ما حديث الهجرة والمهاجرين وأنصار الدين حين تتناقله الأجيال وتردده على سمع الزمان إلا حديث الجهاد والكفاح والصبر والنصر وإنه لحديث تحلو إعادته ويحلو ترداده وتحلو الإفاضة فيه وإنه لجدير بأن يشحذ الهمم ويوقظ العزائم ويبعث في القلوب ما يدفع إلى العمل الجاد والنهوض بالأمة نحو القوة والوحدة والعزة والكرامة والرفعة والكمال.
وإن لنا في هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم – دروساٍ وعبراٍ كثيرة نستضيء بنورها على درب الحياة ومنها ما يلي:
إن الصبر واحتمال الإيذاء فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة وهي وقتذاك معقل الشرك والوثنية يدعو إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة الصحيحة قوماٍ غلاظاٍ أشداء جفاة عتاة وضعوا في سبيله كل عقبة وسدوا في وجه دعوته كل طريق وسلكوا كل الطرق للقضاء عليه وعلى دعوته فسلكوا طريق الاتهامات فقالوا ساحر وقالوا شاعر وقالوا كاهن وقالوا مجنون إلى آخر ذلك من اتهامات عديدة أفاض في بيانها القرآن الكريم كما سلكوا طريق المراهنة وطريق الإغراء وطريق الإيذاء وطريق التآمر فتآمروا مرة على حبسه وأخرى على نفيه وثالثة على قتله حتى أذن الله له في الهجرة وأحبط كيدهم وأبطل مؤامرتهم قال تعالى “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.
2- التخطيط والتنظيم وتوزيع الأدوار والأخذ بالأسباب ويتمثل ذلك فيما يلي:
ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في ساعة القيلولة وحرصه على السرية حيث طلب من أبي بكر رضي الله عنه أن يخرج من عنده.
تجهيز أبي بكر الراحلة وإعداد الزاد للسفر.
ج- سلوكه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة طريقاٍ غير الطريق المعروفة واتخذ لذلك دليلاٍ خبيراٍ بطرق الصحراء.
د- علي بن أبي طالب رضى الله عنه ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليضلل أعين الأعداء ومن جهة أخرى ليرد الودائع لأصحابها.
هـ- عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام على إثر أقدام النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ليمحوها حتى لا يهتدي أعداؤه إلى الغار.
و- أسماء بنت أبي بكر تزود النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبة بالطعام وغير ذلك من الأسباب التي اتخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته المباركة.
٣- عفة الدعاة إلى الإسلام ونزاهتهم وترفعهم عما في أيدي الناس حيث إن الراحلة التي جهزها الصديق أبو بكر – رضي الله عنه لم يقبلها الني – صلي الله عليه وآله وسلم إلا بثمنها وهذا درس عظيم للدعاة لأن هناك فرقاٍ كبيراٍ بين من يبلغ رسالة الله ولا يخشى بطشهم فعلى الدعاة أن يعوا هذا الدرس جيداٍ “الراحلة بثمنها” ولذلك ورد على ألسنة الأنبياء في القرآن الكريم “وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين”.
كما أن هناك فرقاٍ عظيماٍ بين خدمة الدين واستخدام الدين فكم من الدعاة استخدم الدعوة للتكسب وحققوا ثراء فاحشاٍ وامتلكوا القصور وركبوا السيارات الفارهة ومع ذلك يقولون الدنيا جيفة وطلابها كلاب وكأنهم لم يطلبوا من الدنيا شيئاٍ.
4- عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وحفظه إياه فالخطة التي اتفق عليها المشركون في دار الندوة أن يأخذوا من كل قبيلة شابا قويا ويعطوه سيفا صارما ويذهبوا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويضربوه ضربة رجل واحد ويتفرق دمه بين القبائل فلا يقوى بنو عبد مناف على المطالبة بدمه فيرضون بالدية فيعطوها لهم.. هذه الخطة فشلت ولكنها لم تفشل لعيب فيها فهي خطة محكمة ولكنها فشلت لأن الله يعصم رسوله من الناس (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
5- ثقة أعداء النبي صلى الله عليه وسلم في أمانته فرغم أنهم وجهوا إليه الكثير من الاتهامات وكذبوه وناصبوه العداء كانوا يضعون عنده أماناتهم وودائعهم ولم يثقوا في ذويهم ولذلك كلف النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد الودائع لأصحابها ولذلك أيضا قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) أي أن تكذيبهم لك تكذيب ظاهري فقط فهم يعلمون إنك أصدق الناس ولذلك استمروا في وضع اماناتهم وودائعهم عندك حتى بعد بعثتك وبعد أن دعوتهم إلى ما يخالف عقائدهم.
6- ولعل من أهم الدروس المستفادة مشاركة المرأة في الهجرة النبوية المباركة فهاهي عائشة رضي الله عنها تحفظ القصة وتبلغها للامة وهاهي أسماء بنت أبي بكر تعد الطعام للنبي وصاحبه وتذهب به إليهما وهاهي أم سلمة هند بنت أبي أمية هي وزوجها عبدالله بن عبدالأسد المخزومي وطفلهما سلمة ويعترضهم قومها ويقولون له: والله لانتركك تذهب بصاحبتنا في البلاد وتنازعا الطفل حتى خلعت ذراعه وهاجر أبوسلمة وحده ثم لحقت به أم سلمة بعد عام مكثت كل يوم تخرج إلى مكان يسمى الأبطح وتبكي حتى رق لها بعض بني قومها وقال لهم: ألا ترحموا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين زوجها وولده فأذنوا لها بالهجرة فخرجت مهاجرة إلى الله ورسوله ومعها طفلها فلقيها عثمان بن طلحة فقال لها: إلى أين يا بنت أبي أمية فقصت عليه قصتها وأخبرته بحقيقة الخبر وكان عثمان بن طلحة على شركه ومع ذلك قال لها والله مالك من مترك وسافر معها عشرة أيام بلياليهن حتى ألحقها بزوجها في ديار عمرو بن عوف قرب المدينة وكان مثالا للأمانة حتى قالت في شأنه أم سلمة رضي الله عنه: (والله مارأيت أكرم خلقا من عثمان بن طلحة).
هذا وقد أسلم عثمان بن طلحة في عام القضاء العام السابع للهجرة وأسلم معه في نفس اليوم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أجمعين والحمدلله رب العالمين.
● نائب رئيس بعثة الأزهر الشريف في اليمن
قد يعجبك ايضا