“CIA” والأنظمة الوطنية.. تشيلي نموذج مبكر
أنس القاضي
في صبيحة الحادي عشر من سبتمبر عام 1973م دبرت المخابرات المركزية الأمريكية انقلابا في تشيلي ضد الرئيس الشرعي المنتخب ديمقراطيا «سلفادور أليندي»، نفذه الجنرال العميل «اوغستو بينوشيت»، وكانت نتيجة الانقلاب مقتل الرئيس سلفادور أليندي, وإعدام 30 ألفا من الشخصيات والكوادر الوطنية العسكرية والمدنية, واعتقال 100 ألف آخرين، وعودة الشركات الأمريكية لنهب ثروات البلاد.
ولسنوات عديدة عُرفت دولة تشيلي كواحدة من أهم المستعمرات الاقتصادية الأمريكية، فقد كانت الولايات المتحدة تستنفذ ثروة تشيلي من النحاس بواسطة شركتي”أناكوندا” و”كينوكوت” الأمريكيتين، وتستحوذ على سوق الاتصالات بواسطة شركة “أي تي ت” الأمريكية إلى جانب بعض مصانع السلع الاستهلاكية التي ينتفع منها رجال الأعمال التابعون للنظام بالتعاون مع بعض جنرالات الجيش الموالون للولايات المتحدة، الذين كانوا يسيطرون على مفاصل الدولة اقتصاديا وأمنيًا عن طريق القمع، وسياسيًا عن طريق تزوير الانتخابات وفي العام 1970م فاز المرشح الاشتراكي «سلفادور أليندي» بالرئاسة عبر الانتخابات الديمقراطية لتتشكل أول حكومة وطنية في تشيلي معارضة للهيمنة الأمريكية، وأطلق أليندي فور فوزه بالرئاسة مشروع الإنقاذ الوطني الذي تضمن رفع أجور الموظفين وتأميم القطاعات الإنتاجية الرئيسية.
استاءت الولايات المتحدة من قرارات التأميم التي اتخذها أليندي، فعملت في بداية الأمر على الضغط الاقتصادي ضد تشيلي، وحرضت هيئات التعاون الإقليمي ضدها، وخوَّفت المستثمرين من ضخ أموالهم في الاقتصاد التشيلي.
وبذلك تصاعدت المؤامرات الأمريكية ضد الحكومة الوطنية في تشيلي ووصلت إلى حد تمويل إضرابات اجتماعية لسائقي الشاحنات في مسعى لعرقلة حركة النشاط التجاري المحلي، ومع فشل كل هذه المؤامرات الأمريكية في التأثير على النظام الوطني، لجأ الأمريكان إلى التخطيط للانقلاب على النظام الوطني في تشيلي واغتيال الرئيس الاشتراكي.
وقد جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك «هنري كيسنجر» ما يلي: “لا أفهم لم يجب أن نجلس جانباً ونراقب دولة تسير في طريق الشيوعية نتيجة لعدم تحمل شعبها المسؤولية، المواضيع أكثر أهمية من أن تترك للنخابين التشيليين ليقرروها بأنفسهم”.
وقد مثلت سياسات “أليندي” مواجهة كبرى مع الولايات المتحدة الأميركية، واعتبرت واشنطن أن قرارات الرئيس التشيلي ذات الطابع الاشتراكي تهديد لمصالحها في أميركا اللاتينية، لكن أمريكا لم تستطع الطعن أو التشكيك في شرعية الرئيس الذي وصل إلى السلطة بانتخابات لا يوجد أدنى شك في نزاهتها، وقد تخوفت الولايات المتحدة الأمريكية من تعمم تجربة تشيلي في مختلف دول أمريكا اللاتينية.
وهكذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية إبعاد الرئيس أليندي عن السُلطة، وكان رجلها المختار لهذه المهمة هو قائد الجيش الجنرال العميل «أوغستو بينوشيه»، الذي تمكن من الاستيلاء على الحكم بانقلاب في 11 سبتمبر 1973م.
وبعد عام من الانقلاب على الرئيس ألندي كشف مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “وليام كولب” الدور الذي لعبته المخابرات الأمريكية للتخلص من الرئيس أليندي, وذكر مدير المخابرات الأمريكية أن حكومة الرئيس نيكسون أنفقت 8 ملايين دولار على نشاط المخابرات الأمريكية في تشيلي خلال الفترة من عام 1970 إلى 1973م، وذلك لعرقلة أعمال حكومة أليندي.
وفي صبيحة يوم الانقلاب الدموي تحركت القوات المسلحة التشيلية بأوامر من قيادة الجيش العميلة للولايات المتحدة الأمريكية لتسيطر على المناطق الاستراتيجية في تشيلي وحين رفض الرئيس المنتخب التنازل عن السُلطة تحركت القوات المسلحة نحو القصر الجمهوري وبدأ قصف القصر بالدبابات والمدفعية والطائرات، وأستمر إطلاق النار حتى تم تصفية الرئيس وكل من فضلوا البقاء معه في القصر الرئاسي وأستمر القتال لبضعة أيام أُخرى في الأحياء العمالية والورش والمصانع بين الجيش من ناحية والعمال وبقية الفئات الاجتماعية التي انتخبت أليندي.
وبعد ذلك تَشَكَّل عقب الانقلاب مجلس عسكري موال للولايات المتحدة الأمريكية قام بحل البرلمان وحظر نشاط الأحزاب السياسية، وتقييد حرية الصحافة، وإعادة المصانع التي تمتلكها الدولة إلى القطاع الخاص التي تملك غالبيته شركات الاحتكارات الرأسمالية الأمريكية.
كما قام النظام الدكتاتوري المدعوم أمريكيا بمطاردة اليساريين في كل أنحاء البلاد، وقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وتعرض نحو 27 ألفا للسجن والتعذيب والنفي، وهرب خارج البلاد عدد كبير وبعض منهم طلبوا اللجوء السياسي.
بعد الانقلاب التي رعته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بدأت السلطة العسكرية تصفية الحركة العمالية والجماهيرية بالقتل والاعتقالات، واعتمدت سياسات اقتصادية مبنية على الاستثمار الأجنبي وفي مقدمته الاستثمار الأمريكي.