من وحي مدرسة الصوم3 (العطاء أرقى حالات الأخذ)!
عبدالعزيز البغدادي
لطالما أجهد الوعاظ أنفسهم بكثرة المواعظ حول مشروعية الصوم وأهميته والحكمة منه دون أن نلمس فوائد تراكمية في نفوس وعقول الصائمين تتناسب وحجم هذه المواعظ؛
ولأن رمضان في الإسلام محطة اختبار ومراجعة سنوية تتأسس على الصوم الكامل عن الطعام والشراب وكل الرغبات والشهوات من الفجر إلى المغرب أي حوالي اثنتي عشرة ساعة فإن هدفها الأساس والمباشر هو تذكير الأغنياء بحاجة الفقراء ومعاناتهم جراء قلة ما بأيديهم ، لكن هذا الهدف إذا ما أمعن فيه المتأمل يبدو على قدرٍ من السذاجة لسبب بسيط جداً وهو أن طاحونة المعاناة من الروتين اليومي لتعامل الإنسان مع حياته وبحثه عن السعادة تجعل الأغنياء والمترفين يعيشون حالة لا تقل بؤساً عن حالة من يعانون الفقر والجوع بل ربما كانت بعض حالات المعاناة من التخمة وضياع الروح تدفع بالطبقة الغنية إلى مآسٍ يصعب وصفها ، فمن يمتلك كل الاحتياجات المادية وفي ذات الوقت يفتقر إلى الشعور بالسعادة فإن علاجه أصعب من علاج من يحلم بوجبة تُشبعُ جوعهُ إن لم يكن ضربٌ من المستحيل أي أن فقر الروح أحياناً أشد فتكاً من فقر المادة وحين نقول أحياناً فإننا نقصد بذلك حالة الأغنياء الذين لا يستوعبون الرسالة الواجب عليهم القيام بها ليكونوا أغنياء فعلاً ، فمن يقلب صفحة الذاكرة منا جميعاً سيجد نماذج ممن نراهم أغنياء وهم في الواقع أفقر مما نتصور !!
إن المال أمانة بيد من يملكه ظاهراً يتوجب على من يحملها إدراك كيف يؤديها ويقوم بحقها عليه وأي ملكية مسؤولية على المالك توازي مقدار ما يمتلكه أو كما يقال: (من كبرت له الدنيا كبرت عليه) أي المسؤولية ، وهذه ليست دعوة إلى البقاء في خانة الفقر بل على العكس فالمرء مطالب بأن يسعى جهده نحو الغنى بالطرق المشروعة وأن يستعين بالله على ذلك وهو مطالب بأن يؤدي ما على المال من حقوق وواجبات دينية وقانونية وأخلاقية مع لزوم الاعتدال أي بما يحفظ حق هذا الإنسان الساعي ونتاج جهده وحق الله والناس عليه ، والغني بهذا المعنى صاحب رسالة لا تقل عن رسالة العلماء بل إن بعضا من رجال الأعمال الشرفاء الذين يؤدون ما عليهم من واجبات أفضل عند الله والناس من بعض العلماء الذين يقولون ما لا يفعلون ! وما أندر هذا النوع من رجال الأعمال الأغنياء حقاً وما أكثر المرابين الجشعين الذين يقفزون للغنى على ظهر صاروخ المغالاة والتحايل والتطفيف والغش واستغلال الدين واستخدام أعمال البر للدعاية والإعلان ما أكثر هذه المظاهر التي حولت المظاهر الدينية إلى وسيلة للنهب والسرقة في عصرنا هذا ، وما أكثر مدعي العلم الذين لا يعملونْ بما يعلمونْ !؛
الصومُ مدرسةٌ ينبغي أن نتعلم منها كيف نصوم ولِمَ الصيام وفي الحديث الشريف: (رُبَ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)؛
ومحطة الصيام السنوية يُفترضُ أن ينتج عنها بناءً تراكمياً على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع المسلم ، بدلاً عن تراكم العادات السيئة التي تؤدي إلى تغييب الحكمة من شهر الصوم وتحول الصدقات والهبات التي توزع فيه إلى مظهر من مظاهر البؤس وتنميته بتشجيع ممتهني التسول على الاتكال والعجز والضعة !،
ينبغي أن نتعلم من هذه المدرسة كيف نحول الأخذ والعطاء بين الأغنياء والفقراء إلى نظام ينهي حالة الفقر وينمي حالة التكاثر الذي يلهم ويحفز على العمل ولا يلهي ويضعف ويسمو بالنفوس إلى حالة التكامل بين الأغنياء والفقراء بالمشاريع الخلاقة المبدعة التي تبتكر أفضل الطرق لمساعدة الفقراء كي يتخلصوا من حالة الذل والمهانة ويشعروا بأنهم يعطوا مقابل ما يأخذوا ، ويتخلص الأغنياء من حالة الزهو والخُيلاء ليعرفوا أن العطاء هو أرقى حالات الأخذ إذا تم في إطار مشاريع مدروسة هدفها القضاء على حالة البؤس ، فالأخذ والعطاء هما ثنائية إيجابية الحياة ومصدر السعادة فيها ، ومن يتأمل ما يؤدي إليه الصوم من صفاء الذهن وانفتاح العقل نتيجة الامتناع عن الطعام وبقية ملاذ وشهوات الحياة يجد أنه يساعد على التذكير بأهمية العلاقة بين المادة والروح التي تصل أحيانا إلى حالة التماهي والانصهار بما يخلق الرغبة في إعادة النظر بكثير من السلوكيات المندفعة نحو الاستسلام إلى الغرائز لأن الإنسان كائن حي في سعيه لإشباع حاجاته ورغباته تتضارب بداخله الغريزة مع العقل فإن تغلب العقل كان اقرب إلى الإنسان وإن تغلبت الغريزة كان أشر من الحيوان المفترس والإنسان الغرائزي المفترس يدعم غرائزه باستخدام أدوات للافتراس خارجة عن القدرات الذاتية التي يستخدمها الحيوان المفترس للانقضاض على فريسته أو ضحيته كالأسلحة النارية والسموم ومختلف فنون القتل والافتراس أما الحيوان المفترس فلا يملك سوى الأنياب والمخالب !؛
الصوم الحقيقي حديقة مفتوحة مليئة بالثمار والأزهار
لا يراها غير الصائم فعلاً
يقتات منها العقل
ويتغذى الجسد
ترتوي الروح بالصيام وتزكو
والأماني تشدو بها الأحلامُ .