الغربي عمران
يفاجئنا الدكتور أحمد السري أستاذ التاريخ في جامعة صنعاء.. بمجموعة من الاصدارات التاريخية والفكرية التي تصدر في وقت واحد، وبذلك يثير التساؤل: لماذا هذا العدد دفعة واحدة؟. فالعادة أن يصدر للباحث أو المبدع كتاب فينة، لا زخة واحدة، لماذا دفعة واحدة؟. وهل ننتظر اصدارات أخرى مماثلة؟.
المفاجأة الثانية أن بين تلك الإصدارات رواية بعنوان “الظل والعاشقة”، فهل هي ظاهرة أن يتحول الأكاديمي إلى مبدع؟ فقد سبق وأن أصدرت الدكتورة آمنة يوسف روايتها الأولى.. ثم عبدالله معمر الحكيمي.. الذي له أكثر من عمل سردي. فكم نتمنى أن لا تقتصر إصدارتهم الروائية على عمل أو اثنين.
من يقرأ “الظل والعاشقة” سيدهش للغتها الباذخة.. إضافة إلى تطعيمها بمفردات اللهجة اليمنية.. وبالذات في المسميات. مثل: شتني.. معلامة.. مقرمة.. مشقر.. جلجلان.. سحاوق.. كدر.. وزف….
الرواية تقع في 288 صفحة.. صادرة عن دار يسطرون.. في القاهرة.. مع الأشهر الأخيرة من العام المنصرم، رواية مختلفة من حيث فكرتها.. فمحورها يدور حول امرأة “شجون” تجاوزت الأربعين من عمرها.. يمسها جنون العشق.. حيث تغرم بخضري يصغرها بخمس عشرة سنة.. شجون متزوجة من رجل حليم ومحب.. شجون جدة أيضاً، بعد ذلك لا تنفك المفارقات الصادمة أن تتوالى.. فشجون لا تخفي عشقها لسليمان البائع الجائل بين القرى على ظهر حماره “أكثم”، وشجون من تصارح زوجها بما يعتمل في فؤادها.. وهي من تناقش صديقاتها عن حالها.. وتحاور عمها عن نار شبت في فؤادها.
لكنها رغم ذلك لم تنقد لنيران عشقها المستعرة لسليمان.. ولم تخن زوجها.. بل ظلت تشرح له معاناتها.. طالبة منه الطلاق والحرية كي تتزوج ممن تحب، وعلى غير العادة يتعاطف معها زوجها.. وكذلك عمها وصديقاتها.. بل ويعاملنها كما لو كانت مريضة. وهكذا ظل زوجها يتعلق بأمل أن تعود إلى صوابها.. أن تحافظ على أسرتها.
عمها يهديها كتاب “منطق الطير”، ناصحا إياها أن تقرأ حكاية الحاج صنعان.. ذلك الشيخ الذي ذاب عشقا بفتاة رومية، زوجها بدوره يطلب منها أن ترافقه للشجرة المباركة.. شجرة الغريب في أرض الغمام، ليتبركا بظلها.. على أمل شفائها مما تعانيه.
ويأتي اليوم الذي يصعد لقمان بزوجته أشجان باتجاه جبل الظل حيث شجرة الغريب.. وما أن يخالط الزوار حتى يسمع أحدهم يتحدث عن حكاية حول امرأة متزوجة سحرت رجلاً متزوجاً.. وأن ذلك الزوج ترك أولاده يهيم حبا خلف الساحرة، يحكي لشجون عما سمع.. لتعرف أن ذلك الرجل ما هو إلى حبيبها سليمان.. وأن تلك المرأة الساحرة ما هي إلا هي.
وإلى ظل الشجرة المباركة تذهب برفقة جمع من النساء.. وهناك تقابل الشيخ عبدالحميد الصبري.. ليدور بينهما حوار حول استجابة الله للدعاء وحول أمور كثيرة ذات صلة بالتبرك واللجوء إلى الله، إلى أن تحكي له عن عشق صديقة لها لرجل متزوج يصغرها بسنوات.. وأن تلك الصديقة متزوجة.. وأنها طلبت الطلاق من زوجها لتلحق بحبيبها، وهنا تسمع منه الكثير. ثم يأتي حوار آخر بينها وبين شيخ يدعى بالأزهري، ويدور النقاش كثيرا.. لكنها ظلت على تعلقها بعشق سليمان.
ليلحظ القارئ، أن بين أولئك الذين صعدوا للتبرك بظل الشجرة المهندس وخريجي الجامعات.. ومن يعملون في دوائر الدولة.. هنا تصل رسالة الرواية إلى أن المجتمع لم يتغير في شيء.. وأن المزارات لا زالت في وجدان معظم أفراد المجتمع، لها مكانة مقدسة.. وأن الخرافة والغيبيات تسيطر على الوعي الجمعي.
السري يجول بالقارئ بين مسميات مناطق شاسعة تخيل بعضها.. وبعضها مواطن حقيقية يعيش فيها الإنسان اليمني.. فالمتخيل مثل: أرض الغمام.. جبل الظل.. وادي المروج.. مدينة الساقية.. مدينة الطيار.. نقيل دقدق.. وغيرها من المسميات المتخيلة، ثم تأتي: شجرة الغريب.. عدن.. تعز.. النشمة.. الحجرية.. ومناطق ومدن أخرى معروفة.
فالكاتب يغوص عبر سارد عليم في أعماق روح الإنسان اليمني.. من حيث تلك العوالم الريفية في محافظة تعز، وبالتحديد في أرض الغمام، وبالطبع الغمام دوما يكلل قمم الجبال المرتفعة بذراته ولونه القطني.. ما يدل على أن مجتمع الرواية مجتمع جبلي زراعي.
وعبر تلك الأسماء بدلالاتها التي تقود عقل القارئ للتخيل، حول ما يبطنه المعنى، ولم يكتنفه المغزى. ولم يكتف السري بأسماء الأمكنة ورمزياتها.. بل ذهب إلى استخدام أسماء الشخصيات.. ليدلل بها ..مثل: لقمان.. شجون.. سليمان.. الهدار.. تقية.. غيداء.. أشرف.. أسماء.. الصبري.. الازهري.. مهيوب.. اكرم.. زينب.. رقية.. وجميل عبدالرب صاحب فكرة ترويج ظل شجرة الغريب وبركاتها كموقع سياحي.
الرواية غرائبية.. إذ أن عشق امرأة بعد أن أمست جدة أمر نادر الحدوث.. وأن تبوح لزوجها وأيضا لعمها بما تعانيه من لوعة.. هي فكرة انتقاها الكاتب بعناية لمحور روايته.. كما هي الثيمة الأولى بعد المحور.. الخرافة وشيوعها في أوساط المجتمع.. إضافة إلى عدة ثيمات اجتماعية ناقشتها الرواية.
واللافت أن شجون محاورة، كما تمتلك جرأة وسط مجتمع ريفي.. ولنعرف مصدر ذلك.. فهي من مواليد عدن وقد درست في مدارسها.. ثم لها من الأعمام من سلكوا في طرق التصوف.. ولذلك كثيرا ما كان حوارها مع زوجها جريئاً.. ومع الشيخ الصبري ثم الأزهري ممتعاً.. ثم نعرف أن جميع من حاوروها لم يثنوها عن قرارها.. حتى كشف لها زوجها سبب صبره عليها وتمسكه بها.. بوصية خطها والدها.. يوصي فيها لقمان بحماية شجون والصبر عليها.. الوصية التي أخرجها بعد أن أعياه صبره عليها.. تلك الوصية التي أجابت على كثير من تساؤلاتها حول ما يتحلى به زوجها من صبر على عنادها .
لتهجر شجون بعد معرفة فحوى تلك الوصية عشقها لسليمان الخضري.. كما تتمرد على حب زوجها.. وتعيش بعيدا عن طرفي الحب والعشق.. وبذلك يختتم الكاتب روايته بمفارقة هي الأخرى عجيبة.
الرواية ثرية بالتفاصيل الصغيرة حول البيئة والعلاقات الاجتماعية.. وحول مدى سيطرة الخرافة والمعتقدات المضللة على المجتمع.. كما تطفو بالقارئ على تيارات الحكي البطيء.. والوصف الشفيف.. لأحوال الشخصيات.. وللطبيعة الساحرة، تلك الحكاية التي نسجها الكاتب بتأنٍ وحب وصبر.. ليقدمها للقارئ بدلالاتها ورموزها المتعددة وإيحاءاتها المبهمة.
ننتظر الجديد روائيا من مؤرخ ذي مكانة أكاديمية، ورصيد علمي مشرف، بعد ميلاد روايته الأولى.