الثورة نت /..
ترك فيروس كورونا آثارا مدمرة على اقتصاد معظم دول العالم وجر بعضها بل وأقواها إلى حافة الانهيار ليضرب بقوة عجلة الاقتصاد العالمي متسبباً في خسائر اقتصادية عالمية قدرت بـ 50 مليار دولار خلال شهر واحد ، في حين تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد العالمي معرض لخسارة أكثر من 2 ترليون دولار في الدخل العالمي و220 مليار دولار في الدول النامية.
ودفع تفشي الفيروس وتداعياته مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) والعديد من المراكز البحثية والمحللين الاقتصاديين إلى إعادة النظر في توقعاتهم لنمو الاقتصاد العالمي في 2020م، وقالت تلك المراكز أن الصدمة التي تسبب بها فيروس كورونا ستؤدي إلى خفض النمو السنوي العالمي هذا العام إلى أقل من 2.5%، وتوقعت أن يتراجع نمو الاقتصاد الصيني بنحو 0.4 % نقطة ليصل إلى 5.5%، فيما توقعت تراجع نمو الاقتصاد الأمريكي بنحو 0.4 نقطة مئوية في الربع الأول من هذا العام ، وأن دولاً مثل كندا والمكسيك وأمريكا الوسطى، ودول مثل شرق وجنوب آسيا والاتحاد الأوروبي سوف تشهد تباطؤً في النمو بين 0.7% و0.9%، أي أننا على عتبة ركود في الاقتصاد العالمي.
ويمكن القول أن السر في قوة الصدمة التي خلفها فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي والاقتصادات المحلية يكمن في عاملين رئيسيين يتمثل الأول في تأثير إجراءات الإغلاق التي اتخذتها الدول لمواجهة تفشي الفيروس، والعامل الثاني هو أن الفيروس ضرب بدايةً أقوى اقتصادات العالم في الصين والولايات المتحدة وأوروبا لينتقل التأثير مباشرة إلى سائر دول العالم.
أولا: تأثير إجراءات الإغلاق
فرض تفشي وباء كورونا على دول العالم اتخاذ إجراءات وتدابير صارمة للغاية مثل فرض الحظر وإغلاق البلدان والعواصم، والعزلة والحجر الصحي وإغلاق الحدود وزيادة الإنفاق على العملية الاحترازية للحد من انتشاره.
كل ذلك أدى إلى توقف قطاعات الاقتصاد الواحد تلو الآخر من خلال التأثير وإضعاف جانبي الاقتصاد العرض والطلب بسبب ضعف إمدادات السلع والخدمات وانخفاض الإنتاج وانخفاض الاستهلاك لأن المستهلكين يبقون في منازلهم ويتوقفون عن الإنفاق، وكذلك يتوقف الاستثمار من قبل الشركات.
التصنيع والتبادل التجاري
أضرت إجراءات الإغلاق بشدة على قطاع التصنيع والتبادل التجاري وذلك من خلال:
– تسببت إجراءات الإغلاق والحظر في إعاقة الإنتاج وعرقلة الإمداد بالإضافة إلى حالة من الركود والترقب والتأخير في الشراء التي تُسيطر على المستهلكين والمستثمرين ما أدى إلى اضطراب وإضعاف الطلب العالمي.
– أدت الأزمة إلى صدمة في سلسلة التوريد المباشرة، حيث ستجد قطاعات التصنيع في الدول الأقل تأثراً صعوبة أكبر وأكثر تكلفةً في الحصول على المدخلات الصناعية المستوردة من الدول المتضررة بشدة ومن ثَمَّ من بعضها بعضاً.
حيث كان وباء كورونا متمركزاً في الصين التي كانت – بجانب اليابان وكوريا – أكثر الدول تضرراً وبالنظر إلى مركزية هذه الدول في سلاسل التوريد العالمية في العديد من السلع المصنعة فقد تلقى قطاع التصنيع صدمات قوية في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، خاصة في ظل التأثير الواضح للوباء على دول مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
– إغلاق المصانع وكساد بعض الصناعات بين الدول، فالدول المنكوبة ستتقلص صادراتها بشكل كبير، وهو ما سيؤثر على القطاع الصناعي في دول أخرى تعتمد على الدول المنكوبة في إمداداتها الصناعية وسنجد أن الشركات الصناعية داخل الدول الثلاث الكبرى في شرق آسيا (الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان) تزوّد الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من 25% من وارداتها الصناعية بشكل عام، وترتفع هذه النسبة لأكثر من 50% عند الحديث عن قطاع الكمبيوتر والإلكترونيات.
تراجع أسعار النفط
أدى انخفاض النشاط الاقتصادي العالمي وتراجع الطلب على السفر وتراجع في الطلب على وقود الطائرات بنحو 200 ألف برميل يوميا إلى خفض الطلب على النفط، وهبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها في عدة سنوات وحدث ذلك حتى قبل أن يسبب خلافاً حول تخفيضات الإنتاج بين أوبك وحلفائها في أحدث انخفاض في أسعار النفط الذي يؤدي إلى تخفيض الإنفاق الاستثماري بالصناعة النفطية.
النقل الجوي والسياحة
تسبب الإغلاق في خفض الطلب على السفر وهو ما ألحق الضرر بقطاع السفر وما ارتبط به من قطاعات كصناعة الطيران والنقل الجوي والسياحة والمطارات والفنادق، وقدر الاتحاد الدولي للنقل الجوي خسارة شركات الطيران العالمية بما لا يقل عن (63–113) مليار دولار إذا استمر المرض في الانتشار وكذلك انخفضت أسعار أسهم شركات الطيران بما يقرب من (25٪) منذ بدء تفشي المرض.
أسواق المال
تعد أسواق المال العالمية من أكبر الخاسرين في ظل الأزمة الراهنة فقد شهدت انهيارات وأسوأ أداء منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008م فأسواق المال تعكس مدى قلق المستثمرين بشأن التوقعات الاقتصادية لعام 2020 بسبب الفيروس، وبالفعل شهد مؤشر فوتسي الأوروبي، ومؤشر داو جونز الصناعي الأمريكي، ونيكي الياباني، انخفاضات حادة منذ بدء تفشي المرض، وفي دول الخليج العربي كان التراجع في أسواق المال هو الأسوأ منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية بما يزيد على 24%.
ثانيأ: ضرب الاقتصادات العملاقة
تميز هذا الوباء بأنه ضرب بشدة الدول الاقتصادية الكبرى، فالدول الأكثر تضرراً تشمل مجموعة السبعة (G7)، بالإضافة إلى الصين، وهي أكبر اقتصادات في العالم وهي الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وهي الدول التي تمثل 60% من العرض والطلب العالميين و65% من التصنيع العالمي و41% من الصادرات الصناعية العالمية.
ويتوقع أن يكون أكثر الاقتصاديات العالمية تأثراً بتلك التداعيات الاقتصاد الصيني الذى يبلغ نحو 19% من الاقتصاد العالمي، تليه الأسواق الناشئة في آسيا، والاقتصاد الأمريكي والأوروبي، بينما تصبح اليابان أقل الدول تأثراً بتلك التداعيات.
وتستحوذ الصين على ثلث التصنيع على مستوى العالم، وهي أكبر مُصدر للسلع في العالم، لذلك عندما يصاب الاقتصاد الصيني بالشلل فلا بد أن يتأثر العالم،وقد أحدثت إجراءات العزل غير المسبوقة المُتخذة من قبل الصين ضغطاً اقتصادياً في جانب العرض والطلب مما يجبر آلاف الشركات على إغلاق مصانع التجميع والتصنيع مؤقتاً في الولايات المتحدة وأوروبا وهذا سيعطل مرة أخرى سلاسل التوريد العالمية، وكذلك الطلب على السلع والخدمات في الاقتصادات المتضررة، وتجعل هذه الاضطرابات من الصعب على الشركات في الولايات المتحدة وأماكن أخرى إحضار سلعها إلى العملاء، وستخفض هذه الشركات الصادرات من الولايات المتحدة إلى بقية العالم في الأشهر القادمة.
إن انكماشاً بنسبة 2% في إنتاج الصين له آثار مضاعفة تظهر على مجمل انسياب الاقتصاد العالمي، وهو ما “تسبب حتى الآن في انخفاض يقدر بنحو 50 مليار دولار أمريكي” في التجارة بين الدول ومن بين الاقتصادات الأكثر تضرراً مناطق مثل الاتحاد الأوروبي (15.5 مليار دولار) والولايات المتحدة (5.8 مليار دولار) واليابان (5.2 مليار دولار.) أما بالنسبة لاقتصادات “الدول النامية التي تعتمد على بيع المواد الخام فإن الأضرار فادحة جداً.
من ناحية أخرى تعد الصين أكبر مستورد للنفط في العالم، والصدمة التي سببها فيروس كورونا للاقتصاد الصيني أضعفت الطلب العالمي على النفط ما أدى إلى انهيار الأسعار إلى أدنى مستوى لها في عشرين عاماً بنسبة 30% إلى ما دون 30 دولاراً للبرميل وإذا طال أمد هذه الحرب فستكون لها آثاراً كارثية على اقتصادات العديد من الدول المصدرة منها دول الخليج العربي التي ستواجه عدّة تحديات مهمّة وركوداً في النشاط الاقتصادي بسبب تفشّي الفيروس.
بيد أنّ الانخفاض المرافق لذلك في أسعار النفط العالمية سيؤثّر بشدّة في اقتصاداتها ومن المحتمل أن تكبد أسعار النفط بين 30 و40 دولاراً للبرميل هذا العام دول الخليج عشرات المليارات من الدولارات من إيراداته.
إجراءات التحفيز
دفع فيروس كورونا العديد من الحكومات حول العالم إلى التدخل ببرامج إنقاذ ودعم ضخمة للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية المتضررة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ودعم النمو لتحاشي الدخول في انكماش اقتصادي عميق.
فهناك خطط وبرامج دعم وتحفيز نقدي ومالي، لدعم القطاع المالي واللوجستي والإمداد والنقل لمواجهة ارتفاع معدلات البطالة والتضخم في مناطق مختلفة من العالم، كالاتحاد الأوروبي وبريطانيا والشرق الأوسط.
وفِي الولايات المتحدة، أقرت خطة دعم اقتصادي واجتماعي بتريليوني دولار، حيث بلغت طلبات العاطلين عن العمل مستويات تاريخية.
دول مجموعة العشرين التي تمتلك 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الدولي، و80 في المائة من التجارة الدولية، التزمت خلال القمة الطارئة الأخيرة في الرياض بضخّ أكثر من 5 تريليونات دولار أي نحو 6 % من حجم الاقتصاد العالمي، بهدف الحد من التدهور الاقتصادي ووقف الانزلاق نحو الكساد والإفلاس لكثير من الشركات، وربما بعض الدول.
مستقبل الاقتصاد العالمي
ينحصر مستقبل لاقتصاد العالمي في ضوء تداعيات تأثيرات كورونا في واحد من الاحتمالين الآتيين:
الأول : إذا لم يتم احتواء الفيروس واستمر في الانتشار سيزداد احتمال حدوث ركود عالمي علماً أن الفيروس هو عامل واحد فقط من العوامل الضاغطة على نمو الاقتصاد العالمي، مما قد يؤدي إلى تفاقم الضغوط الأخرى على الاقتصاد العالمي، مثل الحروب التجارية، وانهيار أسعار النفط العالمية، وتباطؤ الطلب العالمي في كافة القطاعات.
ومن المؤكد أنه كلما طال أمد الصراع ضد كورونا أدى ذلك إلى ارتفاع حالات الإفلاس بين الشركات والبطالة بين المجتمعات، وستكون الفئات الأضعف و”ذوو الدخل الأقل” هم الأكثر عرضة، وستكون لذلك تبعات اجتماعية كبيرة وضغوط هائلة على الحكومات لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من خلال برامج الإنقاذ والدعم المختلفة وخفض الضرائب.
الثاني : في حالة احتواء الفيروس لن يكون من السهل إعادة تشغيل اقتصاد عالمي حديث مترابط بعد انتهاء الأزمة، فستكون النتيجة النهائية تباطؤاً في النمو وليس حدوث ركود عالمي كما هو متوقع، ويتوقع الخبراء أنه في حال احتواء الوباء قريباً، فسيتباطأ نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.5% فقط خلال عام 2020، وسترتفع تلك النسبة إلى 1.5% .
ويتوقع استمرار آثار تداعيات الفيروس على جانب العرض، إذ يضطر المصنعون الدوليون إلى إعادة التفكير في مكان شراء سلعهم وإنتاجها، فمن جانب كشف تفشي الفيروس عن نقاط ضعف للشركات، وخاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على الصين في سلاسل التوريد والمنتجات.
وقد يجبر هذا الشركات على قطع جزء من اعتمادها على الصين، وهو أمر بدأ بالفعل بسبب الحرب التجارية التي تخوضها الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي قد يخلق انتشار فيروس “كورونا” تحولاً عالمياً نحو تنويع سلاسل التوريد.
ختاما : فتحت أزمة كورونا للعالم أبواب اقتصاد عالمي انساني تضامني جديد يتوخى مصالح جميع البشر وقد ضرب كورونا كل سكان العالم الذي يجب أن يكون أسرة واحدة.
سبا