أثر النوم على صحة الإنسان
رمضان.. بين الطب والدين
النوم مفتاح صحة الإنسان الجسدية والعقلية والنفسية، واحتياج فطري أزلي ، ولغز غامض لا يتوقف العلم عن اكتشاف خفاياه لكن… ما الذي يعنيه” النوم الجيد ” الذي يؤكد عليه الباحثون حول العالم؟ ولماذا يعد النوم ليلاً وعند الظهيرة صحيّاً ؟ هل كان الإنسان البدائي محقاً عندما ترك للشمس أمر تحديد مواعيد نومه ويقظته و جوعه ؟ وكيف يتأثر النوم بما نتناوله من مأكولات ومشروبات؟ وهل من رابط بين النوم والجوع؟ وصولاً لمعرفة ما الذي يعنيه النوم نهار ” رمضان ” طبياً ودينياً ؟
فالمسلمون يقلبون الليل نهاراً ليناموا من الفجر إلى أن تغيب الشمس بعد تناول وجبة ” السحور “، إنها عادة قديمة لمنع الجوع ليتجاوز الأمر ذلك إلى الرغبة في ممارسة الحياة ليلاً ، ما دفع الرحالة (دو شابرول) للقول: ” المسلمون متناقضون في رمضان؛ حيث يجمعون التوبة وتطهير النفس بالملذات “.الثورة / سارة الصعفاني
للحرمان من النوم تأثير سلبي على وظائف المخ وعملية التمثيل الغذائي والهرمونات والجهاز المناعي إذ يؤثر النوم على ما يُعرَف بالساعة البيولوجية في الجسم، وهي المسؤولة عن تنظيم مختلف العمليات التي تحدث في الجسم ضمن إطار 24 ساعة، من النمو إلى الهضم ومروراً بتخزين المعلومات في الذاكرة، وتعمل بانتظام مع دورة الليل والنهار.
وربطت دراسات علمية بين النوم الكافي المنتظم ونشاط الهرمونات المسؤولة عن الشهية؛ فعندما لا ينام الشخص بشكل كافٍ، تنخفض قدرة الجسم على استهلاك الكم الكافي من الطعام و يقل تحكمه في تنظيم العملية الرابطة بين العقل ومؤشرات الجوع.
وبحسب “الدكتور شهيرة لوزا” استشارى طب النوم بمركز القاهرة لاضطرابات النوم ” نقص النوم يؤثر على توازن الهرمونات المتحكمة في الشهية، فنجد صعوبة في الصيام؛ لأن الشهية تزيد بالإضافة إلى أضرار قلة النوم الأخرى مثل النعاس المفرط والتعب والإجهاد والخمول”.
وأشار الخبير في طب النوم بمركز اضطرابات النوم التابع لكليفلاند كلينك الدكتور فيشال شاه إلى أن قلة النوم يمكن أن تجعل الصوم أكثر صعوبة إذ يُحفّز النوم العميق الجهاز المناعي ويساعد على تنظيم هرمونات التحكم بالشهية.
ولفت إلى أن جهاز المناعة يُطلق أثناء النوم بروتينات تسمى «السيتوكينات»، التي يساعد بعضها في الحماية من العدوى والالتهاب، ويتسبب «الحرمان من النوم الجيد» في انخفاض إنتاج السيتوكينات والأجسام المضادة اللازمة لمحاربة العدوى.
ويؤثر الحرمان على صحة ما يصل إلى 45٪ من سكان العالم، وفقاً لإحصاءات يوم النوم العالمي، ووفقاً لمؤسسة النوم الأمريكية فإن 1 من كل 3 أشخاص بالغين في أمريكا لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم.
وبحسب استطلاع أجرته الجمعية الأمريكية للطب النفسي عام 2013 فإن ما يقرب من 40 ٪ من الأمريكيين غالباً ما يشعرون بالإرهاق أو التعب بسبب الإجهاد.
وأثبتت دراسات علمية أهمية الحصول على ساعات كافية من النوم في ظلام الليل إذ ربط العلم بين قلة النوم ونوعيته وارتفاع ضغط الدم، وضعف الجهاز المناعي، وزيادة الوزن، وتقلب المزاج، والاكتئاب، وارتفاع خطر الإصابة بمرض السكري، والسكتة الدماغية، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والزهايمر وبعض أنواع السرطان كما يؤثر النوم على المواد الكيميائية التي يفرزها جهاز المناعة في الجسم ، والتي تساعد في مكافحة الفيروسات.
وخلصت دراسة علمية قدمت إلى مجلس أبحاث القلب في ميونخ بألمانيا إلى أن الذين ينامون أكثر أو أقل من 6 إلى 8 ساعات في اليوم أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والشرايين أو الوفاة، وقال معد الدراسة إبامينونداس فانوتاس، من مركز أوناسيس لجراحة القلب في أثينا في اليونان “ما خلصنا إليه هو أن النوم الزائد عن الحاجة أو النوم أقل من اللازم قد يضر بالقلب ؛ فالنوم يؤثر على العمليات البيولوجية مثل تمثيل الغلوكوز وضغط الدم والالتهابات “.
وقال فرنانديز ميندوزا طبيب نفسي في مركز “Penn State Health” الطبي في ولاية بنسلفانيا الأمريكية في ذات دراسة
: “لا نقول إن النوم القصير كان سبباً للسرطان، بل نعلم أن الأشخاص الذين يعانون من أمراض القلب هم أكثر عرضة للإصابة بمشاكل مناعية ومرض السرطان، ونعلم أن هناك صلة وثيقة بين النوم والجهاز المناعي، لذلك هؤلاء الأشخاص لديهم مستويات التهابات مرتفعة”.
وطبقا لمؤسسة النوم الأمريكية أن القدر الكافي من النوم للبالغين يكون ما بين 7-9 ساعات، وعشر ساعات للرياضيين؛ كون النوم بأهمية النظام الغذائي الصحي، وخلصت إحدى الدراسات التي نشرت في مجلة SLEEP إلى أن الأشخاص الذين يحصلون على تمرين لمدة 60 دقيقة، خمسة أيام في الأسبوع، لديهم نوم REM طبيعي أكثر من غيرهم.
وفي حديث لـ اخصائية النوم كيت ليديرلي مع مجلة Glamour UK أكدت أن عدم القيام بالحركة الجسدية خارج المنزل في النهار لفترة طويلة يؤدي إلى تراجع مستويات الفيتامين D، وحدوث خلل في الساعة البيولوجية للجسم لا تمكنها من إرسال إشارة النوم في الوقت المناسب إلى الدماغ، متسبباً بالنوم في وقت متأخر من الليل أو المعاناة من الأرق.
وبحسب تقرير نشر في مجلة Scientific Reports ، وجدت الدراسة أن قلة النوم تؤدي إلى تغيرات في الجينات المسؤولة عن تنظيم مستويات الكوليسترول في الدم.
وقالت الدراسة أن الناس الذين يعانون من الحرمان من النوم قد يكون لديهم نسبة أقل من البروتينات الدهنية عالية الكثافة (HDL) – المعروفة باسم الكوليسترول “ الجيد” – من أولئك الذين يحصلون على وقت كافٍ للنوم، والكوليسترول الجيد هو المسؤول عن إزالة البروتينات الدهنية منخفضة الكثافة (LDL) من الشرايين، والتي يسببها الكوليسترول “الضار”، ويتسبب الكولسترول الضار LDL في تصلب الشرايين – تراكم الترسبات في الشرايين- التي يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية و السكتة الدماغية.
وقال باحث في جامعة بكين الدكتور ليمينج لي ضمن إحدى الدراسات ” إذا استطعنا مساعدة الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في النوم من خلال العلاجات السلوكية، فمن الممكن تقليل عدد حالات السكتة الدماغية والأزمات القلبية وأمراض أخرى”.
وحذر الباحث المشارك في الدراسة “فيلما آهو”، من جامعة هلسنكي من خطورة الحرمان من النوم : “أثبتت الدراسة التجريبية أن نقص النوم لأسبوع واحد فقط أدى إلى تغيير استجابة المناعة في الجسم ومعدل التمثيل الغذائي”.
وفي دراسة حديثة لمعهد علم المناعة، مركز ساوث وسترن الطبي ، جامعة تكساس ، الولايات المتحدة الأمريكية وجدت أن البقاء حتى وقت متأخر من الليل يمكن أن يؤثر على الجراثيم المعوية، وهذا يؤدي إلى زيادة الأحماض الدهنية الغذائية وتخزين الدهون، مسبباً السمنة.
لكن النوم الجيد يقتضي عادات غذائية صحية ابتداء بقاعدة لا تتناول طعاماً قبل النوم حيث تفرز المعدة أحماض هاضمة وحدوث الارتجاع الحمضي للمريء، وتسوس الأسنان، وزيادة معدلات حرق الغذاء فى الجسم متسبباً بشعور اليقظة المرهقة في وقت استرخاء ما قبل النوم.
وفي حديث لـ CNN، قال استشاري الأعصاب في مجموعة مستشفيات “ميديكلينيك” في دبي، د.ديرك كريغر، أن أعراض “عكس” الساعة البيولوجية من خلال النوم نهاراً والسهر ليلاً تتضمن الشعور بالخمول الدائم، إلى جانب تراجع في النشاط الذهني كما أن تناول وجبات الطعام خارج الأوقات العادية يتسبب بمشاكل هضمية مثل فقدان الشهية والإمساك، ناصحاً الراغبين في إعادة تنظيم أوقات النوم بممارسة التمارين الرياضية قبل النوم بأربع ساعات أو أكثر.
ولأن تنظيم الساعة البيولوجية في الجسم يحصل في الدماغ، فإن اضطرابها يؤثّر على إفراز الهرمونات التي تسيطر على المزاج العام، لهذا السبب يعاني الأشخاص الذين يتأخرون عن النوم بمعدل 12 ساعة من المزاج السيء، ما قد يساهم في تأجيج أعراض أي أمراض عصبية قد يعانون منها في الأصل.
وفي دراسة علمية لمجلة الطب النفسي الأسترالية النيوزيلندية، فإن من يعانون من اضطرابات في النوم مثل الأرق من المرجح إصابتهم بالاكتئاب، حيث يقل إفراز هرمون “الميلاتونين” الذي لا يفرز من جانب المخ، إلا أثناء النوم العميق في ظلام الليل، ويعد مسكناً للآلام ومنظمًا لضربات القلب، متسبباً نقصانه في حدوث تباطؤ في عمليات النمو الخاصة بالخلايا الدماغية والإصابة بالزهايمر.
وأظهرت الدراسات التي أجريت على بعض الأشخاص الذين تتطلب أعمالهم السهر بانتظام في فترات مسائية، أن أعداداً كبيرة منهم أصيبت بمرض السرطان ونقص المناعة، وكلما زاد الطول الموجي للضوء، زادت قدرته على النفاذ عبر النسيج البصري والنسيج الجلدي، ونفاذ الضوء من الجلد إلى الخلايا الليمفاوية التي تسير في الدم عبر الأوعية الدموية الموجودة قرب سطح الجلد يسبب تثبيط قدرة هذه الخلايا على إنتاج وإفراز هرمون الميلاتونين؛ إذ تستشعر الغدة المسؤولة عن تنظيم مستويات النوم والطاقة حدوث تغيير في الضوء، وهذا ما يفسر أيضًا سبب النعاس في الظلام.
ويشير “الدكتور كريغر” إلى أن عملية النمو لدى الأطفال تحصل خلال النوم العميق، ما يعني أن السهر طوال الليل يجبر الجسم على إفراز هرمون النمو نهاراً عندما يكون الطفل نائماً على عكس طبيعة الجسم، ما يؤثر بدوره على نمو الطفل الجسدي والذهني.
أما بالنسبة للبالغين، فيوضح “الدكتور كريغر” أن التغيير الدائم في أوقات إفراز الجسم لهرمون النمو يعزز من إمكانية الإصابة بأمراض الدورة الدموية والبدانة، نظراً لأن عملية الأيض (حرق السعرات) تكون نشطة مع ساعات النهار الأولى وتتراجع ليلاً. كما يساهم السهر في خفض كثافة العظام، ما يزيد من هشاشتها خصوصاً مع التقدّم في السن.
ولمعرفة كيف يؤثر السهر سلباً على نشاط الدماغ أجرى مركز الصحة العقلية في جامعة “بيرمينغهام” دراسة مسحية لمتابعة إشارات الدماغ لأعضاء جسم الإنسان بين مجموعتين: الأولى تضم مَن ينامون في وقت متأخر (حوالي الثانية والنصف فجراً) ويستيقظون بعد العاشرة صباحاً، والثانية تشمل مَن ينامون قبل الحادية عشرة مساء ويستيقظون قبل السابعة صباحاً.
خلصت الدراسة إلى أن من ينام متأخراً عادة يعاني بالضرورة من ضعف التركيز ،وردود الفعل البطيئة، والرغبة الملحة في النوم.
لكن “إليس تشيلدز” رئيسة فريق العمل قالت: ” يمكن أن تكون هذه النتائج طبيعية بسبب أن المتأخرين في الاستيقاظ يعملون خارج ساعات تركيزهم حيث الدوام بين الساعة التاسعة صباحاً والخامسة مساءً “.
والنوم في أي وقت مفيد إذا كان الإنسان مرهقاً؛ مع الأخذ بالاعتبار أن الشعور المتكرر بالنوم من أهم أعراض نقص هرمون الثيروكسين الذي يفرز من الغدة الدرقية (hypothyroidism) حيث لا بد من مراجعة وظائف الغدة، وينصحنا العلماء بتفادي النوم في الأوقات ما بين الفجر وشروق الشمس أو بعد صلاة العصر أو بين المغرب والعشاء وأخذ قيلولة في منتصف النهار.
وعلمياً أخذ غفوة لمدة عشرة دقائق تعيد للإنسان اليقظة وتحسن من عمل وظائفه العقلية لكن توقيت الغفوة أيضًا مهم جداً، يقول الطبيب “جواد ميران” المتخصص في طب النعاس في مركز الطبي بولاية نيو جيرسي ” جعل الغفوة تستمر لوقت طويل أو تبدأ في وقت متأخر من اليوم قد يجعل الأمر صعباً على ساعتك البيولوجية، إذا أحتجت إلى غفوة لا تجعلها تزيد عن 20 دقيقة، وذلك سيجعلك في مرحلة النوم الخفيف و لا يجعلك تصل إلى مرحلة النوم العميق ، حيث في مرحلة النوم الخفيف تستطيع أن تستيقظ دون الشعور بالإرهاق أو التعب ”.
وتوضح الاستشارية “لوزا” كيف يمكن اختيار وقت استيقاظ سريع ومثالي : ” تدوم دورة النوم الكاملة لحوالي 90 دقيقة في المتوسط وتتكرر عدة مرات خلال الليل، فحتى لو حصلت على ليلة نوم كاملة فمن الممكن أن يكون الاستيقاظ صعباً؛ لأنك قد تكون في وسط دورة نوم، خاصة لو كانت خلال مرحلة النوم العميق.
وللتغلب على هذه المشكلة احرص على أن تحصل على عدد ساعات نوم من مضعافات الـ 90، فمثلاً إذا كنت تنام الساعة العاشرة ليلاً، اضبط منبهك لتستيقظ الساعة 5:30 بدلاً من السادسة صباحاً لتحصل على سبع ساعات ونصف نوم أي ما يعادل 450 دقيقة، وهو رقم من مضاعفات الـ 90؛ حتى تضمن أن تستيقظ بعد انتهاء دورة النوم وليس خلالها.
ويمكن تطبيق هذه الحيلة على مواعيد السحور، فإذا كنت تنام الساعة 11:00 وتريد أن تستيقظ للسحور الساعة 2:30، اضبط منبهك لتستيقظ الساعة الثانية بدلاً من 2:30 وستجد أن الاستيقاظ أسهل “.
من ناحية دينية كُتب الصيام لمقاصد لن تتحقق إن كان المسلم نائمًا نصف النهار أو كله، كما أن عدالة الله تقتضي أن لا يضيع صبر المسلم وجهده بنص القرآن ” أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض”، وفي حديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به).
يوضح الأمر الدكتور عبدالمعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية : “ليس معنى ذلك أن يتعمد الإنسان المشقة ولكن على المسلمين أن يعتادوا الصبر ويكونوا على يقين بأن عملهم من صيام وعبادة له أجر عظيم، وأن يستغلوا هذه الأوقات في العبادة وليس النوم وتضييع الوقت حتى يحصلوا على الأجر غير منقوص”.
وعن حكم الدين الإسلامي في النوم نهار رمضان يرى بيومي: “ الذي ينام طوال النهار ولا يستيقظ، عاصٍ لله عز وجل بتركه الصلاة في أوقاتها وعليه التوبة، أما من يستيقظ ويؤدي الصلاة المفروضة في وقتها ثم يعود إلى النوم فهو ليس بآثم، لكنه فوَّت على نفسه الخير؛ حيث الذكر والدعاء وتلاوة القرآن والصدقات ، والأجر المضاعف.
ويبقى لمحبي السهر دراسة أجريت في مجلة Personality and Individual Differences حيث وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يسهرون إلى وقت متأخر من الليل عادة ما يتوصلون إلى حلول مبتكرة وأكثر إبداعية من الأشخاص الطبيعيين.