أخذ التاريخ حيزا واسعا في محاضرات السيد حسين بدر الدين رضوان الله عليه؛ وذلك لأنه كان يَعتبِر التاريخَ من العلوم الحيوية التي دعا إلى تعلُّمها، وكان يدفع بشبابِ (مران) إلى الالتحاق بأقسام التاريخ في الجامعات اليمنية لما للتاريخ من أهمية حيوية في المشروع القرآني الذي أطلقه.
حمود عبدالله الاهنومي
وظيفة التاريخ في المشروع القرآني
لقد وظف الشهيد القائد التاريخ وقصص الأنبياء توظيفا رائعا في استنهاض الأمة للتحرُك وفي تربيتها على القيم والأخلاق. لقد كان يعتبر ماضي التاريخ امتدادا واحدا إلى حاضره، وأي قارئ لمحاضراته يشعر وكأنه يجعل للتاريخ حكما ماضيا في الحاضر، وكان يستغرب ممن لا يتعظ بأحداثه وعبره؛ لكنه حين كان يتحدث عن أحداثه لم يكن إلا في سياق معالجة الحاضر وتغيير سلبياته وواقعه المؤسف.
وجعَل من تاريخ السلف مادة تحفيزية لاستنهاض الخلف ورأى في المواقف الحميدة للخلف كتابا عميقا للتاريخ يمكن للمرء أن يسافر فيه اتعاظا واعتبارا، واستخدمه في موارد عديدة كدرسٍ تربوي وأخلاقي وتأهيلي.
وأوضح أهمية أثر الإيمان بالأنبياء العظماء كقدواتٍ يشعُر معها الإنسان المعاصر بعزة ورفعة، ويعطيه دفعة رائعة في التحرُّك إلى الله تعالى مبيِّنا أن الوعيَ بالتاريخ والانتماء يحمِل على اتخاذِ مواقفَ معاصرة إسلامية قرآنية، كما استحضره في كثير من محاضراته ليَستشهدَ به على صحة استنتاجاته القرآنية، وكانت لديه القدرة الفائقة على المقارنة والتنزيل لحوادث التاريخ على مواقفِ المعاصرين وحُسْنِ توظيفها في استنهاض الأمة وتحريكها.
وقد طلب قراءة التاريخ لرصد المواقف السلبية لبعض الفئات المؤثِّرة سلبا في المجتمع مثل فئة علماء السوء، واستخدمه لاكتشاف الشخصيات المُقَصرة والمفرِّطة، وطلب من كلٍّ أن يعرض نفسيته على نفسيات أولئك المقصرين والمفرطين في سياق الدعوة إلى التغيير والنهوض الحضاري، بل ودعا إلى كشف العلة المتسبِّبة في الظاهرة التاريخية السلبية، وفي الوقت نفسه أوجب على القارئ أن يستفيد منها مباشرة في واقعه.
وتشير محاضراته إلى أنه يوجب الاستفادة من أحداث التاريخ إيجابا، وينتظر أن تتحول تلك المعرفة التاريخية إلى وعي كامل، ثم إلى واقع وسلوك وموقف عملي، مبينا أن في التاريخ من رصيد الدروس والعبر ما يجعلنا كاملي الوعي ومستقيمي السلوك، وإذا كان أولئك المنحرفون والمقصرون في عصر صدر الإسلام مذنبين فإنه جعل الذنب أعظم على أهل هذا الزمان؛ لأنه يعتبر أن التاريخ قد أمدهم برصيد هائل مع العبر والعظات.
لقد كان قارئا جيدا للتاريخ بحيث كان يذكر ما يحصل من أحداث ومواقفَ بأنها لم يحصل مثلها في التاريخ، ، وكان في الوقت نفسه ناقدا خبيرا بمغالطاته، وهنا يتبين أنه يجعل للتاريخ سلطانا على الحاضر، وما يعيشه من هموم الأمة فيه،
وحول فوائد التاريخ
بيَّن أن الغاية من القصص القرآني هو معنى قوله تعالى: (ما نثبت به فؤادك) وهو يشرح بهذا واقعا كان هو ومسيرته يتحركان على أساسه، وأن التاريخ عبرة لأولي الألباب، وأن المعرفة للتاريخ تُكثِّر الدروسَ وتُعَدِّد المواقفَ، وتعطي مزيدا من الخيارات في التعامل مع الواقع، وفي ذلك ما فيه من فوائد مهمة للمجتمع، وفي إطارٍ عمليٍّ دعا المؤمنين لقراءة التاريخ “لنستلهم من الأنبياء أساليبهم وحركتهم ومواقفهم” على حد قوله.
ومن فوائد التاريخ أنه يُهيِّئُ لتقييم المجتمع وغربلته من خلال الأحداث؛ لأن مستقبل الأمة أي أمة تستفيد من الأحداث، ينعكس “خُططا قائمة على معرفة .. خططا واعية قائمة على معرفة”.
ويوضِّح أنه عندما تعرف أن تلك الحركة التاريخية النبوية كانت تقوم على خطط محكمة ورؤية حكيمة وترتيبات حكيمة، وأنها مما هدى الله رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم .. وأن تلك الأشياء كانت تمشي على طريقة معينة قابلة للقياس فهذا معناه أنها قابلة للاستمرار، وقابلة لأن يسير جيل آخر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفق هدى الله، وهو بهذا يجعل التاريخ كائنا حيا مؤثِّرا أيما تأثير في الحاضر والمستقبل.
ويشرح في مكان آخر أننا نستفيد من التاريخ إعطاء الدروس والعبر لتستبصر الأمة وتصحح مسيرتها حتى لا تغلط كما غلطت من قبل.
تفسيره للتاريخ
ويتبين أنه اعتمد على التفسير الإسلامي للتاريخ، مُسْتنِدا إلى النواميس الربانية التي أشار إليها القرآن الكريم، وبالتالي فقد رفض التفسير القومي والتفسير المادي للتاريخ، وهو كغيره من المفكرين المسلمين كآية الله محمد باقر الصدر، والأستاذ عماد الدين خليل، اعتمد منهجية التفسير القرآني للتاريخ، وأهم مبادئ هذا التفسير: هو البعد الغيبي لله سبحانه وتعالى، وأنه المتدخِّل في رسم مشاهده النهائية من خلال سننه الثابتة وناموسه الكوني، مع إعطاء دور الإنسان له وأنه صانع الحدث ولكن ضمن تفاصيل المشهد التاريخي العام، الذي تحكمه تلك السنن والنواميس، وتشير تعليلاتُه التاريخية لبعض الحوادث التاريخية وقراءتُه لأسبابها العميقة وظروفِها المصاحبة إلى فلسفته المتقدِّمة للتاريخ.
أما أهم مصادر التاريخ فهي:
بالطبع القرآنُ الكريم؛ لأن حركته قرآنية، وهو بالأساس يريد التركيز على قصص الأنبياء، والقرآن الكريم هو المصدر الموثوق عنهم وعن حركتهم، ولهذا فهو يرى في قصص الأنبياء أهمية قصوى “لنستلهم منهم في ميدان العمل الكثير من أساليبهم وحركتهم”، ويؤكِّد في هذا السياق أن ما يذكره القرآن الكريم من القصص التاريخي مهم جدا وذو قيمة، وكرَّر كونه مصدرا للتعرف على شخصية الرسول من حيث التحليل لشخصيته والتحليل لمنطلقاته في عمله وفي تكتيكه العسكري وفي اختياره للقادة والمواقع، وكيف كانت نفسية الرسول وتخطيطه ومشاعره، وأن القرآن لم يهتم بمعرفةِ مكانِ وزمانِ الواقعة التاريخية، وكم كان عدد الكافرين وعدد المسلمين، بشكل لا يراعي العبرة والعظة، واعتبر التركيز على ذلك باستبعاد العظة والعبرة من أحداث التاريخ خطأ وقع فيه كتاب المناهج التربوية.
وهذا لا يَعني أنه يَنصَرِف تماما عن المصادر التاريخية الأخرى؛ لأنه نقل أحداثا ووقائعَ اعتمد فيها على مصادر التاريخ المعروفة؛ لكنه يضع القرآنَ المصدرَ الفصلَ، ويعتمِد عليه اعتمادا كبيرا في معلوماته، بل وفي منهجيته.
وهناك مادة جيدة في محاضراته حول نقده لكتابة التاريخفعلى سبيل المثال قدّم نقدا لاذعا لتاريخ السير والتي “قدَّمت الأنبياءَ كبشرٍ عاديين أو أغبياء”، وضرب مثلا بالروايات التي قدَّمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التخطيط لمعركة بدر، وكأن بعضَ الصحابة كانوا أكثرَ منه رشدا وسداد رأي، كما انتقد تقديم كتب السير للأحداث كأحداثٍ مؤرخة مع أرقام معينة، بعيدا عن التحليل لشخصية الرسول، ومنطلقاته في عمله، وفي تكتيكه العسكري، وفي اختياره للقادة، وفي اختياره للموقع.
وأشار إلى المقولة الشائعة بأن المنتصرين والحكام والأقوياء هم مَنْ يكتبون التاريخ، حين قال إن: “كتب التاريخ أشبه بما نلاحظه في العراق يُقدِّمون لك كم قتل من جماعة الصدر، ولم نعرف كم قُتِل من الأمريكيين”، وكذلك كيف يسيطر الأمريكيون على الإعلام بتحكُّمهم في الخبر، وهو بهذا يُحذِّر من نتائج القبول بالمعلومة التاريخية بدون إجراء عمليات النقد والعرض على القرآن الكريم والاستفادة منه.
وأما منهجية التاريخ فهو:
يرى السيد أهمية أن يُدَوَّنَ التاريخُ بحسب منهجية القرآن، التي تُرَكِّز على الغاية وعلى الحقائق القرآنية والنواميس الإلهية، ويمثل بأمثلة عديدة على أن القرآن نسف التسلسل الزمني في التاريخ وتجاهل الموقع المكاني والأرقام، بل وربط النصر بـ(كم من فئة قليلة) فئة قليلة فقط، ولم يُحَدِّد كمِّيتها.
هنا يدعو الشهيد القائد إلى التركيز على خلاصة التاريخ وفائدته، وليس للاستكثار في عرض المعلومات التي لا تفيد واقع المسلمين اليوم بطريقة مملة وجامدة، وأنه يجب أن لا نُغفل التفسير الإسلامي للتاريخ الذي يراعي التأييد الإلهي للقلة المؤمنة.
وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال إغفال العناصر والأسباب المادية المؤثرة في الحدث التاريخي، وإنما يريد أنه لا يجب أن تكون هي المستأثرة بالعرض التاريخي للعبرة والعظة، بل يجب أن نسلك في هذا الصدد سلوك القرآن الكريم بإعطاء الدروس والعبر وليس الأرقام والمواقع وأسماء الشخصيات.
ومن الأهمية تأكيد أنه كان يقرأ التاريخ قراءة متقدِّمة وليست مجرد قراءة سطحية عابرة، فمنهجية التعليل التاريخي وقراءة الظروف السابقة للحدث التاريخي كانت تأخذ حيزا واسعا في تطرقه للأحداث التاريخية، فحين تحدث عن فاجعة كربلاء مثلا، طرح تساؤلا: “هل كانت وليدة يومها؟ هل كانت مجرد صدفة؟ هل كانت فلتة؟ أم أنها كانت نتاجا طبيعيا لانحراف حدث في مسيرة هذه الأمة؟ انحراف في ثقافة هذه الأمة، انحراف في تقديم الدين الإسلامي لهذه الأمة من اليوم الأول”.
ولهذا بيَّن رضوان الله عليه أن القرآن الكريم لا يأتي بأسلوب التدوين القصصي ولا يراعي التسلسل التاريخي بل يراعي قيمة ما تُعْطيه القصة، ويعطي رؤية واقعية، ويُذَكِّر بدروسٍ هامةٍ جدا، وأن المطلوب مثلا في السيرة النبوية أن نعرف بطريقة تحليلية كيف كان تفكير النبي؟ وكيف كان تخطيطه؟ وكيف كانت مشاعره؟ وكيف كان تقييمه؟ وكيف كانت الوضعية بشكل عام؟ وضعية جانب المسلمين ووضعية جانب الكافرين؟ حتى يكون للتاريخ أثر في النفوس ويعطي دروسا مهمة ويعطي عبرة وتعرف من خلالها النفسيات.
وذكر أننا “بحاجة إلى أن نقدم طرحا إسلاميا يلغي الانشداد إلى الأرض”، فرضوان الله غاية يجعل الجهاد في الدنيا له إيجابية، وأنك حين تتحرك مع الله وفي مرضاته سيتحقق هدفك في تحرير الأرض بطريقة تلقائية.
وأخيرا
يشير رضوان الله عليه إلى صعوبة الطريق التي يسلكها الباحث، وأن نتائج بحثه ليست مطلقة وقطعية، بل تظل نسبية حيث يقول: “التاريخ ليس سهلا لا تستطيع أن تقول إن ما قدم هو الصحيح حتى في تاريخ الزيدية”.