جمعة رجب بين التحوّل وتشكُّل الهوية
عبدالرحمن مراد
كانت اليمن في حقب تاريخها المختلفة التي سبقت عصر الدعوة المحمدية على صلة كاملة بتعاليم السماء وهي تتصل بالأنبياء منذ بدأت رسالات السماء تتنزل على البشر عبر الرسل والأنبياء، بدءا من “هود” الذي شكل حلقة الاتصال والتواصل مع السماء ومرورا بجل الأنبياء والرسل الذين تحدث عنهم التاريخ والذين غفل عنهم فعلاقة أهل اليمن بتعاليم السماء وبالهدى علاقة ذات عمق تأريخي.
لذلك آمن أهل اليمن بجل الرسالات السماوية التي كان لها أثر في التحول والتبدل في حياة البشر في التاريخ القديم كالزبورية والتوراتية والانجيلية، وقد تركت تلك الثقافات أثرا في وجدان أهل اليمن وكانت تمهيدا لذلك التدفق الجماهيري الكبير الذي شهدته المدينة المنورة في عهد الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام حتى تعالت أصوات التكبير والاستبشار على محياه الكريم وهو يشهد دخول أهل اليمن في دين الله أفواجا .
كانت اليمن قد شهدت صراعا قبل البعثة بين النصرانية واليهودية وهو صراع مرير ودامٍ، وقد ترك ذلك الصراع حركة انقسامات واسعة في بنية الدولة وأثرا على مركزيتها الاقتصادية والسياسية والثقافية , إذ تحولت الدولة إلى شظايا تتنازعها الولاءات، فَدَبَّ الضعف في جسد الدولة وسادها الاحباش ثم جاء الفرس فبسطوا نفوذهم عليها , ولم تكن اليمن تعني الحضارة الفارسية ولا الدولة الفارسية في شيء ولذلك كانت فارس زاهدة فيها كل الزهد ذلك أن لا المصلحة السياسية ولا الاقتصادية محققة لها في اليمن , نظرا لبعد المسافة بين الحضارتين اليمنية والفارسية .
حين جاء الإسلام كانت اليمن قد تجزأت هويتها الثقافية بين المجوسية واليهودية والنصرانية والوثنية , وانهارت دولتها المركزية , وانكفأ الاقيال على بعضهم ومنهم من تنازعته الجغرافيا حيث تعددت الهجرات بعد انهيار الدولة إلى عُمَّان والعراق والشام وصعيد مصر والى مناطق الشمال ويثرب وغير تلك المناطق .
وحين جاء الإمام علي- عليه السلام- إلى اليمن كوفد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدعوة أهل اليمن إلى الإسلام استجاب الناس له زرافات ووحدانا ودخل الناس في دين الله أفواجا، فقد كان الإسلام يشكل حالة جامعة لهم تلمّ شتاتهم وهو يتسق مع الأحوال العقائدية والثقافية التي كانوا عليها من قبل , ولذلك رأى أهل اليمن في الإسلام كحامل حقيقي لماضيهم الحضاري والثقافي فسارعوا إلى اليقين به والجهاد في سبيل إعلاء كلمة التوحيد والهدى المحمدي فحملوا الرايات وجابوا الأرض شرقا وغربا ووصلت رايات الإسلام إلى مشارف فرنسا على يد قادة من خيار أقيال اليمن وجنود هم خير الأجناد فاتسعت رقعة الإسلام .
شكل أهل اليمن الدرع الواقي لبيضة الدين فقد نصروا وآزروا وجاهدوا وكابدوا في سبيل الإسلام كل المكابدة , وكانت لهم مواقف كبيرة ذات أثر في الوقوف إلى جانب أهل البيت حين تكالبت عليهم قريش واستأثرت بالأمر دونهم , وبالغت في التنكيل والتهجير والمضايقة والسب واللعن على منابر المساجد , وقد شهدت حقبة معاوية وآل مروان مواقف لأهل اليمن تحدثت عنها كتب الأخبار والأدب ومنها قصة سودة بنت الاشتر الهمدانية التي لم يمنعها طغيان معاوية من قول الحق وهي تمثل بين يديه يحيطها جبروته وسلطانه وتفخر بقومها وبمواقفهم مع الإمام علي في صراعه مع معاوية .
لم تكن وفادة الإمام علي عليه السلام على أهل اليمن حدثا عابرا بل كانت بداية لتأسيس حالة تبدل في المسار السياسي والثقافي والاجتماعي فقد ارتبط أهل اليمن بالإمام علي عليه السلام ارتباطا وجدانيا وارتباطا ثقافيا وظل ذلك سمة غالبة طبعت المراحل التاريخية التي شهدها اليمن منذ سنة 40 هجرية إلى اليوم بطابعها الخاص وتشكلت من خلال تلك العلاقة الثقافية والوجدانية هوية ذات اتساق وتناغم مع البعد الحضاري اليمني , فكانت الزيدية أو الهادوية هوية ثقافية وعقائدية يمنية خالصة تمتاز بخصوصية البعد الحضاري اليمني الذي أعاد إنتاج نفسه في مسارها الثقافي والسياسي والاجتماعي.
تشكلت تبعا لذلك الطقوس والعادات والتقاليد والمناسبات مثل “الغدير” و”جمعة رجب” و”المولد الشريف” وكل تلك المناسبات تداخلت مع البعد الحضاري والثقافي اليمني لتبدع كونا ثقافيا لا تكاد تجده في غير اليمن , فجمعة رجب عند أهل اليمن مناسبة كبيرة تحدث تبدلا رمزيا في البيوت والحارات والقرى وفي المساجد إذ يتجه الناس إلى تجديد فرش البيوت والمساجد ورشها بالطلاء الأبيض (النورة ).
ويشهد المجتمع حركة اجتماعية غير عادية احتفاء بالمناسبة وتقوم الأسر بذبح الذبائح وإطعام المساكين وتضوع رائحة البخور في الأماكن والساحات والمساجد ويتزاور الناس وتمنح العطايا للأطفال والفقراء , وتلك طقوس وعادات اجتماعية وثقافية قديمة ظلت تتناقلها الأجيال عبر الأزمنة وحقب التاريخ المختلفة , وهي تحمل رموزا وإشارات دالة على الحدث التحولي الذي شهدته اليمن بعد دخولها الإسلام وصلاتها أول جمعة في العهد الجديد .
ترك النشاط الثقافي الزيدي تراثا كبيرا بين ظهرانينا بعضه رأى النور والآخر ما زال ينتظر على رفوف المكتبات الخاصة والكثير حاربته التمزقات السياسية في حقب التاريخ المختلفة , وقد شهد القرن العشرين نشاطا للوهابية في شراء الكتب التي أبدعها العقل الثقافي الزيدي , ولم يكن الشراء للحفظ أو الطباعة بل للحرق وطمس الهوية الثقافية اليمنية.
ومنذ تحركت الدعوة الوهابية في القرن الثامن عشر ميلادي إلى اليوم الذي شهدنا فيه عدوانها على اليمن في القرن الواحد والعشرين , كانت الوهابية تسعى بكل جهد ومثابرة على طمس الهوية الثقافية الزيدية وتسعى في إحلال الهوية الوهابية ولكنها طوال ثلاثة قرون من الزمان ونيف فشلت في الوصول إلى الغايات التي كانت تتمناها رغم الإمكانات المالية المهولة والكبيرة التي كانت توظفها , ورغم كل الخطط والاستراتيجيات التي شهدتها الساحة اليمنية وكانت الوهابية كمؤسسة دينية وسياسية تقف وراءها .
شهدت القرون الماضية منذ نشأة الحركة الوهابية كحركة ثقافية واجتماعية وسياسية جدلا فكريا واسعا في اليمن وكان لها أتباع قادوا صراعا فكريا مريرا , وكان جل أولئك يضطر اللجوء إلى مكة والاعتصام بها في نهاية المطاف , ولعل دراسة تلك المراحل الزمنية كفيلة بكشف الغطاء عن حركة الاستهداف للهوية الثقافية اليمنية في سمتها المتناغمة مع البعد الحضاري اليمني وهو الأمر الذي كان يقلق النظام السياسي الوهابي الذي كان يؤمن حد اليقين المطلق أن بقاء الوهابية كنظام سياسي رهن بحالة اليمن من حيث الاستقرار من عدمه , وكان آل سعود يتواصون بالقول “بقاؤكم في عدم استقرار اليمن” وذلك أمر مشهود ومثبت لا جدال ولا مراء فيه .
لم يكن آل سعود وفق كل الوثائق التاريخية والمذكرات التي خرجت من تحت أسنان المطابع للقوى الاستعمارية يملكون من الأمر شيئا – كما تحدثت مذكرات المخبرين – بل كانوا أتباعا خانعين مطيعين للمستعمر البريطاني , ولذلك فالبعد الاستراتيجي والجيوسياسي كان يدركه المستعمر البريطاني وقد أوحى به إلى عملائه حتى تستمر مصالحه في التدفق , وهو يدرك أثر الهوية الثقافية الزيدية في الحد منه أو القضاء عليه , ولذلك لم يكن العدوان إلا حلقة خاتمة لسلسلة طويلة من التآمر على الهوية الثقافية الإيمانية التي يمتاز به أهل اليمن .