سمر عبدالباقي الرميمة
الفنان عبد الباسط العبسي صوت الأرض والإنسان ولسان حال المرأة الذي صدح به مغرِّدا بأسلوبه المغلَّف بالمحبة والشجي والشجن .. فعندما يختار كلماته فهو لا يختارها اعتباطا أو بشكل عشوائي أو لمجرد إعجابه بالوزن الموسيقى وإنما عن فكرة مبتكرة ودراية وفهم ،فهو الإنسان المثقف والفنان المبتكر ..
أغاني الفنان عبد الباسط عبسي تناولت المرأة في جوانب عدة ، كما تناولت مكانتها الاجتماعية .
فأخذها من كل زوايا حياتها ، وتناولها بكل تقاليد معيشتها .
فتحدث عنها فلاحة الحقول ، وذارية ً تزرع بسمتها فتنبت المحاجين والسبول .
في أغنية ( الذارية والحمام ) ( السبولة ) ( باكر ذري ) ( الليل وابلبل دنى ) ( فوق الروض ) ( سيل الحب ) ( واقمري غرد )
ثم صورها في معاناتها في إحضار الماء من الوديان ومرافقتها لجرة الماء..
( ساجي العيون بكَّر مخف ظمئان )
(متحمل الجرة يدغنج الدان )
في أغنية( ساجي العيون ) ( يا خضبان وردك ) ; ثم تحدث عنها حين كانت هي الراعية التي لم تكن تخطـر إلا عـلى بال أغنـامهـا في متنفس الـوادي ، وفي مسـارح غزلان الجبـال بأغنية ( واراعـيــة ) و ( متى واراعية شمطر )
ثم تحدث عنها حين كانت هي المحبوبة التي تشغل باله بأغنية ( حسنك لعب بالعقول )
( من الضحى ) ( هاتوا لقلبي )
( نفسي الظمآن ) ( المعذب )
( يا حب يا ضوء القلوب )..
والأغنيات في هذه المرحلة كثيرة ، والمعاني في هذا الوصف غزيرة .
كما أعلن الجهاد لتحرير البنت من تعسف طمع الآباء بالمهور بأغنية( وقالت البنت )..
ثم تناولها وهي عروس بأسلوب الشجن العرائسي ، فأجلسها على عرش قلب حبيبها ووضع في يديهما الحناء بأغنية ( عروستك ضوءها ضوء القمر ) ( وليلة هنا ) و ( الليلة من ألف ليلة )..
ثـم تحدث عنها زوجةً تشارك زوجها الغربة ، وتقاسمه رصيد الضجر والكربة بأغنية( مسعود هجر ) وأغنية ( الحمامة ) ( شرسل معك وامكتب) (مظلوم معك ) وغيرها .
المـحـور الثاني :
الكثير من الشعراء والفنانين تناولوا المرأة ولكن ربما كان تناولهم لها في جانب واحد وهو التغزل في محاسنها ..
إلا أن الفنان عبد الباسط العبسي تغنى مخلص الأشجان بالمرأة فبدت في أغانيه كأنها قطب الرحى التي تدور عليها عجلة الحياة البسيطة في المجتمع الريفي الذي كان يفتقد رجل المهجر .
شرح في أغنيته تفاصيل حياة المرأة الريفية ،البنت التي تنظر إلى الحياة بنكهة البن وتتحشم بمبسم الفجر .
عروق الورد مستني رعودك
حنينك يا مسقي الزرع بيدك
غصون البان تتمنى خدودك
برودك من حمى الدنيا برودك
برزت معاناة المرأة في أغنيته كأهم المحاور وكأن أغنيته كانت وكيلا لها في مراحل حياتها ضد التعسف الذي نتعرض له في البيت من الذكور ، ومعاناتها في الحياة من الناس .
المرأة في أريافنا ليست راعية الأغنام التي تلملم ضوء الشمس وتكنز حرها فحسب ما تغنى به فناننا:
قوتي القليل من الشقا مع الناس
البسل أكل وجهي وشيب الرأس
ولكنها راعية الكواكب والنجوم في سهر الليل بقولها:
حرام ما ليلة رأيت النوم في عيني دخل
ليلة ورى ليلة سهر والسقف شاهد والجبل ..
البيت الذي أخرج البنت إلى الجبال والأودية لرعي الأغنام أهلها لرسالة عظيمة دون أن تشعر .
فرعي الأغنام مدرسة الرسل ( فما من نبي إلا رعى الأغنام ) لترعى بعدها قلب زوجها وأبنائها وأسرتها وأفراد مجتمعها .
فتمكنت البنت في هذا المجال من فهم منطق الأغنام وعشقت العشب ، وتغزلت بالتراب .
الراعية والحمام يغازلين التراب
يروين أحلامهن بالفجر بين الضباب.
وأكبر من هذا وذاك أن تكون الراعية التي حملت هم أغنامها هي المنادى عند شحة المورد ، وشظف العيش ، وقلة ذات اليد لصفاء قلبها ، وعظيم حبها..
واراعية أعمى الجفاف بلادي
الحب زلج ومات ظما جوادي
ودمع المحبوب ،،، والمعادي
وراح مقتول الهوى ،،، فؤادي
هذا نداء المجتمع لتلك الراعية شعثاء الجبال ،فما أعذب أن تكون الراعية قِبَلة الآمال ،تشعر أن في ابتسامتها الغيث ، وفي دمعتها النهر .
واراعية دهري زلج بواطل
من الغلا والجوع والمشاكل
البير نزف وجفت السوائل
ودمع عيني عا الخدود سائل
ومن يستطيع أن يعيش بكل عواطفه مع الأغنام يمكنه أن يتعامل بكل أحاسيسه مع الناس .
قال أحدهم : لا أ زال أذكر المرأة الراعية التي بلغ من تجانسها مع أغنامها أنها إن جلست لتستظل جلست الأغنام معها وإن قامت قامت معها الأغنام .
وذات يوم ذهبت لزيارة أهلها في قرية بعيدة وأثناء غيابها إذا بغنمة من الأغنام تحتضر، وصاحبتها غائبة , فظلت الغنمة تنازع روحها في سكرات الموت من الصباح حتى عادت صاحبتها مغرب الشمس ، وحين سمعت صوت صاحبتها رفعت الغنمة رأسها ونظرت إليها ثم فاضت روحها ,فبكت المرأة بأحر من فقد أم ابنها .
فهكذا ستتخرج كل فتاة من هذه المدرسة بجُملة من العواطف ، وكتلة من المسؤولية لتشارك في قيادة المجتمعات .
المحور الثالث :
انتقلت المرأة في أغاني الفنان العبسي من الحياة مع الأغنام إلى حياة الزوجية فاستوت على أريكة قلب حبيبها بشحوب وجهها الذي تمرغت في خضرته الشموس ، في ليلة من خيرة الليالي:
ليلة هنا من خيرة الليالي
ذقت المنى والقلب فيها سالي
يا ليلة طولي سهري الكواكب
وشاركينا ،،، فرحة الحبايب
لكن سعادتها التي لا تكاد تكتمل باللقاء توشك أن تنقطع بالفراق:
من قلة المصروف وكثرة الدين
بكَّر مسافر ،، فجر يوم الاثنين
يوم الوداع سلَّم وقال ،، مودع
لا تحزني ششقي سنة وشرجع
فتعود المرأة في أغنية العبسي إلى الوحدة من جديد ، وتحمل تبعات الحياة كلها وكأنها هي كيان البيت الوحيد .
كان الزوج يضطر إلى الهجرة ليموت غريباً ، أو ليعود برصيد كاف ٍ من الاغتراب .
فكان الرجل ربما إذا لم يغترب العمر كله عاد ليتحدث عن غربته العمر كله , فيعيش مغتربا حتى وهو في بيته .
فكانت المرأة التي منعها الأدب والتقاليد تعمد إلى بث أشجانها بالملالاة وفيها من عذوبة الأدب وبديع الشعر ما فيها .
وانحصرت الملالاة على المرأة فقط ،لذلك كانت تختصر كل معاناتها في بيت واحد من شعر الملالاة نظراً لقيود المجتمع..
وهو ما وجدناه في أغنية ( مسعود هجر ) فكل بيت من هذه القصيدة يحمل قصيدة كاملة من الهجر ، وأغنية متكاملة من الحرمان .
واعمتي من شيقول لمسعود
في عامنا الأول رزقنا مولود
فتلد الزوجة طفلها وزوجها غائب ويكبر محمد الابن وزوجها غائب .
ترك لها نفسه في نفس صغيره فكانت تشتاقه في ضحكة ولدها ، وتحترق له في بكائه .
أحرقتني ،،، لا تبكي يا محمد
أبوك نسى الحنا وحمرة الخد
وانا الوفا لحدي والموت يشهد
حرقتها تجعلها لا تعفو وبصرامة تقول :
وصيتي يا بني تكون شهادة
بأن أبوك أحرمني السعادة
ولطفها من ناحية أخرى يجعلها تعفو وتسامح وتصفح الصفح الجميل فتغالب حزنها وتلتمس زوجها الغائب بكل عذر وتعذره بكل الوفاء فتقول :
لكن مسامح قد يكون معذور
وربما هو الأخير ،،، مقبور
حين حملت هذه القصيدة شطر الحزن حمل لحنها للحزن شطره الآخر .
أغاني العبسي تقص علينا من أنباء المرأة الدمع ، وتحكي لنا من حياتها الاحتراق .
هذه المعاناة التي ينفطر لها القلب وتعجز أن تخطها الكلمات ، ولا يقوى أن يحملها الصوت.. لا أدري كيف كتبها شاعرنا الصريمي ، وكيف غناها فناننا العبسي وبأي حبر وبأي أوتار ..
حين تستجدي المرأة زوجها الذي يريد أن يهاجر بدمعها الذي يستحلفه أن يبقى .
وكأن حياتها قاب قوسين بين اللقاء الذي لم يكن وبين الفراق الذي لم يزل:
أين شتسافر واعندايب
تذر شبابك ،،، ورونقه
لا تغترب دمعي السحيق
شلعب بخدي وشحرقوه
واقمري غرد ما عليك من هم
خلك معك وانت بقربه تنعم
مش مثلي اتجرع كؤوس علقم
سقيم بحالي بسم ربي اعلم
فتعيش الحلم الأجمل من تحقيقه وهي تتغنى:
يوم السلا يا قمري يوم وصوله
شواجهه بالفل شكيد عذوله
حتى الطريق بالورد شفرشه له
واطعموه بيدي جهيش سبوله
كانت المرأة الريفية في أغنية العبسي بجمالها الطبيعي الآسر ، وبعاطفتها الجياشة تتزين بالانتظار،وتكتحل بالصبر فتنتظر عودة الربيع بكل الشتاء ليعود حبيبها فيطل ربيعها ويخضَّر عودها فتقول:
أرى الربيع يعود من غيابُه
وكل شي يعود له ،، شبابُه
إلا أنا ،، قلبي أسير عذابه
يشكي الفراق ولا احد درا به
ولكنها ربما من بساطتها لم تكن تدرك أنها هي ربيع الربيع متى سيأتي على الربيع ربيع ؟
ارتبطت بالحقل برابطة رائحة التراب المقدس:
..ترابه
واشوف ما به
واعيد شبابه
أنا ،، وخلي
فترى الزرع يتفيء بنسماتها وترى السبول إن لم تكن معانقة لها كانت مصافحة لها .
فتحمل هم الزرع غصناُ غصنا فتقول في شكواها للبلبل:
وابليبل والصراب
دق بيده كل باب
والغواني في عذاب
تدعي وارب من لنا
الرجال أنوو الرحيل
وذلك أن الدولة كانت تطالبهم بزكاة الزرع من غلول الأرض فيكبر على زوجها الفلاح أن يخرج الحب نظراً لقيمته المعنوية بالنسبة لهما , فيترك زوجته في الحقل ويسافر إلى عدن ليعمل في أي عمل فيعود ليدفع للدولة بدل الحب مالا .
وأثناء غربته القصيرة تعاني الزوجة من العمل في الحقل بمفردها فتقول :
الرفافيح في يدي
والجراح في ساعدي
وانا اشارح موعدي
والبلاد ضاقت بنا
ما بقى غير الرحيل
أغاني العبسي في مجموعها ذات رسالة عاطفية اجتماعية للمرأة ولا بد أن يكون لها عظيم الأثر في حياتها .
وحسبها أنها وجدت في أغانيه المتنفس الذي تبث بسماعها لهن مكتوم شجنها ، ومكنون حزنها .
وأعظم من هذا , الرسالة التي حملتها أغنية ( أمر الكؤوس) إلى كل أب ٍ ظلم ابنته بتكفينها بالذهب وتحنيطها بالمال , فحرَّمها ظلما على من تحب وأحلها كرها لمن تكره , فباحت البنت بأنفاس ٍ أحر من الجمر ، وبثت هموما أمرَّ من الصبر..
وقالت البنت :
انا يا مه ظلمني أبي واهدر شبابي
لشيبه ألا بالذهب فاز بي
واني بقلبي عصافير الهوى تختبي
تشتاق روضة صبا جنة صبية وصبي
لو كان أدرك أب أنه بتزويجه ابنته كرها أنه إنما يشرد من مهجة ابنته كل العصافير ، ويعتدي على أعشاشها في قلب ابنته بالجنابي لما فعل ذلك .
هذه الأغنية غيَّرت مسار بعض عادات المجتمع التي سلبت البنت رونق حياتها مع فارس أحلامها .
وليس بقليل ما أحدثته أغنية ( مسعود هجر ) التي أعادت كل مفارق إلى محبوبه .
وأغنية ( مظلوم معك ) التي حننت القلوب ، وعاتبت الأفئدة..
ومادامت في أغنيات العبسي الصادقة المعنى رسالة الصدق فلن ينتج عنها سوى الأثر الإيجابي الذي تحدثنا عنه .
ومن هناك كانت الرسالة الفنية الهادفة التي قدمها الفنان العبسي نصرة للمرأة بجرأة واقتدار وأسلوب محنك ..
ومن هنا يجب أن يواصل الكتَّاب والفنانون الشباب حمل هذه الرسالة المقدسة بنفس الهمة بأساليب عصرية ومبتكرة , فقضايا المرأة كبيرة وفصولها متشعبة ولا حد لمعاناتها ..