبل أن تنتشر في الأرياف والقرى اليمنية، حسب دراسات تاريخية..
ولعقود لم تؤرّخها الكتب حافظ اليمنيون على هذه العادة، وانتشرت في كثير من المدن وظلّت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموسم الحج، إلا أنها مؤخّراً أصبحت في بعض المناطق لعبة للأطفال في الأعياد والمناسبات بعيداً عن كونها مرتبطة بالحج..
ومن الملاحظ أن هذه العادة قد قل الإقبال عليها من قبل الناس نتيجة مشاغل الحياة وبسبب وجود أماكن ترفيه أكثر والتي يجدها البعض أفضل، وإثر ذلك تكاد الكثير من التقاليد والممارسات الشعبية الجميلة وأشكال التراث، تنقرض قبل أن يجري توثيقها، ومنها تقاليد الحجيج التي بدأت في الاندثار، فلم يعد الخوف واسعاً على الحاج الذي يسافر على طائرة تحمله في ساعات قليلة إلى الأراضي المقدسة، واختفت مشاعر الاحتفاء الجميلة بوداع الحاج أو استقباله لكن العودة إلى إحياء هذه التقاليد يمثل انطلاقة جديده لحفظ التراث الشعبي والديني الذي يزخر بالكثير من الثراء والغنى الثقافي·..
طقوس مهددة بالأندثار
وعلى الرغم من أن هذه العادة التاريخية وطقوسها باتت مهددة بالاندثار، إلا أن جهوداً رسمية ومجتمعية وفردية خجولة تحاول إحياءها والحفاظ عليها بعدما كانت حاضرة إلى عهد قريب في معظم منازل مدينة صنعاء القديمة..
مختصون في التراث الشعبي أعربوا عن أهمية المحافظة على أهم التقاليد العيدية راجين من الجهات المختصة أن تكون بمثابة تقليد سنوي..
ويؤكد أهالي صنعاء القديمة على أنهم لا يزالون مع بعض جيرانهم يمارسون هذه الطقوس التي قالوا عنها أنها تعمل على تطوير العلاقات الاجتماعية بين الناس في صنعاء القديمة، مؤكدين أنها سائرة على طريق الانقراض إذا لم يتم توثيقها وتفعيلها في المناسبات الاجتماعية والدينية، مشيرين إلى أن مثل هذه الأنواع من العادات والتقاليد تعد وجهاً سياحياً لليمن باعتبارها تقليد عريق يجسد حكاية الإنسان اليمني الذي يعبق بتاريخ عريق وتراث إنساني خصب..
وسعى العديد من الناشطين في الحقل الثقافي والمجتمع المدني إلى تحفيز الرأي العام المحلي والخارجي للاهتمام بالموروث الشعبي، والكشف عن وجه من أوجه الإبداع الإنساني الشعبي بتوثيق تقاليد الحجيج كتابياً، وصوتيا ومرئياً ليكون مرجعًا للمهتمين والدارسين..
وتعود بداية المدرهة في اليمن حسب المصادر التاريخية إلى أكثر من 1200 عام، وأصبحت تقليداً سنوياً للتذكير بموسم ذهاب وعودة الحجاج وإحياء للتراث الشعبي الذي يزخر به اليمن..
الجدير بالذكر أن اسم المدرهة مشتق من (المدْرة)، وقد عرف المؤرخ نشوان الحميري المدرهة في موسوعته الشهيرة (شمس العلوم)، مؤكداً أن كلمة المدرهة تسمية عربية فصحى.