الحروب الأمريكية وحرية الشعوب
أنس القاضي
في تاريخ حركة التحرر الوطنية الفيتنامية المسلحة من عام 1954م حتى العام 1955، انعقدت مفاوضات عديدة بين الثوار الفيتناميين والاحتلال الفرنسي، من أجل تحقيق الاستقلال الوطني، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عن هذه المفاوضات، بل سعت جاهدة لإفشالها وفرض هيمنتها على جنوب فيتنام، وهو الأمر الذي حدث في نهاية المطاف، لتبدأ جولة مقاومة فيتنامية جديدة ضد الاحتلال الأمريكي.
في أواخر عام 1949م انتصرت الثورة الشعبية في الصين بقيادة “ماوتسي تونغ” ضد، فاعترف الصين الشعبية بدولة فيتنام الديموقراطية التي يترأسها “هوشي منه”، الأمر الذي وفرَ ضمانات جديدة لتعزيز القاعدة الآمنة الرئيسية للثورة في فيتنام ضد الاستعمار الفرنسي.
اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية انتصار الشيوعيين في الصين مبررا للتصعيد العسكري في منطقة الهند الصينية، وظهر تدخل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل علني في الأزمة الفيتنامية، فقدمت واشنطن الدعم للإدارة الاستعمارية الفرنسية، كما قدمت الدعم للحكومة الملكية العميلة لفرنسا في جنوب فيتنام. وإلى ما قبل هذا العام كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتظاهر بالتزامها موقف الحياد.
ومن العام 1951 حتى العام 1952م زادت التعزيزات العسكرية الفرنسية والدعم الأمريكي لفرنسا، وتقوية الجيش العميل في جنوب فيتنام.
مع دخول العام 1954م أصبحت المفاوضات الفيتنامية الفرنسية خيارا مطروحا يدعمه الري العام الفرنسي، خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تلقتها القوات الفرنسية، لكن هذا الخيار التفاوضي لم يكن مقبولاً من قبل الجانب الأمريكي فعمل جاهداً على إعاقته.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تترقب الوضع في منطقة الهند الصينية وتريد أن تحل محل فرنسا في فيتنام، وبالتالي فلم يكن لأمريكا أي مصلحة في حلول السلام، ولذلك أنصب الجهد الأمريكي في هذه المرحلة نحو دعم الفرنسيين بالقدر الذي يعزز التواجد العسكري والاستخباراتي الأمريكي.
عملت الولايات المتحدة الأمريكية على محاصرة المفاوضات والتوجهات التسووية. ومحاولة إحراز نصر عسكري يحافظ على مركز الغرب في فيتنام، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية، بتهديد الحلفاء بخطر الزحف الشيوعي اذا لم يبادروا لضرب الصين الشعبية. وشنت حملة دعائية في منطقة جنوب شرق آسيا لنشر الرعب مِمَّا اسمته الخطر الشيوعي الزاحف لابتلاع المنطقة.
في ابريل من العام 1954م انعقد في جنيف مؤتمر دولي لبحث مسألة النزاع الفرنسي الفيتنامي، فاتجهت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إفشال مؤتمر جنيف قبل أن يبدأ.
عمل الأمريكيون ما بوسعهم للضغط على فرنسا بعدم الدخول في مفاوضات مع فيتنام، وخلقت واشنطن الأوهام لباريس بإمكانية الانتصار، إلا أن قرار الجمعية الوطنية الفرنسية وافق على المفاوضات، ومن هنا انتقل التكتيك الأمريكي من عرقلة المفاوضات إلى تعقيد الأزمة. وأول تطبيقات السياسة الأمريكية الجديدة كان معارضة إعلان فرنسا مشروع لوقف اطلاق النار في السابع من يوليو في ذلك العام.
ومع انعقاد مؤتمر جديد للسلام في جنيف، حاول الوفد الأمريكي عرقلة التنازلات المتبادلة بين الفرنسيين والوفود الاشتراكية التي كانت تُصر على إلغاء القواعد العسكرية في المنطقة ومنع قيام تحالف غربي جنوب شرق آسيا. كما رفض الأمريكيون التوقيع على أي اتفاق يعطي الثوار في فيتنام موطئ قدم في الهند الصينية واستمر هذا الموقف الأمريكي المتعنت حتى اليوم الأخير من مؤتمر جنيف.
وقد كانت تعليمات الإدارة الأمريكية لوفدها في جنيف هي عدم عقد أي اتفاقات أو اتصالات قد تشكل اعترافا سياسيا بالحكومات الثورية في الصين وفيتنام. والتأكيد على أن وجود الوفد الأمريكي في التفاوض هو وجود رمزي باعتبار الولايات المتحدة الأمريكية دولة معنية بالقضية لا طرفا محاربا كما هي في الواقع.
وكانت أيضا من التعليمات الأمريكية لوفدها في المفاوضات عدم الموافقة لا الضمنية ولا الصريحة على أي قرار لوقف اطلاق النار أو الهدنة أو التسوية التي قد تضر بالحكومة الإمبراطورية العميلة في جنوب فيتنام.
ظل المؤتمر يراوح مكانه ولم ينجز شيء بسبب عدم جدية المندوب الفرنسي والمندوب الأمريكي، حتى سقطت الحكومة الفرنسية، وتم تشكيل حكومة فرنسية جديدة دخلت جميع الأطراف في مرحلة مفاوضات جادة، أفضت إلى تسوية فرنسية فيتنامية بموجبها تنسحب القوات الفرنسية من جنوب فيتنام في مدة زمنية مُعينة ويترك أمر وحدة فيتنام ليقرره الشعب الفيتنامي ديمقراطيا.
عقب التوصل إلى التسوية بين فيتنام وفرنسا عملت الولايات المتحدة على إفشال الاتفاق، فأعلنت الحكومة الأمريكية أنها ليست مستعدة للاشتراك في الإعلان الختامي الذي توصل إليه المؤتمر، وجددت مساندتها لحكومة الإمبراطور، كما أوعزت إلى ممثل حكومة الإمبراطور العميلة برفض نتائج الاتفاق، وهكذا قامت الولايات المتحدة الأمريكية بضرب جوهر الاتفاق وحلت محل فرنسا في جنوب فيتنام، لتبدأ بعدها الحرب الأمريكية الفيتنامية التي استمرت حتى السبعينيات.