عقل القضاء ؟
أحمد يحيى الديلمي
من أبشع جرائم النظام السابق أنه عمل على تفريغ القضاء من أهم مضامين وجوده وحوله إلى دكاكين مفتوحة للمتاجرة بقضايا الناس ومنع إشاعة العدل الذي أنشئ من أجله هذا الجهاز ، فأهتم بالشكليات والماديات فقط من أجل التحكم في مسارات التقاضي وصدور الأحكام المحققة لرغبات ذاتية وإرادات فوقية وإن تعارضت مع شرع الله والنظم والقوانين السائدة.
في ضوء ذلك تراكمت الاختلالات وزاد الفساد والإفساد وأصبحت العملية في خدمة من يدفع أكثر وأصحاب الجاه والسلطان ، وهذا هو السبب الذي لا نزال نعاني منه حتى اليوم كونه تحول إلى صعوبات وسلوكيات مرعية عند البعض ممن رأو في القضاء وظيفة للهبر والنهب والاستفادة من هذا العمل شأنه شأن أي وظيفة في الدولة ، متناسين أن هذه هي السلطة الثالثة الحقيقية وأن مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء ومقتضيات العدالة أولى بالرعاية والاهتمام والبحث والتحقيق ، لذلك يأتي اليوم دور هيئة التفتيش القضائي المعنية بالنظر في شكاوى المواطنين بالقضاة ، فبيدها رفع الظلم عن الشاكين إن ثبت أن القاضي أخل بشرط من شروط التقاضي أو تعارض أداؤه مع القوانين والأنظمة ، فالهيئة في الأساس شوكة ميزان وكلما أرتقى أداء موظفيها أوقف التمادي في الظلم وتقلصت الأخطاء والتجاوزات التي أفقدت المواطن الثقة بالقضاء ، أي أن هذه الهيئة المدخل الوحيد لاستعادة ثقة المواطن إذا تعاطى موظفيها بمصداقيه وموضوعية وأسهموا في تصحيح مسار القضاء وشكلوا رقابة على القاضي ليقوم بواجباته ويبذل عناية خاصة في التحري ومعرفة الحقيقة كوسيلة لإنصاف المظلوم من الظالم ، أي أن يكون العمل بوازع من الضمير الذاتي وصدق الإيمان بما يفرضه من التزام خوفاً من رقابة الخالق سبحانه وتعالى ، لتصب الرقابة البشرية المخولة لموظف الهيئة ما هي إلا مجرد عامل مساعد لمحاسبة كل قاض يُخل بقواعد العدل والقوانين الناظمة ، كأن يقع في أخطاء مهنية جسيمة أو يغش في التقاضي أو يخرج عن حدود الولاية المحددة له أو يباعد بين أزمنة الجلسات بأسلوب التسويف والمماطلة وإعطاء الفرصة للخصم المدعي للبحث عن أدلة تدحض ما لدى الآخر من وثائق ثبوتية دامغة ولو من خلال التزوير واستنساخ أوراق كاذبة ، وهناك أساليب أخرى أشد ضرراً على الأداء تتمثل في العدل البطيء وتوسيع المسافة الزمنية بين الجلسات للتلاعب والمماطلة ، وهذا الأسلوب ممقوت رفضه إمام المتقين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال ( العدل البطيء أبشع أنواع الظلم ) وهنا تكمن الخطورة في مهام ومسئوليات عضو التفتيش في القضاء أو النيابة فتضفي على المهمة ما يشبه القداسة كون موظف التفتيش مؤتمن ومسئول عن تقويم المسار وتصحيح الأخطاء والتجاوزات ، لذلك أعتبر علماء القانون هيئة التفتيش عقل القضاء ومحور ارتكاز سلامته ، وهذا ما يجب أن يُدركه كل عضو يعمل في الهيئة سواءً التابعة للقضاء أو النيابة فيحرص على سلامة الأداء ويُسهم في نشر العدل ورفع الظلم عن المظلومين ترجمة لإرادة الخالق سبحانه وتعالى ، ومن جانب آخر العمل على استعادة ثقة المواطن بهذا المجال الحيوي الهام.
أكتب هذا الكلام وكلي أمل وثقة كبيرة في القاضي أحمد الشهاري رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي لا أعرفه شخصياً إلا أني سمعت عنه كلاماً طيباً من أصدقاء أثق فيهم والأمل أن يُحدث نقلة نوعية ويتبع سياسة فاعلة تتجاوز المقولات الساذجة مثل ( أدهن ظهري أدهن ظهرك ) أو تبادل المنافع على قاعدة ( اليوم أنا محقق وغداً أنا قاضي سيحقق معي نفس الشخص الذي يقف أمامي اليوم ) وغيرها من الأفكار الساذجة التي سادت وكانت سبباً في إهمال شكاوى المواطنين المحقة ، وفي بعض الحالات قمع من يرفع صوته ويشكو بالقاضي وتهديده بالعقاب حتى يُقلع عن الشكوى.
في كل الأحوال يجب أن يشهد القضاء ثورة شاملة تبدأ من جانب التأهيل والإعداد للقاضي والتركيز على الاهتمام بتنمية وعية ورفع قدراته لإكسابه صفات الفهم السريع ، واستيعاب دلالة التقاضي بأفق إيماني صادق يجمع بين الالتزام بأحكام وتعاليم الدين القويم والفهم السليم والواعي للقوانين المنظمة للمهنة بقصد التعاطي مع هذه المهمة برغبة الفوز برضاء الله سبحانه وتعالى ، وأن تصبح مخافة الله عامل داخلي في ذات الشخص لانضباط السلوك وتوجيه القاضي لاختيار الطريق الأمثل المُجسد للعدل في كل القضايا المنظورة أمامه ، فالفهم الواعي لنصوص الشرع القويم وأصول الفقه والقوانين الناظمة عناصر متلازمة لا يستغني عنها أي قاض يتولى القضاء ويفصل في الخصومات بين الناس ، إضافة إلى قدرات الفهم الذاتية ممثلة في سرعة البديهة ومعرفة خفايا الأمور من خلال التدقيق في شخصية المتقاضين ، وهذا ما كنا نعرفه عن الكثير من القضاة في الماضي فلقد كانوا يتجنبون الأخطاء ويسعون إلى توفير العدل بكل تفاصيله ، فمن غير المقبول ولا المنطقي ولا العدالة أن يبقى الحبل على الغارب كما هو عليه اليوم بمعزل عن سيادة مبدأ الثواب والعقاب ، فالقضاء معقم الدولة والركن الأساسي في إثبات هيبتها واستعاده ثقة المواطن بها ، أرجو أن يجد مثل هذا الكلام الاهتمام من قبل المعنيين في الدولة والقضاء.. والله من وراء القصد..