من تراث صنعاء القديمة..تلاشي عادات رمضانية رغم جمالها

 

يعتبر شهر رمضان محطة دينية واجتماعية تتعمق فيه أواصر العلاقات الأسرية والمجتمعية، يعطي من الإنسانية أسمى معانيها ومن الألفة والحب الشيء الكثير، خاصة في بلد لا يزال يحتفظ بهويته الدينية والثقافية والاجتماعية كاليمن. على سبيل المثال، ارتبطت صنعاء القديمة كمدينة أثرية روحانية برمضان الكريم من خلال جملة من العادات بسيطة المظهر عميقة المعنى والأثر، نتعرّف عليها من خلال حديث “الثورة” مع “وكيل الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية”، أمة الرزاق جحاف، والتي تحكي أهم العادات الرمضانية الصنعانية التي اندثرت ويحتاج المجتمع العودة إليها ليعود أثرها على تفاصيل يوميات الشهر المبارك.
ديمة رمضان
تقول أمة الرزاق، في حديث إلى “الثورة” إن: “رمضان شهر الله وصنعاء القديمة مهد المهاجرين إلى الله، لذا ارتبطت برمضان بروحانية خاصة وفريدة عن غيرها من مدن العالم وكان لها من العادات ما يجعل لهذا الشهر ميزة خاصة وأثراً جميلاً في كل تفاصيله”، وتستطرد: “لعل أهمها عادات: بناء “الديم” (غرفة مؤقتة خارج المنزل) أو الصرحات؛ فاليمنيون أصحاب حضارة معمارية عريقة ومتميزة، فكانت تستهويهم هذه النشاطات الاجتماعية كثيراً”.
وتشير إلى أن الأهالي بمختلف فئاتهم العمرية “أطفال وكبار”، كانوا يقومون أواخر شهر شعبان ببناء هذه الديم؛ لتأويهم خلال الإفطار، فيتناولون الفطور فيها جماعات ثم يذهبون للمساجد، للحافظ على حرمة المساجد ونظافتها، وكان هذا العمل يترك في نفوس الأطفال أثراً بأهمية العمل الجماعي، ويعزّز العلاقات بين الكبار ويرقى بمستوى حسن الجوار”.
يا نفس ما تشتهي؟
وتلفت جحّاف، إلى ما كان يشهده النصف الثاني من شهر شعبان من ولائم يطلق عليها اسم “يا نفس ما تشتهي؟” (وهو مصطلح تساؤلي يوحي بتلبية كل طلبات النفس)، حيث تضمّ سُفَرًا يقدم فيها كل ما لذّ وطاب من الأطباق اليمنية وغير اليمنية، بغرض استعداد الإنسان للزهد في الأكل خلال شهر رمضان وتخصيص معظم ساعاته في ذكر الله وتلاوة القرآن وغيرها من العبادات التي تجعل من رمضان محطّة لتزويد النفس بطاعة الله والتقرب إليه.
كرم وتكافل
ومن العادات الجميلة التي كانت سائدة في صنعاء القديمة، كالكثير من مناطق وقرى الريف اليمني، هي توازع الغرباء (المهاجرين أو الزوار) بين أبناء الحي، بما يدلل على احتفاظ المدينة بهويتها الاجتماعية دون تأثرها بعواصف الحداثة الغربية التي حوّلت أحياء المدن إلى مربّعات معزولة عن بعضها وسكان الحضر إلى أشخاص غير اجتماعيين، إذ تقول جحّاف: “كان رجال الحي أثناء ذهابهم لصلاة المغرب يلتقون بمن هم غرباء عن المدينة أو من يسمون بالمهاجرين، وصنعاء القديمة تعتبر مهد العلم ومقصد الكثير من طلابه من مختلف المحافظات، ولذا كان أهالي الحي الواحد يستضيفون الغرباء عندهم ويشاركونهم وجبة الفطور بكل حب وألفة”.
طقوس نسويّة
أما المرأة اليمنية في صنعاء القديمة، “فكان لها في رمضان طقوس خاصة تشارك فيها أسرتها وجاراتها وأولادها، فقد كنّ يقمن بتوزيع بعض الأكلات على جاراتهن؛ توفيراً للوقت والجهد وتوطيداً للعلاقات والجورة فيما بينهن، مثل عمل اللحوح (فطائر يمنية رقيقة من الدخن وتستخدم لصناعة أطباق مختلفة)”، كما تقول وكيل الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، وتردف: “كل يوم تقوم إحدى النساء بعمل اللحوح وتوزيعه على بيوت الجيران وفي اليوم التالي تقوم أخرى وهكذا حتى آخر الشهر الفضيل، وكانت هذه العادة تبث روح الألفة والمودة والتعاون بين الناس والنساء بشكل خاص”.
ليس هكذا فحسب، بل “كنّ يتبادلن أطباق الأكلات فيما بينهن، في إشارة إلى مشاركة الجارة جارتها سفرتها ومذاق طبختها وذلك بإرسال أحد الأولاد بالطبق محملا بالسلام والمحبة”، حد قولها.
ما قبل التلفاز
في ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل دخول التلفاز، كان الأطفال يمارسون ألعابهم في أحياء المدينة القديمة، كما تشير جحاف، وتردف قائلة: “منها لعبة التمسية الرمضانية، واسمها مشتق من زاجل تراثي شفوي قديم، حيث يقوم الأطفال بالتجمع بعد العشاء عند الصرحات ويمرون على منازل الحي ويقفون أمام كل بيت منشدين كلمات التمسية منها، ومنها: يا مساء جيت امسي عندكم/يا مساء واسعد الله المساء/ يا مساء جيت امسي من عدن/ يا مساء ضيفوني باللبن/ يا مساء جيت امسي من يريم/ يا مساء بالغرارة والشريم”.
وبحسب جحّاف، كان الأطفال “يذكرون كل المناطق اليمنية في هذه التمسية ويستمرون كذلك حتى يعطيهم أصحاب البيت إما أكلة أو حلا رمضان أو فلوس، وفي أحيان أخرى كان بعض أصحاب البيوت يمازحون الأطفال ويصدون عن الرد عليهم فيرد الأطفال بمزحة أيضا ويرددون: إمّا ثواب ولّا جواب ولّا رجمنا باب الباب”.
مع هذه اللعبة وغيرها كان الأطفال ينشرون بخطواتهم روح البهجة والمرح في شوارع أحياء صنعاء القديمة، وكانت تمثل شكلاً من أشكال تطبيق الحديث النبوي الشريف “ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويعطف على صغيرنا”، لذا فكانت العلاقة بين الصغير والكبير محل تقدير واعتزاز ومحبة.

قد يعجبك ايضا